صفحة الكاتب : عماد حلمي العتيلي

أكِيـد بتِمزَح !
عماد حلمي العتيلي
 قبل أكثر من سنتين ، إبّان الحملة الإسرائيلية على قطاع غزّة ..
كنت في طريقي لزيارة أحد الأصدقاء برفقة ثُلّةٍ من الشّباب لنبارك له بالزّواج .
وبعد أن رحّب بنا وأسمَعَنا الكلمة المُعتادة في مثل هذه المناسبات " عقبالكو يا شباب ! " .. بدأنا جلستنا ببعض النّكات – خصوصا النّكات الخاصة بالمتزوّجين والحياة التي يعيشونها في ظل الأوضاع الاقتصادية الفاخرة التي نشهدها! - وبفناجين من القهوة كافتتاحيـة لسهرة طويلة.
وبينما كنّـا نتجوّل بين المواضيع والأحداث الفنيّة والثقافيـة والسياسية المعاصـرة ، مررنا بالقضيّة الفلسطينية وبما كان يجري في القِطاع المُحاصَر آنذاك .
وتعددت الآراء ، واكتست الأجواء بمختلف الشّحنات – السلبية والإيجابية – تجاه القضيّة .
وعندما اقتربنا من الخِتام ، مرّت ببالي مجموعة من الصّور واللقطات التي كانت الشّاشات الإخبارية المختلفة قد بثّتها عن مناظر القتل والإرهاب التي قام بها " أبناء عمومتنا " حسب تعبير أحد الشّباب معنا ، بحقّ الأطفال والنّساء .. حينها قلت بشيء من "السّرَحان" : 
( والله يا جماعة ، يا ريت لو بنقدر نساعد أهلنا هناك بأي شيء !
يعني لو نتخيّل حالنا مكانهم شويّة ، عن جدّ الله يعينهم ) .
 
وجاء تعليق – مُضحك – من أحد الأصدقاء :
" يا زلمة احنا شو دخلنا ، الحمد لله على راحة البال ! 
شو بدنا بهالسوالِف ! "
 
أذكر أنني أتبعت تعليقه بضحكة مُتفاجِئـة ، وكلّي قناعةٌ أنه – بالتّأكيـد -  أحبّ أن يختتِم المجلِسَ بـ "نُكتة" أخيرة !
وقُلتُ في نفسي : " أكيد قاعد بِمزح " !
 
****************
 
 
ليلةَ أمس ..
كنت في زيارة لأحد الأقرباء كان قد خرج للتوّ من المشفى بعد أن خضع لعملية جراحية تكلّلت بالنجاح .
 
وبِما أنَّ فصل الشّتاء قد حطّ رِحالهُ عِندَنا منذ مدّة ..
فقد أخذَنا الحديث عنه طوال الزّيارة ، وكيف أن الله عزّ وجلّ يرحم عباده على ظُلمهم ، وكيف يرُدُّ الناسُ إحسان الكريم إليهم بالإساءة لإخوانهم البَشَر . 
فترى "أصحاب السّيّارات" – وهذه ظاهرة منتشرة بعُمق في مجتمعنـا -  يسيرون بسرعات عالية في الطّرقات المغطّاة بماء المطر ، ويؤذون المارّين و " يحمّمونهم " بالماء ولا يبالون ، وكأن "دُشـَّا" لم يكُن !
ثُمَّ أنهَينـا الحديث بمُرورٍ سريع على أحوال أهلنا في سوريّا .
وقبل أن أغادر ، صافحتُه وقلت له العبارة الخالدة " دير بالك ع حالك " .
وردّ هو بدوره : " وإنتَ دير بالك من السّيّارات عشان ما يرَشّقُوك بالميّ ! " .
وضحكنا !
 
كان الوقت متأخرا قليلا ، وكان النّاس قد خرجوا من المسجِد بعد أداء صلاة العِشاء منذ ساعة تقريبـا .
قطعتُ نِصف الطريق إلى البيت ..
وأخذتُ بنصيحة قريبي ، فلم يغدُر بي أحدٌ من السائقين !
في الطريق وعلى الجهة الأخرى من الشّارع ، كانت امرأة كبيرة في السّن وابنتها الشّابّة تمشيان بحذر وهدوء ، وكانت البنتُ – للأسف – مُصابةً بلعنةِ الجمال !
 
وبعد فترة قصيرة ، ظهرَت سيّارة محمّلة بمجموعة من الشّباب " الطّنطات " يستمعون بنهَم إلى موسيقى صاخبة للغاية وكلمات إنجليزية لا يفقهون منها شيئـا كعادة معظم الشّباب الفارغين في بلادنـا !
وما إن اقتربوا من الفتاة وأمها ، بدؤوا بـ " التّزمير " وإطلاق التعليقات السّريعة على مسامع البنت وأمها وجميع المارّة ، والبنت مخفِضةٌ رأسها وملتصقة بأمها التي لا تكاد ترى خطواتها خلال المستنقعات المائية على الأرصفة والشّوارع ..
وازداد التّزمير وازدادت التعليقات وضوحـا ، وبدأت الأم بـ"الصّياح" على هذا الشباب السّاقط ، وبدأتُ أنا أردّدُ معها " لا حول ولا قوّة إلّا بالله " ، حتّى قرّر الشباب إنهاء مشهدهِم العابِر وأسرعو بسيّارتهم فجأة ليرشُقو كميّة قليلة من الماء أصابت الأم وابنتها وبعض المارّة !
 
 
" حسبي الله ونِعمَ الوكيـل ، امشي يا يمّه امشي ، الله يهديكو ! "
هكذا ردّت الأم !
دعَت لهم بالهدايـة !
 
في هذه الأثناء .
نظَرتُ حولي إلى وجوه المارّة ، وأنا "متأكّد" أنني سأسمعُ منهم تعليقات ساخطة على هؤلاء الشّباب السّاقط .
أو أنني سأرى على وجوههم آثار الاستياء أو التعاطف مع تلك البنت المسكينة وأمها .
ولكنّي عندما نظرتُ ، ودققت النّظر مرّة أخرى وأخرى وأخرى ، شاهدتُ شيئا واحدا ..
مجموعة من الابتسامات الخجلى تتربّعُ على وجوه المّارّة ..
ونظَرات ملؤها الفَرح تتنقّل من أعيُنِهِم بين البنت و الأم !
وكأنهم فخورون بما فعلتهُ الحُثالة الفارغـة تلك !
 
في لحظات ..
رجعت بي آلة الزّمن إلى ذلك الصّديـق ، وإلى تلك الـ" النُّكتة " التي اعتقدت حينها أنه لم يقصد بها إلّا المزاح !
" يا زلمة احنا شو دخلنا "
وبدأ صدى هذه الكلمات يتردد بشكل مزعج داخل رأسي !
 
وأسررتُ في نفسي إذ أُمعِنُ النّظر في وجوه المارّة مجدّدا وأرى ابتساماتِهم الباردة :
" معقول كان يحكي عن جدّ ! "
 
 
أعتقد أنني يجب أن أعيد حساباتي ..
وأرتّب دفاتري جيّدا ..
وأركّبَ "نظّارات" أكثر دِقّة ، حتى أرى النّاس حقيقةً ، وأسمعَ جيّدا ما يقولون وما يعنون !
وأفرّقَ جيّدا بين الجِدّ والهزل في المرّة القادمـة !
 
" حسبي الله ونِعم الوكيل  !
الله يهديني ! "
 

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


عماد حلمي العتيلي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2012/06/11



كتابة تعليق لموضوع : أكِيـد بتِمزَح !
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 

أحدث التعليقات إضافة (عدد : 1)


• (1) - كتب : huda moutaz ، في 2015/11/03 .

ابحٹ عما تکتب دائما استاذ عماد بکتابه اسمک في محرک البحٹ بعد ان فقدت کتاباتک في موقع الادب العربي
لعلمي ان کتاباتک هي المحيط والغرق في الجمال والحکمه





حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net