صفحة الكاتب : علي بدوان

مطحنة قرمان وفبركة الدخان من ذاكرة النكبة الفلسطينية
علي بدوان

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
 بعد ساعات قليلة من إعلان ديفيد بن جوريون في تل الربيع (التي أصبح اسمها تل أبيب) قرب مدينة يافا عن قيام دولة "اسرائيل" على انقاض الكيان الوطني والقومي للشعب العربي الفلسطيني فجر الخامس عشر من مايو 1948، تتالت القرارات "الاسرائيلية" الجائرة التي اتخذت بحق ما تبقى من الشعب الفلسطيني داخل حدود العام 1948، وتتالت معها القرارات والاجراءات التي مست الممتلكات العربية من بيوت وعمارات وشقق سكنية ومعامل ومحلات التجارية، وصولاً الى نهب كل ما تبقى، وإعادة طرحه للبيع على المهاجرين اليهود الى فلسطيني، فيما تم تمليكهم المساكن مجاناً.
ويمكن العودة إلى الملف الدولي رقم 245 للاجئين الفلسطينيين الصادر في لندن عام 1993، حيث نلحظ بوضوح الحجم الكبير من الخسائر المادية التي أصابت الشعب الفلسطيني جراء نكبة 1948، نجد أن القرويين الفلسطينيين قد خسروا (مليوناً و 400) ألف دونم من الأرض الزراعية المروية، وثلاثة ملايين دونم من الأرض البعلية، و (260) ألف دونم من بيارات الحمضيات، و (78) ألف دونم من كروم الزيتون و(52) ألف دونم من كروم العنب بمبالغ تقديرية أنذاك تفوق (3,445) مليار دولار، كما نهبت المواشي في الأرياف بتعداد (160) ألف رأس من البقر، و (200) ألف رأس من الغنم والماعز، و (42) ألف رأس من الخيول. وبالنسبة للمتاجر فقد تم نهب (8500) متجر، وأكثر من (2600) حانوت، فضلاً عن (36) معصرة زيتون، ومعامل الدباغة والصابون والنسيج وتم الاستيلاء الكامل على البيوت العائدة للاجئين وعلى أثاثها. ووضع اليد على أكثر من (117) ألف منزل في القرى و (33170) منزلاً في المدن، وأكثر من (32200) دونم من الأرض العقارية المعدة للبناء في المدن، وفضلاً عن ذلك السيطرة بشكل رئيس على المساحات الواسعة من أراضي الملكية العامة في فلسطين.
وكانت اسرائيل بعد أسبوعين من إعلانها قد شكلت لجنة الترانسفير لمنع العرب الفلسطينيين من العودة إلى ديارهم، وتدمير القرى التي هجروها بشكل كامل، وإنشاء مستعمرات يهودية مكانها، وسن تشريع منع عودة أي لاجىء، واستتبع تشكيل لجنة الترانسفير بلجنة وزارية إسرائيلية للأملاك المتروكة والمنهوبة دعيت "دائرة أملاك الغائبين"، وبعد ذلك شكل ديفيد بن جوريون في 29 أغسطس 1948 لجنة ثالثة لمنع العودة نهائياً لأي لاجىء، حيث أوصت بتوطين اللاجئين في البلدان المضيفة، وفضلت العراق لأنه لا يملك حدوداً مع اسرائيل.
مطحنة قرمان، الواقعة في مدينة حيفا، في شارع الناصرة، قرب السكة الحديد، كانت واحدة من تلك المنشآت الصناعية والتجارية التي تم الاستيلاء عليها بالقوة بعد تهجير سكان مدينة حيفا، وقد كانت تلك المطحنة من أهم المطاحن في فلسطين وبلاد الشام قبل النكبة، وقد تعرضت بدورها للنهب والسيطرة عليها من قبل جيش الهاجناه الذي بات اسمه بعد العام 1948 "جيش الدفاع الاسرائيلي" الذي استباح المطحنة وملكيتها وحولها الى مركز انتاجي لجيش الاحتلال الاسرائيلي.
