ما السرُّ في فاطمة المعصومة؟! في ذكرى ولادتها عليها السلام
الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
بسم الله الرحمن الرحيم
في ذكرى ولادة السيدة الجليلة فاطمة المعصومة عليها السلام، بنت الإمام الكاظم عليه السلام، يتأمل المؤمن في العُلقَة الخاصة التي تَتَكَوَّن بينها وبين المؤمنين..
ينشأ أطفال المؤمنين في جوارها، فنتلمَّسُ في قلوبهم رِقَّةً ومحبَّةً لها ولآل محمد عليهم السلام.
يجاورها الغريبُ المحبُّ شاباً أو كهلاً، فنرى أثَرَها فيه بَيِّناً جَليَّاً.
تتغيَّرُ قلوب المؤمنين بمجاوَرَتِها، تَرِقُّ وتَلينُ، يظهرُ عطفُ بعضهم على بعض، واجتماعهم على ولاية العترة الطاهرة.
ويجدُ الزائرُ العابرُ أُنساً في جوارِها، وتظهر عليه آثار رحمة الله وبركاته.
فما السرُّ في كلِّ ذلك؟
لقد اعتاد المؤمن على التأمُّل في كلمات المعصومين عليهم السلام لمعرفة بعض حقائق الأمور، ومِن ذلك ما ورد عن الإمام الرضا عليه السلام حول مكانتها وقبرها المبارك وزيارتها.
1. عندكم لنا قبر!
لقد نقل الشيخ المجلسي عن بعض كتب الزيارات حديثاً يرويه علي بن إبراهيم القمي عن أبيه عن سعد بن سعد الأشعري، وكلُّهم من الثقات أو الأجلاء.
ينقل سعد قول الإمام الرضا عليه الاسلام له:
يَا سَعْدُ، عِنْدَكُمْ لَنَا قَبْرٌ!
قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، قَبْرُ فَاطِمَةَ بِنْتِ مُوسَى (ع)؟
قَالَ: نَعَمْ، مَنْ زَارَهَا عَارِفاً بِحَقِّهَا فَلَهُ الجَنَّةُ!
فماذا تتضمَّن هذه العبارةُ العظيمة؟
2. المعصومة منسوبة لهم، فمن هم؟
يَا سَعْدُ، عِنْدَكُمْ لَنَا قَبْرٌ: هي كلمةٌ عظيمةٌ، فالقبرُ لهم عليهم السلام!
فمَن هم الذين تنتسب لهم هذه الطاهرة الجليلة؟
قال تعالى: ﴿إِنَّ الله اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى العالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَالله سَمِيعٌ عَلِيم﴾.
لقد اصطفى الله تعالى صفوةَ الخلق، وقرَّبهم منه وطهَّرَهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله من ذريَّة إبراهيم عليه السلام، لكنه صلى الله عليه وآله كان أفضل الخلق على الإطلاق، وثبت أنَّ الأنبياء بلغوا ما بلغوا بمعرفته ومعرفة آله الكرام.
عن الصادق عليه السلام: مَا تَنَبَّأَ نَبِيٌّ قَطُّ إِلَّا بِمَعْرِفَةِ حَقِّنَا، وَبِفَضْلِنَا عَمَّنْ سِوَانَا (بصائر الدرجات ج1 ص74).
وعن الباقر عليه السلام:
لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ إِلَّا وَقَدْ كَانُوا عَلَى مَا نَحْنُ عَلَيْهِ.. إِنَّ المَلَائِكَةَ فِي السَّمَاءِ هُمْ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْل الله تَعَالَى ﴿إِنَّ الله اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى العالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ﴾ (تفسير فرات ص79).
هذا شيءٌ من قَدرِ آل محمدٍ عليهم السلام، الذين تنتسبُ لهم هذه السيدة الجليلة الطاهرة، المعصومة عليها السلام، فهي عُنصرٌ شريفٌ كاملٌ من الذريَّة التي اصطفاها الله تعالى من خَلقه، وهي ممَّن عَظَّمَ الله قدرهم وشأنهم.
