صفحة الكاتب : محمد الرصافي المقداد

رونق شهر رمضان في بلاد الشّام
محمد الرصافي المقداد

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

إنّ لبلاد الشام تقاليدها الإسلامية التي تميّزت بها منذ زمن بعيد، في مناسباتها وأعيادها الدينية، ويأتي شهر رمضان الكريم في مقدّمتها، نظرا لقدسيته في نفوس أهلها، من حيث كونه شهر عبادة وتطوّع بالخير، فرض الله صيامه على كل مسلم بالغ قادر، فكما في دمشق وبقية المحافظات السورية، من الجنوب إلى الشمال، ومن البادية إلى الساحل، تتهيأ الأسر السورية المسلمة لإستقبال الشهر، قبل استهلال دخوله، فتقوم بتحضير ما تحتاجه من موادّ غذائية، قابلة للخزن خلال الشهر، من الأسواق المنتشرة بالعاصمة دمشق، التي تكثر فيها الحركة، وتكتضّ بالناس قبل حلول الشهر وخلاله.

يختلف التعاطي مع شعر رمضان في دمشق، عمّا كان عليه قديما، فزخم التعامل معه بقدسية وإيمان عميق، بأنه فسحة إيمانية، وفرصة منحها الله لعباده، حتى يستدركوا فيه ما فاتهم من تقصير في غيره من شهور السنة، فمن الناحية الإجتماعية تتكثّف زيارات الأهل والأقارب، لتقديم التهاني والتعبير عن الرضا والفرح بقدوم شهر الله، حيث يستضيف عميد العائلة أو شيخ العشيرة من يكونون تحت ولايته، للإفطار عنده في بيته، ثم يأتي دور الأكبر قدرا ومكانة اجتماعية من بعده ليقوم بالضيافة.

من طريف القول هنا: أن أهل الشام كانوا يطلقون على العشر الأوائل من شهر رمضان بعشرة (المَرَقْ)، في كناية عن الطعام ومستلزماته، وتخزينها للشهر دون بقية أيام السنة، وفي العشر الثانية بعشرة (الخِرَقْ)، ويخصصونها لشراء ملابس العيد، ومستلزماتها لأفراد العائلة، أمّا العشر الثانية فيسمونها (صرّ الورقْ)، ومن تسميتها إشارة لطيفة إلى إعداد النسوة مختلف أنواع حلويات العيد، خصوصا المعمول المحشو بالجوز أو الفستق الحلبي(1)

يشتدّ التزام الناس في شهر رمضان على المساجد ودور العبادة، كالزوايا والمقامات، وهي عادة ما تزال مستمرة إلى اليوم في بلاد الشام، فيتقاطرون من كل حدب وصوب نحو المساجد، وخصوصا المسجد الأموي، فيتحلّقون حول العلماء والأئمة والوعاظ(2) للإستماع إليهم فيما يطرحونه عليهم من محاضرات بالمناسبة، وإحياء لمناسبات هامة حدثت في شهر رمضان فجر الإسلام، وعادة ما تقام موائد الإفطار الجماعية، تزامنا مع صلاة المغرب، يتطوّع بها أهل البرّ والإحسان من التجّار والأغنياء للفقراء.

لا يختلف التعامل مع الشهر الفضيل في بقية المحافظات السورية، من حيث الإهتمام به والقيام فيه بما يعبرون عن حبّهم وإيمانهم، وليست المدن كالقرى والأرياف، ففي حماة على سبيل المثال (اعتاد سكانها في هذا الشهر، على تبادل أطباق الطعام والشراب المتعددة، بما يسمى (السّكْبة)، حيث تتميز مائدة رمضان عند أهل حماة، بأنواع الطعام الدسم، ويحرصون على إعداد شراب السوس، والخشاف، وشراب التوت الشامي، والبرتقال، والليمون، وشراب الورد، وتظهر في هذا الشهر الكريم الأسواق أنواع عديدة من الحلويات، ذات طابع حمويّ محض، يتفنن الحمويون بصنعها وتزيينها وتجميلها، بشكل يبعث في نفوس الصائمين الشهية على تناولها، منها حلاوة الجبن بأنواعها المختلفة، إضافة إلى (الهيلطية) و(الوربات)، حيث تدخل المنتجات الحيوانية كالسمن، والقشطة، والقريشة، والزبدة، في قوام معظم الحلويات الحموية، باعتبار حماة المصدر الأول لهذه المنتجات(..(3)

