صفحة الكاتب : د . فاضل حسن شريف

كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ" علاقة الكدح بلقاء الله سبحانه (ح 4)
د . فاضل حسن شريف

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

ان الكدح بشقيه العبادة والكسب وجب أن يكون لله رب العالمين "قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين" (الانعام 62) حيث توفى كل نفس ما كسبت "واتقوا يومًا ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون" (البقرة 282). وعليك ايها الكادح أن يكون عملك حسنا عند الله تعالى "ليبلوكم أيكم أحسن عملا" (هود 7) (الملك 2). وجزاء العمل الحسن مضاعف كما قال الله تعالى في عدد من الآيات الكريمة "ولنجزينّهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون" (النحل 97). وقال تعالى: "إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا" (الكهف 30). وقال كذلك "من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها" (الانعام 160). والانسان الخاسر الذي كدحه خاسر اي عمله غير صالح بدون عبادة "وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ" (العصر 1-3). الذين لا يتبعون الأنبياء ومن بعدهم الأئمة ونوابهم ويتحججون بحجج ما أنزل الله بها من سلطان فهم الذين لا يرجون ولا يرغبون بلقاء الله جل جلاله "وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ" (يونس 15). الكدح على الصراط المستقيم أقرب الطرق للقاء الله تعالى، ولكن الشيطان جالس على هذا الصراط للاغواء وتعكير صفو الكدح حيث قال الله تعالى "قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ" (الاعراف 16). فاذا كان سلطان الكادح أقوى من سلطان الشيطان حصلت الفائدة من الكدح كما في قوله تعالى "قالَ : هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ" (الحجر 42). استخلف الله تبارك وتعالى الانسان ليكون خليفته على الارض في قوله تعالى "إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا" (الاحزاب 72). وحتى يصبح خليفة ناجح عند الله جل جلاله عليه أن يكدح أي يعمل في سبيل مرضاته سبحانه "منْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" (النحل 97) فالكدح بايمان هو المطلوب للقاء الله سبحانه وهو راض عنك أيها الكادح "يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ" (الانشقاق 6).
ان القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة طلبت من الانسان أن يكدح بنفسه بقوله تعالى "يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ" (الانشقاق 6) والحديث النبوي الشريف (ما أكَلَ أحَدٌ طَعامًا قَطُّ، خَيْرًا مِن أنْ يَأْكُلَ مِن عَمَلِ يَدِهِ، وإنَّ نَبِيَّ اللَّهِ داوُدَ عليه السَّلامُ، كانَ يَأْكُلُ مِن عَمَلِ يَدِهِ)، وكذلك (من أمسى كالاً من عمل يده أمسى مغفوراً له). قال الإمام الباقرعليه السلام: (من طلب الدّنيا استعفافاً عن النّاس، وسعياً على أهله، وتعطّفاً على جاره، لقي الله عزَّ وجلّ يوم القيامة ووجهه مثل القمر ليلة البدر). وعن خنيس، قال: سأل أبو عبد الله عليه السلام عن رجل، وأنا عنده، فقيل: أصابته الحاجة، قال عليه السلام: (فما يصنع اليوم؟)، قيل: في البيت يعبد ربّه، قال عليه السلام: (فمن أين قوته؟)، قيل: من عند بعض إخوانه، فقال أبو عبد الله عليه السلام: (والله، لَلَّذي يقوته أشدّ عبادةً منه). ولا يطلب من الآخرين العون وهو قادر على العمل كما قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم (ما يَزَالُ الرَّجُلُ يَسْأَلُ النَّاسَ، حتَّى يَأْتِيَ يَومَ القِيَامَةِ ليسَ في وجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ). والعمل يتطلب الحرفة كما ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (ان الله يحب المؤمن المحترف). جاء أحد أصحاب الإمام الصّادق عليه السلام إليه، وقال له: ادعُ الله أن يرزقني في دعَة، فأجابه الإمام الصَّادق عليه السلام: (لا أدعو لك، اطلب كما أمرك الله). اي عليك بالكدح الذي أمرك الله به وهو يتطلب حرفة وتعلم وجهد وليس دعاء.