هي جزءٌ من منظومةُ السماء في الأرض، رأسُها وخيرُها محمدٌ صلى الله عليه وآله، والأئمة من بعده، ثم يتلوهم شيعتهم، وفي شيعتهم الأنبياء والمرسلون، والأولياء والصالحون، وعباد الله المكرمون.
عن النبي صلى الله عليه وآله:
الرَّوْحُ وَالرَّاحَةُ، وَالفَلَجُ وَالفَلَاحُ وَالنَّجَاحُ، وَالبَرَكَةُ وَالعَفْوُ، وَالعَافِيَةُ وَالمُعَافَاةُ، وَالبُشْرَى وَالنُّصْرَةُ، وَالرِّضَا وَالقُرْبُ وَالقَرَابَةُ، وَالنَّصْرُ وَالظَّفَرُ وَالتَّمْكِينُ، وَالسُّرُورُ وَالمَحَبَّةُ مِنَ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى مَنْ أَحَبَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ!
وَحَقٌّ عَلَيَّ أَنْ أُدْخِلَهُمْ فِي شَفَاعَتِي، وَحَقٌّ عَلَى رَبِّي أَنْ يَسْتَجِيبَ لِي فِيهِمْ.
وَهُمْ أَتْبَاعِي، وَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي!
جَرَى فِيَّ مَثَلُ إِبْرَاهِيمَ (ع)، وَفِي الأَوْصِيَاءِ مِنْ بَعْدِي، لِأَنِّي مِنْ إِبْرَاهِيمَ وَإِبْرَاهِيمُ مِنِّي، دِينُهُ دِينِي وَسُنَّتُهُ سُنَّتِي، وَأَنَا أَفْضَلُ مِنْهُ، وَفَضْلِي مِنْ فَضْلِهِ وَفَضْلُهُ مِنْ فَضْلِي، وَتَصْدِيقُ قَوْلِي قَوْلُ رَبِّي ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ (المحاسن ج1 ص152).
هكذا يصيرُ المؤمن منهم عليهم السلام، بفعله الصالح، وباتِّباع النبيِّ صلى الله عليه وآله..
3. زيارتها والجنة
إنَّ نيل الجنَّة بزيارتها عليها السلام يكشفُ عن عظيم مقامها، ويتَّضح ذلك جلياً فيما روي عن الصادق عليه السلام: مَنْ زَارَنَا فِي مَمَاتِنَا فَكَأَنَّمَا زَارَنَا فِي مَحْيَانَا (كتاب المزار للمفيد ص201).
فإنَّ زائرهم وزائر الأطايب من العترة يكون كمن زارهم حقاً في حياتهم، فلا عجب أن يأنس المؤمن بزيارتها ويشعر أنَّه في جنَّة الدُّنيا، ويطمئن قلبُه ببلوغ قبرها، والتوجُّه إلى الله بها، وقد قال رسول الله (ص): مَنْ زَارَنِي أَوْ زَارَ أَحَداً مِنْ ذُرِّيَّتِي زُرْتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ فَأَنْقَذْتُهُ مِنْ أَهْوَالِهَا (كامل الزيارات ص11).
وهي من الكمَّل من ذريَّته، فيكون النبيُّ صلى الله عليه وآله هو المنقذُ لمن زارها يوم الشدائد..
4. زيارتها مع معرفة حقها
إنَّ نيل الجنَّة بزيارتها مشروطٌ بمعرفة حقِّها (مَنْ زَارَهَا عَارِفاً بِحَقِّهَا فَلَهُ الجَنَّةُ).
فما هو هذا الحق؟!
إنَّ من معرفة حقِّها التصديقُ بما لها من الكرامة العظيمة عند الله تعالى، والإقرار بلزوم حبِّها ومودَّتها وحفظها.. وأنَّها من أهلِ بيتٍ طهَّرَهم الله تعالى، حينها تورِثُ زيارتها مع قليلٍ من المعرفة جناتٍ عرضها السماوات والأرض، لذا يقول المؤمن في زيارتها:
السَّلَامُ عَلَيْكِ، عَرَّفَ الله بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ فِي الجَنَّةِ، وَحَشَرَنَا فِي زُمْرَتِكُمْ وَأَوْرَدَنَا حَوْضَ نَبِيِّكُمْ.