لم يتغيّر شيء من حرص واهتمام الشاميين خصوصا، والسوريين عموما بشهر رمضان احتفاء وتعهّدا، فلم تمنعهم الحرب الكونية العدوانية المسلطة عليهم - وقد تحالفت فيها القوى الغربية وعملاؤها - من استقبال الشهر الكريم كما كان يفعل أسلافهم، رغم الآلام والجراح التي خلّفها العدوان عليهم، وآثار الهدم والدمار التي لا تزال بادية على أحيائهم ومدنهم، حيث لم تسلم منطقة تقريبا من آثار القصف والتدمير، زيادة على كون قانون قيصر(4) هو حصار الجائر طبقته أمريكا على سوريا، يعرّض بالعقوبة على كل من يثبت تعامله مع النظام السوري، ومع تدهور قيمة الليرة السورية إلى مستويات دنيا، أثّر ذلك سلبا على المقدرة الشرائية للمواطن السوري، نظرا للغلاء المشط للأسعار، بما يفوق طاقته الشرائية بأضعاف مُضاعفة، ومع ذلك لم يستسلم أهل الشام لهذه النتائج، فقاوموها بصبر وصمود.

مع الضغوط الشديدة المسلطة على السوريين في هذه الظروف القاسية جدّا، فإن ذلك لم يمنعهم من بذل ما في استطاعتهم بذله، مما هو متوفر في أيديهم من رواتب وأموال، من أجل أن يكون رمضان في حياتهم عامل تكافل ودعم معنوي، يزيد من صبرهم وصمودهم في مواجهة أعدائهم المتربصين بهم، ومظاهر التكافل الإجتماعي بادية، معلنة تحديا لمن حاربهم، وعمل على سلبهم حريتهم وجودة عيشهم قبل 2011، أهل الشام دائما أوفياء لتقاليدهم، يجدّدونها بكل تلقائية، وهي عادات دلّت على أصالة هذا الشعب، ومدى إيمانه بدينه، ويبدو انشغال أفراده بعد انتهاء دوامهم الوظيفي، تلبية طلبات بيوتهم وشراء مستلزمات عيشهم من أسواق أحيائهم تعطي حركة نشطة لمدنهم.

يولي المسلمون في سوريا أهمّية بالغة في الالتحاق بالمساجد لأداء فرائضهم وحتى سننهم، وقد أبدع المسلمون في إيران بإقامة ختمات قرآنية في مساجدهم، ونقلوا هذه الطريقة إلى سوريا وتحديدا السيدة رقية، حيث تقام هذه الختمات بصورة جماعية، يتصدّرها قرّاء مشهورين، يفدون على سوريا للتلاوة بأصوات رائعة، ومتابعة الحضور بمصاحف موضوعة على ذمّتهم، وتزداد كثافة الحضور في ليالي القدر المباركة.

ما يميّز السوريين عموما تقاليدهم المعروفة، في زيارة الأهل والأصدقاء خلال سهرات شهر رمضان، فيأتون معهم بالحلويات والفواكه، تخفيفا لما سيقدمه المقصود بالزيارة، هناك تنفتح الشهية على المسامرة والحديث، مع تناول المشروبات والحلويات والفواكه، بلاد الشام عامرة بأهلها طيبة مباركة في أرضها، كريمة بعطائها وإيثارها وتضحيتها، تميزت بكثير من الخصال، ولها في رمضان تقاليد جميلة يصعب أن تنافسها فيه دولة أخرى، وعندما تلتقي في أنفك أنواع الرياحين، وفي أذنيك أصوات المؤذنين متميّزهم الشامي العريق، وطبابيل وأصوات المسحراتي وهي تنبّه الصائمين من نومهم للسحور، وبارتفاع أصوات المصلين على النبي صلى الله عليه وآله، متزامنة مع أصوات مصادح المآذن، في تناغم بديع رائع، فاعلم أنك بقسم من الأرض التي باركها حول بيت المقدس، وهي شام العز الإباء.

المراجع

1 – رمضان في سوريا بين الماضي والحاضر

رمضان في سوريا بين الماضي والحاضر.. "غربة وألم" (albawabhnews.com)

2 – رمضان بين الماضي والحاضر

رمضان بين الماضي والحاضر فى دمشق (elaph.com)

3 – طقوس رمضان في حماة .. بين الماضي والحاضر

https://alsori.net/?p=7997

4 – قانون قيصر

https://ar.wikipedia.org/wiki/


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


محمد الرصافي المقداد
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2023/03/30



كتابة تعليق لموضوع : رونق شهر رمضان في بلاد الشّام
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net