والكدح يتطلب الكسب والرزق مع التعبد فالاثنان دائمين مع الحياة في الدنيا "فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرًا لعلكم تفلحون" (الجمعة 10). فالعامل يصلي صباحا ليذهب بعدها لكسب قوته. لا أن يصلي ويقرأ القرآن في كل يوم ويترك عمله. ولكن الكسب بدون عبادة هو المرفوض في قوله تعالى "رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ" (النور 37). ورد في الحديث أن رجلا مَرَّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرَأَى أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ مِنْ جَلَدِهِ ونَشَاطِهِ مَا أَعْجَبَهُمْ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ‌لَوْ ‌كَانَ ‌هَذَا ‌فِي ‌سَبِيلِ ‌اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: (إِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى وَلَدِهِ صِغَارًا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى أَبَوَيْنِ شَيْخَيْنِ كَبِيرَيْنِ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ يَسْعَى عَلَى نَفْسِهِ يَعِفُّها فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ رِيَاءً وتَفَاخُرًا فَهُوَ فِي سَبِيلِ الشَّيْطَانِ). وقال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم (لَأَنْ يأخذَ أحدكم حَبْلَهُ، فيَأْتِي بحِزْمَةِ الحطبِ على ظهرِهِ فيَبيعها، فيَكُفَّ اللهُ بها وجهَهُ، خيرٌ لهُ من أن يسألَ الناسَ، أعطوهُ أو منعوهُ). وقال كذلك (ما من مسلم يَغْرِسُ غرسًا إلا كان ما أُكِلَ مِنهُ له صدقةً، وما سُرقَ له منه صدقةٌ، وما أكل السَّبُعُ منه فهو له صدقةٌ، وما أكلتِ الطيرُ فهو له صدقةٌ، ولا يَرْزَؤُهُ أَحَدٌ إلا كان له صدقةٌ). والكدح لا يعني المشقة فحتى النوم للمؤمن المأدي فرائضه عبادة كما في شهر رمضان حيث ورد عن علي عليه السلام عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (أنفاسكم فيه تسبيح، ونومكم فيه عبادة). ان الله تعالى يطلب من عباده الكادحين ان يعبدوه "ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ" (يونس 3) كونه هو مدبر الامور ومنها أمر الكسب " يُدَبِّرُ الْأَمْرَ" (يونس 3). والجميع يرجع اليه سبحانه "إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا" (يونس 4) وهذا وعد منه وهو لا يخلف الميعاد "وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا" (يونس 4). والذي بدأ الخلق وجعل الانسان فيه خليفة وطلب منه أن يكدح قادر أن يعيده مرة أخرى " ثُمَّ يُعِيدُهُ" (يونس 4) للقاء الذي كدح في الحياة الدنيا بالعبادة والكسب الحلال "يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ" ﴿الإنشقاق 6) ويحزيه بالقسط "لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ" (يونس 4). وعكس ذلك الذي لم يعبد الله تعالى وكسب المال الحرام فلع عذاب أليم في جهنم "وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ" (يونس 4).
جاء في الميزان في تفسير القرآن للعلامة الطباطبائي: قوله تعالى "يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ" (الانشقاق 6) التقدير: لاقى الإنسان ربه فحاسبه وجازاه على ما عمل. قال الراغب: الكدح السعي والعناء. انتهى. ففيه معنى السير، وقيل: الكدح جهد النفس في العمل حتى يؤثر فيها انتهى. وعلى هذا فهو مضمن معنى السير بدليل تعديه بإلى ففي الكدح معنى السير على أي حال. وقوله "فَمُلاقِيهِ" (الانشقاق 6) عطف على "كادِحٌ" (الانشقاق 6) وقد بين به أن غاية هذا السير والسعي والعناء هو الله سبحانه بما أن له الربوبية أي إن الإنسان بما أنه عبد مربوب ومملوك مدبر ساع إلى الله سبحانه بما أنه ربه ومالكه المدبر لأمره فإن العبد لا يملك لنفسه إرادة ولا عملا فعليه أن يريد ولا يعمل إلا ما أراده ربه ومولاه وأمره به فهو مسئول عن إرادته وعمله. ومن هنا يظهر أولا أن قوله "إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ" (الانشقاق 6) يتضمن حجة على المعاد لما عرفت أن الربوبية لا تتم إلا مع عبودية ولا تتم العبودية إلا مع مسئولية ولا تتم مسئولية إلا برجوع وحساب على الأعمال ولا يتم حساب إلا بجزاء. وثانيا : أن المراد بملاقاته انتهاؤه إلى حيث لا حكم إلا حكمه من غير أن يحجبه عن ربه حاجب. وثالثا: أن المخاطب في الآية هو الإنسان بما أنه إنسان فالمراد به الجنس وذلك أن الربوبية عامة لكل إنسان. قوله تعالى "فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ" تفصيل مترتب على ما يلوح إليه قوله "إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ" أن هناك رجوعا وسؤالا عن الأعمال وحسابا، والمراد بالكتاب صحيفة الأعمال بقرينة ذكر الحساب، وقد تقدم الكلام في معنى إعطاء الكتاب باليمين في سورتي الإسراء والحاقة. قوله تعالى "فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً" الحساب اليسير ما سوهل فيه وخلا عن المناقشة.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . فاضل حسن شريف
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2023/05/30



كتابة تعليق لموضوع : كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ" علاقة الكدح بلقاء الله سبحانه (ح 4)
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net