ويقول:
أَسْأَلُ الله أَنْ يُرِيَنَا فِيكُمُ السُّرُورَ وَالفَرَجَ، وَأَنْ يَجْمَعَنَا وَإِيَّاكُمْ فِي زُمْرَةِ جَدِّكُمْ مُحَمَّدٍ (ص)، وَأَنْ لَا يَسْلُبَنَا مَعْرِفَتَكُمْ إِنَّهُ وَلِيٌّ قَدِيرٌ!
سلبُ المعرفة هذا يساوق سلبَ الإيمان، ولا يكون إلا بالإصرار على معصية الله تعالى، وركوب القبائح، والتجرؤ على الإله الجبار، حتى يوحي الله تعالى لملائكته برفع الأجنحة عن هذا العاصي، حينها: أَخَذَ فِي بُغْضِنَا أَهْلَ البَيْتِ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَنْهَتِكُ سِتْرُهُ فِي السَّمَاءِ وَسِتْرُهُ فِي الأَرْض! (الكافي ج2 ص280).
وأعظم المعاصي الإعراض عن العترة الطاهرة عمداً، فإنَّه يودي بصاحبه إلى بغضهم عليهم السلام، وهو باب الهلاك الأوسع.
5. زيارتها والشفاعة
يقول المؤمن في زيارتها عليها السلام: يَا فَاطِمَةُ اشْفَعِي لِي فِي الجَنَّةِ، فَإِنَّ لَكِ عِنْدَ الله شَأْناً مِنَ الشَّأْنِ.
إنَّ موجبات الشفاعة متعدِّدةٌ، وملاكها القُربُ من الله تعالى، إيماناً ومعرفةً وعملاً، وإذا ترقّى العبدُ في مدارج الكمال ارتفعت درجته وأعطي الشفاعة.
فإنَّ من أحيا بعض الليالي، أو صام بعض الأيام، أو قام ببعض الأعمال الخاصة، أعطاه الله منزلة الشفاعة للعصاة، بحيثُ يُشَفَّعُ في إخوانه المؤمنين.
بل ورد في بعض النصوص:
إِنَّ لِرَسُولِ الله (ص) الشَّفَاعَةَ فِي أُمَّتِهِ، وَلَنَا الشَّفَاعَةَ فِي شِيعَتِنَا، وَلِشِيعَتِنَا الشَّفَاعَةَ فِي أَهَالِيهِمْ.
وفيها:
وَإِنَّ المُؤْمِنَ لَيَشْفَعُ فِي مِثْلِ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ، فَإِنَّ المُؤْمِنَ لَيَشْفَعُ حَتَّى لِخَادِمِهِ وَيَقُولُ: يَا رَبِّ حَقُّ خِدْمَتِي كَانَ يَقِينِي الحَرَّ وَالبَرْد (تفسير القمي ج2 ص202).
ولكن لفاطمة المعصومة شأناً من الشأن، لا يضاهيه أحدٌ من المؤمنين، حيث روي عن الصادق عليه السلام قوله عنها: وَتدخل بِشَفَاعَتِهَا شِيعَتِي الجَنَّةَ بِأَجْمَعِهِم! (بحار الأنوار ج57 ص228).
إذا كانت الشفاعة مقرونةً بعظمة المكانة، وإذا كانت بعضُ الأعمال تأخذُ بيد صاحبها كي يكون شفيعاً لقومه، فما الذي كانت عليه هذه السيدة الجليلة حتى صارت شفيعة لشيعة الإمام الصادق عليه السلام بأجمعهم؟
لقد قال الإمام (وَلَنَا الشَّفَاعَةَ فِي شِيعَتِنَا)، ثم كانت الشفاعة لها أيضاً في الشيعة، فثبت أنَّها منهم عليهم السلام بأعلى المراتب.
هذا نزرٌ من فضل مَن نعيشُ في جوارها..
إنَّها جوهرةٌ إلهيةٌ عظيمة.. مهما تعمقنا في معرفتها، بقينا على شُطآن بَحرها..
نسأل الله أن يجعلها شفيعتنا في قضاء حوائج الدُّنيا والآخرة..
والحمد لله رب العالمين.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat