صفحة الكاتب : السيد عبد الستار الجابري

اسس اصطفاء الافراد والجماعات في القرآن الكريم الحلقة الرابعة
السيد عبد الستار الجابري

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.


آل ابراهيم (عليه السلام) المصطفون
الخصائص والادوار
الخصائص الفردية لآل ابراهيم (عليه السلام) يشترك افراد العائلة الطاهرة فيها مع بقية المصطفين، اذ الخصائص العامة فيهم واحدة، لأن الخصائص العامة يترشح عنها الهدف العام وهو هداية الافراد، فلابد من توفر تلك الخصائص في الجميع لتحقيق المراد الاصل من بعثة الانبياء (عليه السلام) وهو كونهم معصومين ومبشرين ومنذرين ودعاة الى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
وفضلاً عن الخصائص المشتركة مع بقية الانبياء والمرسلين  (صلوات الله عليهم) فإن هناك خصائص تميز بها آل ابراهيم (عليهم السلام) لطبيعة المهمة التي كلفوا بها.
فالذي ميز آل ابراهيم (عليه السلام) عن سواهم من الانبياء السابقين، ان النبوات السابقة كانت تقف عند اولئك الانبياء، وكان المجتمع البشري على مستوى من الطغيان والتجبر والبعد عن الكمال بحيث لا يكون مؤهلاً للبقاء، وقد مثلت مسألة الطوفان اكبر دليل على مستوى الانحراف الفكري والعقائدي وتجذره في المجتمع الانساني بحيث لم يعد للعقيدة الحقة مكان في قلوب ابناء المجتمع حتى اوحى الله تعالى الى نوح (عليه السلام) انه لم يؤمن شخص جديد غير الذين آمنوا، وان التجبر والطغيان بل بلغ اقصاه، وترك الخيار الى النبي نوح (عليه السلام) في الاستمرار في الدعوة او الدعاء عليهم لان مسألة الدعوة الى الله قد استوفت من يمكن ان يؤمن بها ولن يكون هناك فرد آخر ينتظر منه الايمان بما يدعو اليه نوح (عليه السلام)، فدعى نوح ربه اني مظلوم فانتصر فأمره الله ان ينشأ الفلك ليحمل عليه المؤمنون واصناف الحيوانات، كي لا تنقرض من على وجه الارض، فارسل الله تعالى الطوفان ليطهر الأرض من رجس الظالمين.
وهذه الحالة من العقوبة الجماعية لكل سكان الارض لم تتكرر بعد نوح (عليه السلام) وان كانت قد وقعت في بعض المدن التي ابيد اهلها بعذاب الهي كسدوم وعاد وثمود ومدين وجيش فرعون، الا ان العذاب لم يقع على جميع من كان في الكرة الارضية، مما يؤشر الى ان دعوات الانبياء وجدت اصدائها في القلوب والعقول وان لم يبلغ النضج الى مستوياته العليا.
ان ما تميزت به مرحلة النبي ابراهيم (عليه السلام) هو استمرار النبوة في الاعقاب، وبناء المجتمعات المؤمنة، وتأصلها وسيرها بقدم ثابت في اوساط المجتمعات الكافرة، وهي مرحلة لم يسبق لها ان حصلت في الحقب التاريخية التي تقدمت على النبي ابراهيم (عليه السلام).
فعلى الرغم من كفر اهل بابل واجتماعهم على حرق النبي ابراهيم (عليه السلام) بعد ان حطم اصنامهم الى ان الله تعالى لم يهلك البابليين، بل اثبت لهم عجزهم امام قدرة الله تعالى، ومن ثم لم يجدوا بداً من اخراج النبي ابراهيم (عليه السلام) من بابل، والذي يمكن استنتاجه من عدم اهلاك البابليين على الرغم مما ارتكبوه من النبي ابراهيم (عليه السلام) هو وجود ارضية صالحة في المجتمع البابلي ولدت مجتمعاً مؤمناً وان لم يكن بالمستوى المطلوب، اي لم يكن هناك اطباق على الكفر بعد رأى المجتمع المعجزة العظيمة التي اجراها الله تعالى في انقاذه من نار النمرود، ولم يقف امر الدعوة والتبليغ عند النبي ابراهيم (عليه السلام) اذ التحق به لوط (عليه السلام) الذي بعثه الله الى سدوم، الا انهم استمروا على معصيتهم فاهلكهم الله تعالى وانقذ لوطاً (عليه السلام) والذين امنوا معه، ليلتحق بإبراهيم (عليه السلام)، الذي امضى شطراً طويلاً من حياته يتنقل بين المجتمعات وهو يدعو الى عبادة الله تعالى، فكانت مصر احدى تلك المحطات التي عاد منها بالسيدة هاجر (عليها السلام)، ومن الحفاوة التي انتهت بها زيارته (عليه السلام) الى مصر يكتشف ان سفرته الى مصر نتج عنها مجتمع آمن بالدعوة الى الله تعالى، حتى اذا انتهت مهمته في مصر عاد الى المحل الذي اختاره في نقطة التواصل الحضاري بين المدن المختلفة فكان يوقد في الليل البهيم النار كي يقصده الاضياف لنيل القِرى والاستماع الى دعوة التوحيد، وربما شملت سفراته بلاد الهند وبلاد فارس بلدان اخر، لان ما في تلك البلدان من آراء وفلسفات يشم فيها التوحيد لابد ان ينتهي الى معدن التوحيد في ذلك الوقت خاصة وان تلك الامم لم تعتنق اليهودية ولا النصرانية فما في نظرياتها التوحيدية لابد من ان ترجع الى احد الاصول الدينية ولعلها كانت قد اخذت اصولها في التوحيد عنه (عليه السلام).

عبد الستار الجابري, [03/06/2023 05:42 ص]
وكما قدمنا ان الميزة التي كانت في آل النبي ابراهيم (عليه السلام) ان الدعوة الى الله لم تقف عنده (عليه السلام) بل سرت في بنيه فخلفه اسحق (عليه السلام)  في بلاد الشام، واسماعيل (عليه السلام) في جزيرة العرب، فبعد ان امر الله تعالى النبي ابراهيم (عليه السلام) نقل بعض عائلته الى الواد غير ذيىالزرع عند بيته المحرم، لتنطلق من هناك معجزة اخرى كان اثرها من القوة كأثر نار النمرود فانبثاق الماء تحت قدم اسماعيل (عليه السلام) كان بداية التفاف القبائل العربية على آل النبي ابراهيم (عليه السلام) ومن ثم اعتناقهم دعوة التوحيد، والتزامهم شرع النبي ابراهيم (عليه السلام) وادائهم شعائر الحج والعمرة التي ابلغهم اياها النبي ابراهيم (عليه السلام) لتنتشر الحنيفية في جزيرة العرب وتكون الدين الرسمي لتلك المنطقة قبل ان ينتشر الشرك فيها في وقت متأخر، فالعرب وجدوا ان هؤلاء ليسوا بشراً عاديين بل هم اناس مباركون تجري على ايديهم وتحت اقدامهم الكرامات.
وفي تلك الحقبة التاريخية ولأول مرة في تاريخ المجتمع الانساني يجتمع مجتمع التوحيد الى جانب مجتمع الكفر والشرك، ففي مملكة بابل ومملكة مصر كان مجتمع الموحدين موجوداً الى جانب مجتمع الشرك وعبادة الاوثان، فيم كانت جزيرة العرب على ملة النبي ابراهيم (عليه السلام) قبل ان تنتشر فيها الوثنية، بينما انتشر في بلاد الفرس الديانة المجوسية التي لم تكن ديانة وثنية اذ كانت تؤمن بالاله الواحد ولم يكن لهم اصنام يعبدونها وان كانوا يقدسون النار، كما انتشرت في الهند بالاضافة الى عبادة الاوثان تعاليم بوذا ذات الاصول التوحيدية ثم تحولت شيئاً فشيئاً على تقديس تمثال بوذا.
ومضافاً الى انتشار التوحيد في جزيرة العرب، تمكن النبي يوسف (عليه السلام) حفيد النبي ابراهيم (عليه السلام) من نشر التوحيد في بلاد مصر، واصبح آل يعقوب – بنو اسرائيل – مجتمع التوحيد الخالص في مصر، بل تمكن يوسف (عليه السلام) من اضعاف عبادة الاوثان حتى كادت ان تلغى بعد ان اعتنق ملك مصر امنحوتب الرابع التوحيد، الا ان نشاط عباد الاصنام عاد بعد وفاته وتمكن خليفته توت عنخ آمون من اعادة الوثنية الى مصر، ومضى الامر على ذلك في مصر حتى ايام آل عمران – من سلالة النبي ابراهيم (عليه السلام) – على يد النبي موسى واخيه هرون (عليهما السلام) لتبدأ حقبة جديدة في المنطقة التي شملت مصر وبلاد الشام وامتد تأثيرها الى بابل.
ان المتتبع لتاريخ آل النبي ابراهيم (عليه السلام) يتضح له ان كلا الاسرتين – بني اسماعيل وبني اسحق – كانت الدعوة الى التوحيد احد اهم ركائز اعمالهم وانهم تمكنوا من اقامة مجتمعات توحيد كتب لها البقاء والاستمرار على الرغم من احاطة مجتمعات الكفر بها واستهدافها لها، و لم تتمكن قوى الكفر من القضاء على دور تلك المجتمعات التوحيدية، وان تمكنت من حرف مساره الا ان جملة من المعتقدات والطقوس العبادية بقيت متأصلة في تلك المجتمعات ولم تتبدل هذا في جزيرة العرب، واما في مصر فقد تمسك بنو اسرائيل بقيم التوحيد ولم يعدلوا عنها وان كان التأثر بالوثنية المصرية قد اخذ يتسرب الى قلوبهم عبر الزمن وهو ما كشف عنه طلب بعض بني اسرائيل من موسى (عليه السلام) ان يجعل له الهاً كما للوثنيين الهة.
وهذا يكشف عن دقة التعبير القرآني في الحديث عن اصطفاء الفرد في ادم ونوح (عليهما السلام) والاصطفاء الجماعي لآل النبي ابراهيم (عليه السلام) وآل عمران، فالمهمة الاصل واحدة والاثر المنبثق في واقع المجتمع البشري مختلف، اذ كانت الدعوة قبل النبي ابراهيم (عليه السلام) تمثلت في بناء الفرد، بينما كانت الدعوة في عهد النبي ابراهيم (عليه السلام) تتحرك على صعيد الفرد والمجتمع، ولأول مرة في تاريخ البشرية منذ انتشار الشرك في المجتمع البشري يبلغ مستوى النضج البشري الى مستوى ظهور مجتمعات التوحيد واستمرارها وصمودها امام المجتمعات الوثنية.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


السيد عبد الستار الجابري
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2023/06/04



كتابة تعليق لموضوع : اسس اصطفاء الافراد والجماعات في القرآن الكريم الحلقة الرابعة
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net