مطحنة قرمان تقع في مدينة حيفا، وقد كانت الموئل الأساسي للفلاحين الفلسطينيين لبيع منتج القمح لها كل موسم، خصوصاً من مناطق الجليل في الشمال، وسهل مرج ابن عامر ومن مناطق جنين وطولكرم. فيما كان طحينها ومادة السميد المنتج فيها وحتى البرغل يوزع على المتاجر في عموم فلسطين وعلى سوريا وشرق النهر (الأردن حالياً).
فكانت مطحنة قرمان مركزاً استيعابياً مهما لمنتج القمح، ففلسطين تعد بلداً زراعية في الدرجة الأولى حيث يعمل ثلثا سكانها قبل عام 1948 في القطاع الزراعي، حيث بلغت المساحة المزروعة بالحبوب "القمح و الشعير" حوالي 60% من مجموع الأراضي الزراعية في فلسطين قبل عام 1948، بينما بلغت مساحة الأراضي المزروعة بالأشجار المثمرة كالزيتون والعنب والتين والحمضيات حوالي 16,3%، وشكلت الأراضي المزروعة بالخضار حوالي 23,7%.
عائلة قرمان، مالكة وصاحبة المطحنة، عائلة فلسطينية من مدينة نابلس، سكنت بمعظم أفرادها وأقامت في مدينة حيفا قبل النكبة، وقد بنت تلك المطحنة وفق نموذج عصري في حينها في العام 1926، وقد بنيت في ذلك الوقت مطحنة مشابهة لها تماماً في نمطها المعماري وفي نظام وآلية التشغيل وتقنياتها في منطقة القدم الشريف (اسمها الحالي مطحنة 8 مارس) الواقعة قليلاً الى الجنوب من دمشق، وعلى مقربة من مخيم اليرموك، والتي كانت تطحن الحبوب والقمح الآتي من سهل حوران جنوب سورية وتنتج الطحين والسميد والبرغل.
وبالقرب من مطحنة قرمان، كان معمل التبغ الفلسطيني (شركة التبغ في حيفا) أو ما كان يطلق عليها بالعامية الفلسطينية (فبركة الدخان) التي كانت بدورها ضحية لقرارات سلطات الاحتلال، وديفيد بن جوريون الذي رفع شعار "عبرنة الأرض والعمل والملكيات ومعامل الانتاج".
فشركة التبغ في حيفا التي كانت تعتبر أكبر مصنع للتبغ في فلسطين لابل بل يعد من اكبر المصانع في العالم العربي، والتي تأسست كشركة تعاونية مساهمة عام 1929 نهبت بدورها وسلبت من مالكيها (قرمان، السلطي، الديك) حيث عائلة قرمان نابلسية، وعائلة السلطي صفدية، وعائلة الديك حيفاوية. وقد استوعبت تلك الشركة انتاج الفلاحين الفلسطينيين من مناطق الشمال في الجليل، وانتاج قرى جنوب لبنان في منطقتي صيدا وصور، التي لم يكن أمامها من منفذ لتسويق أوراق نبات الدخان سوى بيعه في فلسطين لشركة التبغ الفلسطينية في حيفا.
لقد أفسحت المعامل والشركات في فلسطين المجال أمام مواطنيها للعمل، كما أفسحت المجال الواسع للعمال والمواطنن العرب القادمين من سوريا ولبنان. وتشير ذاكرة اللاجئين الفلسطينيين في سوريا، الى أن معظم النساء اللواتي عملن بشركة تبغ فلسطين غادرن فلسطين مع عائلاتهن الى مدينة اللاذقية شمال الساحل السوري عام النكبة، وأقمن في منطقة الرمل التي باتت تعرف الآن بمخيم الرمل الفلسطيني. أما عائلتي السلطي والديك فكان لجوئهما الى سوريا ايضاً، بينما بقيت عائلة قرمان داخل فلسطين.
مطحنة قرمان في حيفا، وشركة التبغ الفلسطينية في حيفا أيضاً، يشكّل كل منهما شاهداً ومثالاً حياً وساطعاً لشعب تم نهب وطنه وأملاكه وعقاراته ومعامل الانتاج فيه، كما تم تشريد غالبيته خارج وطنه التاريخي
 

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


علي بدوان
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2012/06/14



كتابة تعليق لموضوع : مطحنة قرمان وفبركة الدخان من ذاكرة النكبة الفلسطينية
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net