شهد المنبر القطيفي والأحسائي في العقدين المنصرمين تطوّراً ملحوظاً من حيث مادّته المتنوّعة، والتي أشبعت حاجة المُتلقي في مختلف الحقول: الدّينيّة، والفقهيّة، والعقائديّة، والتاريخيّة، والأخلاقيّة، والاجتماعيّة.. وتنوّع الخطباء أصحاب السّماحة في عطائهم، ففي القطيف من قبيل: العلّامة الشّيخ فوزي آل سيف، والعلّامة السّيد ضياء الخباز. وفي الأحساء: العلّامة الشّيخ علي الدهنين، والشّيخ حبيب الهديبي، والشّيخ عبد العليم العطيّة.. وغيرهم.
كانت الحركة الوهّابيّة نشطة في تلك الحقبة، وتعمل بكلّ جدّ في بثّ الشّبهات العقائديّة، إلا أنّ المنبر الحُسيني كان يمثّل سدّاً منيعاً أمام تلك الهجمات، عندما تفاعل المنبر مع مقتضيات المرحلة.
ثم جاء المنبر الفكري الذي أحدث انعطافة شجاعة بموضوعاته، اقتضتها ضرورة المرحلة أيضاً، وانعكست آثاره حتى على المنابر التقليديّة، فهي وإن لم تواكب المنبر الفكري في موضوعاته، لكن العديد منها تأثّر به ايجابيّاً من جهة التنظيم المنهجي للمحاضرة، والارتقاء بلغة الخطاب، بل وبثّ روح الجدّية والمسؤوليّة في اعداد المحاضرات.
وبعد التجربة القطيفيّة الأحسائيّة، والتي صدّرت تجربتها إلى المنابر المجاورة في دول الخليج، تتطلّع اليوم المجتمعات الأخرى -في العراق ولبنان وسوريا وغيرهم- إلى مواكبة منابرها حركة التطوّر المنبري المتمثّل في المنبر الفكري.
ولعلّ المنبر الفكري يُعتبر محفّزاً -في قادم الأيّام- لبعض أصحاب الفضيلة الحوزويّة ممّن يعتني بهذا الجانب، بالانضمام إلى سلك الخطباء، ويستجيبوا للدعوات الكثيرة لنقل التجربة إلى ميدانهم، وتصدّر المشهد في ساحتهم، من قبيل: السّيد صدر الدّين القبانجي، والشّيخ مازن الماطوري في العراق، والشّيخ أحمد ابو زيد في لبنان.
والسّؤال الذي يستحق الوقوف عليه؟ لماذا لم يشهد المنبر الفارسي تطوّراً جوهريّاً كما تشهده المنطقة العربيّة مع المنبر الفكري؟ علماً أن السّاحة الإيرانيّة نشطة في القضايا الفكريّة الدّينيّة، وتتمتع برموز كبيرة تعتني بهذا الشأن!.. لعلّ المنبر الفارسي يتفاعل ايجابيّاً -كذلك- مع المنبر العربي مستقبلاً بعد أن يتجاوز عقبة اللغة، لا سيما إذا تصدّى من يترجم المنبر الفكري للغة الفارسيّة.
يُعتبر السّيد منير الخباز رائد حركة الإصلاح المنبري في نسخته المعاصرة، تتنوّع خطواته: بين صناعة نهج جديد لموضوعات المنبر والمواكبة الفكريّة مع احتياجات المرحلة، وبين المشاركة الفعّالة في محاضرات وندوات متعدّدة مع الخطباء؛ للنهوض والارتقاء بمستوى الخطاب المنبري، وبين الانفتاح على الجمهور للاستماع إلى الملاحظات والاجابة على الاستفسارات التي ترتبط بهذا الشّأن، وليس أخيراً توجيه الشّعراء والرّواديد بما يصب في الغاية ذاتها.
وهذه نتيجة طبيعيّة عندما يتصدّى رمز ديني يتمتّع بالفقاهة والوعي الاجتماعي المنبثق من الخبرة العمليّة الواسعة، قادر على استيعاب مقتضيات المرحلة، والاتكاء على المعطيات الحوزويّة، والتمتع بالحكمة الكافية لقيادة سفينته -في وسط أمواج المثقفين، والحوزويين القلقين من مشاريع التغيير-، بالاضافة إلى ما يحظى به من دعم ومباركة المرجعيّة العُليا.
ولا يمكن أن نغفل عن باقي خطباء المنبر الفكري، الذين تفاعلوا سريعاً مع حركة السّيد منير، وكانوا من الطابور الأوّل الذي قاد الحركة، ومنهم أساتذة دروس عُليا في الحوزة، من الأحساء والقطيف، في طليعتهم:
العلّامة الشّيخ عبد الجليل البن سعد، وهي شخصيّة موسوعيّة، تبرز على منبرها السّمة الثقافيّة.
والعلّامة الشّيخ حيدر السّندي، وهي شخصيّة واسعة الاطلاع والتتبع، ويتسم منبرها بالأدوات العلميّة.
والعلّامة الشّيخ الدّكتور إسماعيل المشاجرة، متتبع للدراسات الغربية كذلك، ويتمتع منبره بالطرح الأكاديمي الممنهج.
والعلّامة الشّيخ محمد العُبيدان، الذي يوظف الأدبيات الحوزويّة، وكانت له خطوة جميلة في برنامجه النّقدي على محاضراته.
ويتلوهم:
الفاضل سماحة الشّيخ حسن الهودار، الذي تفاعل منبره مع القضايا الفكريّة.
ومن ثمّ سماحة الشّيخ أحمد سلمان، الذي وظف لغة الجدل الكلامي -القديم والجديد- بطريقة ذكيّة.
هؤلاء كان لهم الفضل في مسيرة المنبر الفكري اجتماعيّاً، بالاضافة إلى التشجيع والدّعم المعنوي من أبرز علماء المنطقة، كالعلّامة السّيد علي النّاصر، والعلّامة الشّيخ علي الدهنين.. وغيرهم، ممّن بارك هذه الخطوة للمنبر، هذا بالاضافة إلى علماء الشّيعة في الدّول العربيّة في العراق ولبنان وسوريا.. وغيرها، والذين يراقبون مسيرة المنبر الفكري بمتابعة محاضرات السّيد المنير.
ممّا يُلفت النّظر في منهج السّيد الخباز، لم يعتمد العمل المؤسّساتي بصورته المتعارفة، من وجود مكتب رسمي له، وأعضاء تابعين يعملون على وفق رؤيته، ولا ماكينة اعلاميّة تصنع له المساحة، بل اكتفى بالمستوى البسيط من الاعلام المتمثّل بموقع ويب وقناة يوتيوب، لعلّ القائم عليها فرد واحد -وإن كان لديه شبكة علاقات مع متخصّصين يستعين بهم خارج تخصّصه الحوزوي-.
يبدو أن السّيد يتطلّع بمنهجه إلى قاعدة شعبيّة منبثقة من واقع تقبّل الجماهير لمشروعه، منفتح عليهم، يمكن لأيّ شخص يتواصل معه مباشرة عبر الوسائل المتعارفة اليوم، دون أن يجد أي عائق للوصول إليه.
ويُعتبر منبر السّيد الأوّل عربيّاً في الفترة المُعاصرة، ومحاضراته الأكثر تفاعلاً على مواقع التواصل الاجتماعي، ويمكن أن نُرجع ذلك إلى عدّة عوامل، أهمها:
أولاً: باعتباره رمزاً حوزويّاً ومن أبرز أساتذة العرب على مستوى البحث الخارج، فهو فقيه الخطباء.
ثانياً: لأنّه من أبرز تلامذة المرجع الأعلى السّيد السّيستاني، ويَستضيء بارشاداته وتوجيهاته.
ثالثاً: رائد حركة المنبر الفكري، الذي يحضى بقبول مجتمعي كبير، ولأنّه المُبلّغ الأبرز عربيّاً.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat