الجندر ورسائل التفكيك الأسري
محمد قاسم الطائي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
محمد قاسم الطائي

لا يخفى أن العالم شهد في القرن الأخير تطورات ملحوظة على مستويات التطبيق التكنولوجي والابستمولوجي (المعرفي) وعلى مستوى السيولوجي السياسي المحتدم، الذي وصل أوج مرحلة السباق التنافسي للسيادة العالمية من خلال تكافؤ بعض القوى والاقطاب الصاعدة، الحاملة في نفسها زهو القوة التي لا تضاهى! والمتسلحة بالأسلحة النووية المدمرة، باتت مستويات الاحتكاك فيما بينها ملحوظ كثيراً، كما أنّها جداً مقلقة .وبات أيضاً كل مفهوم يطرح يحمل معه دلالاته السياسية والجتماعية التي لا يمكن تبريرها بعدم الدلالة. يقر (دانيال اندلر) الفيلسوف الفرنسي وهو أحد المتخصصين البارزين في مجال الذكاء الأصطناعي: أن هناك تحديات قادمة في حياتنا جرّاء خطورة الذكاء الاصطناعي من خلال التلاعب بين علاقة الانسان والآلة كما يسميها، ومنبع المشكلة برأيه تدور بتحويلها إلى روبوتات غير منضبطة أخلاقياً، ومن ثم يخلص بواجب حماية أنفسنا من نفوذها المخيف . طبعاً دانيال اندلر غير رأيه في مسألة الذكاء الأصطناعي لأنه كان سابقاً من المبشرين به بكثافة، وسر عدوله عن رأيه السابق يبدو بسبب النتائج الوخيمة الصادمة التي رآها، والمشكلة الأخرى أن الذكاء الاصطناعي يستهدف إلغاء العمل البشري فهو مستهدف بالدرجة الأساس لكثير من الجهود البشرية سواء كان في الفن أو الأدب أو في المجالات الطبية والعسكرية . والوعي للذكاء الأصناعي لدى دانيال غير واضح وغير محدد بضابطة معينة، وقد انتهى الفيلسوف الفرنسي أن الانسان حين يفوض أمره لربورت آلي فهو من قبيل اللعب بالنار. وبالتالي ينتهي بطريقٍ وآخر لصنع الفوضى والسعي الهادم للبنية للبشرية المترابطة .اثبتت التجارب البشرية أن الأنشطة التحررية نتيجة لردات الفعل الضاغطة التي في العادة تفجرها، وتأخذها من مرحلة الكمون إلى الظهور، غالباً ما تكون هذه الأنشطة عرضة لئن تأخذ منحى الافراط أو التفريط في إصدار الاحكام وارتكاب الأخطاء الفاحشة، والسبب في ذلك ببساطة يعود إما لحماسة الاندفاع التي يفقدها تشخيص الأخطاء والمشاكل نتيجة الانبهار والإغراق فيها، وبالتي يتم التعامل معها وفق طرق مغالية ومتطرفة، سواء كان في طريقة التوظيف أو التبشير أو أن مشكلة الافراط والتفريط أصلاً عائدة بسبب فقدان القيادة الحكيمة والكاملة أو أحياناً بسبب تعثر المنهج المتبع في التعامل بشكل صحيح مع الواقع والفطرة البشرية .
بداية أن استخدام مصطلح الجندر كان المراد منه هو التعبير عن حق المرأة المهدور، وقد بينت السبب الداعي لجذور فكرة الجندر الكاتبة الفرنسية (سيمون دي بوفرا) الذي صدر لها كتاب عام"1949م" يسمى (الجنس الآخر) والذي أصبح فيما بعد الكتاب المادة الأولى للحركة النسوية في العالم، موضحة فيه « أن الرجل يمارس على المرأة سطوة عاطفية وهو ما جعلها تعاني من اضطهاد عميق؛ لأنها في النهاية قبِلت بتحول الرجل من إنسان واقعي إلى رمز شبيه بالآلهة ..»١
عرّف المهتمون الجندر بأنّه النوع الاجتماعي الذي يطلق على الرجل والمرأة فيما يخص وظيفة العلاقات والأدوار الاجتماعية التي يحددها المجتمع لهما، وأن هذه الأدوار تتغير حسب الزمان والمكان أي حسب الشعوب والثقافات، وهذه المحددات المصاغة من قبيل العادات والتقاليد والدين والطبقات الاجتماعية والاعلام وغير ذلك . هنا يأتي دور "الجندرة" بطرح مطلق المساواة بين الرجل والمرأة في جميع الأصعدة والنواحي سواء كان على صعيد السياسة أو الاجتماع أو الاقتصاد أو الثقافة .
ولم يكتفِ مفهوم الجندر بهذا الحد، وإنما شامل للأبعاد البيولوجية الجنسية والفسيولوجية لكل من الذكر والأنثى، وبحسب النظرية الإثنوميثودولوجية الجندرية التي من روادها "ويست وزمرمان" يرون حتى الخصائص البيولوجية للذكر والأنثى تقف ورائها العوامل والتنشئات الاجتماعية، وبالتالي أن التفاعل الاجتماعي هو الذي اعطى التحيز الموجود بين صفات الرجل والمرأة، ومن ثم انتج وجود نوعين بيولوجين فقط هما الذكر والانثى، والحال ليس كذلك بحسب طبيعة الانسان الولادية .
تشير الأبحاث أن مصطلح (الجندر) ظهر في السبعينيات من القرن العشرين، وكانت (أون أوكلي) هي أول من أدخل هذا المصطلح لعلم الاجتماع، وأصل الجندر اللغوي كلمة انجليزية منحدرة من أصل لاتيني تعني الجنس من حيث الذكورة والأنوثة .
يلاحظ أن وراء الدوافع المتطرفة لفكرة الجندر نظرات أسطورية غربية مقصية تماماً لدور المرأة في الحياة، منهم من عدّها أنها نصف رجل ومنهم من جعلها أدنى من الحيوان على سبيل المثال: سقراط يرى أن المرأة مصدر للأزمة والانهيار في العالم ثم شبها بالشجرة المسمومة الذي يكون ظاهرها جميلاً ولكن العصافير تموت عندما تأكل منها!، أما افلاطون يرى أن النساء أدنى من الرجال من حيث العقل والفضيلة.. وهكذا أرسطو فهو لا يختلف عن بقية الفلاسفة فيرى أن المرأة وظيفتها الانجاب فقط، والسبب برأيه هي ضرورة وجود الشكل الجنسي للإنجاب مردّه إلى تفوق الصورة على المادة، فالذكر من خلال حيواناته المنوية يزودنا بالصورة - صورة النسل أو نفس الذرية- بينما الأنثى تزودنا بالمادة من خلال تدفق الطمث ومادامت الصورة أفضل وأقدس من المادة فمن الأفضل انفصال الأعلى عن الأدنى، أي ضرورة أن ينفصل الذكر عن الأنثى، وبأي حال أرسطو يرى" أن المرأة تشويه للإنسانية"٢ أما (جون لوك) ففلسفته قائمة على إقصاء المرأة عن مجال الحياة الاقتصادية، وأن تبعية المرأة للرجل أمر مسلّم لديه، وأن دورها يقتصر على الانجاب والأمومة، وهكذا (جان جاك روسو) و(توماس هوبز) في نظرتهم للمرأة ولدورها في الحياة، وهذه النظرات كانت الدافع الرئيسي لنشوء فكرة الجندر المتطرفة ثم أن مسألة الجندر تطورت ومرت بمراحل بدءاً من المطالبة بحق المرأة إلى تبادل الأدوار الاجتماعية حتى وصلت المطاف الأخير وهي الجنوسة وتغيير هوية الجنس للذكر والأنثى، وسر الغموض الحاصل في ثقافة الجندر بسبب الالتباس الحاصل بين المساواة في الأدوار الاجتماعية للرجل والمرأة المعبر عنه "بالنوع الاجتماعي"، وبين شمولها للجنس والتلاعب بالهوية الجنسية، وبهذا المنطق يمكن للإنسان أن يتجانس مع الخنزير والكلب وجميع الحيوانات التي يرى أنها تناسب اشباع غريزته! وبالتالي لا ينحصر الأمر بين طرفي الذكر والأنثى البشري بل بطرف ثالث غير معلوم!، ولذا من الخطأ الفاحش أن يعرّف الجندر بتوزيع الأدوار الاجتماعية وأشباه ذلك، وإنما هو مشروع لتغيير الهوية الجنسية، وتحطيم جميع الثوابت الاجتماعية والدينية والقيمية، وإنشاء عالم جديد مجرد من هذه الأمور، لا يعترف بها بل من خلال ماكيناته الإعلامية وأجنداته، يتضح بشكل صريح وواضح ثمة سعي خفي ومعلن من أجل طمس وتمييع جميع الثوابت الموافقة للفطرة السليمة .
لذا أن قضية الجندر تدور في ثلاث مضامين :
المضمون الأول : من خلال برامج تفكيك الأسرة واستهداف شخصية الطفل حصراً، أذ أن أحد مرتكزات السياسة الجندرية هو هدم التنشئة الاجتماعية من خلال طرح صيغ عدم الثبات بخصوص الوظيفة الاجتماعية لدور الرجل والمرأة وصولاً للبنية البايولوجية للذكر والأنثى بحسب الصفات العضوية، فالرؤية الجندرية ترى الانسان غير ماسك لطبيعة ذكوريته ولا إنوثيته، وإنّما منشأ ذلك راجع كما تزعم بحسب معطى العوامل النفسية والاجتماعية والدينية والثقافية التي انتجته عبر مسيرة تاريخ البشر، فالمرأة ليس مرأة، وإنما المجتمع اعطاها هذا الدور! والرجل ليس رجلاً، وإنما المجتمع من أعطاه ذلك الدور!، فالانسان وأن كان ذكراً أو أنثى من الناحية العضوية والبايلوجية، لكن ليس له علاقة بفحوى نشاطه الجنسي فقد يصبح الذكر أنثى والأنثى ذكر، وقد يصبح غير ذلك كواحد من الحيوانات مثلا!ً حسب دوافعه الذاتية، ولذا أن مصطلح الجندر من حيث الوعي أو اللاوعي يهدف للجنس الثالث ليس بالذكر ولا بالأنثى فحسب، وإنما بحسب الهوية الجنسية المختارة!
يلاحظ على ذلك :
أولا:ً بدعية الفكرة وغرابتها ومخالفتها للثوابت الاجتماعية والدينية والقانونية، إذ أن تبادل الأدوار الاجتماعية أو أصل النوع الاجتماعي المدعى لدى أصحاب الجندرة، لا يملك المشروعية العلمية والقانونية المقنعة لإلغاء المقدار الوظيفي للرجل والمرأة مهما كان درجة مستواه كوظيفة الأمومة مثلاً، وإذا كان غير قادر على سلب ثبات الوظيفة ولو بحدود المساحة الضيقة بين الرجل والمرأة، فمن غير الصحيح جريان صحة الاطلاق النظري على عواهنه، لا أدري كيف تكون نظرية شاملة لمعالجة الابعاد الانسانية والاجتماعية والجنسية وهي لم يبرهن عليها بعد، بخصوص مشروعيتها وقيمتها وصيغها العلمية ؟! وهذا أن دل فإنما يدل على تهافتها في نفسها وخطل أصل مشروعيتها فهي مجرد أفكار متقطعة وركيكة غير صالحة للبناء ولا للمعالجات النفسية والأجتماعية .
ثانياً : مخالفتها لتكوينية الانسان البايولوجية والفسيولوجية الخاصة بكل من الذكر والأنثى، فجنس الذكر يتميز بمجموعة خصائص وصفات بايولوجية مختلفة عن صفات الأنثى، ومن هذه الفروقات أن الذكر تميز بالاخصاب والأنثى بوجود الرحم، ولئن كانت الفلسفة الجندرية لا تعبأ بهذه الاختلافات الجنسية، فإن ذلك فلا يعدو مجرد خيارات فرضية أمام هذه الحقيقة المعلومة، وبالتالي لا قيمة لها ما لم تعزز بمعطيات الأدلة الصحيحة، وهي مفقودة في المقام .
ثالثاً : طريق العلاج بقوله تعالى :يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ٣
حفظ النفس والأهل من نيران الذنوب من أوجب الواجبات في الإسلام، وقاية النفس وحفظها من شراك الذنوب والآثام أمر مفروغ منه حيث أن جميع المقدمات الشرعية والعقلية والأخلاقية دالةٌ على بداهة وجوبه، فالتكاليف الشرعية بذاتها وقاية للنفس من النيران الجهنمية التي أخبرنا بها الشارع الأقدس، أما حفظ الأهل من خلال التربية الصالحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وارشادهم ونصيحتهم وتنبيههم لهول المخاطر التي تضعف دينهم وإيمانهم ووعيهم العقائدي والفكري، وفي مثل هذه المواطن الوقاية خير من العلاج، ومن هنا أن الثقافة الجندرية هو مصداق واضح لثقافة المسخ والتشويه المتعمَّد للفطرة الانسانية، فالواجب الشرعي والأخلاقي هو حفظ فطرة الأطفال والأجيال الناشئة من شر هذه السموم القاتلة والمدمرة . وتحصينهم بالعقائد الحقّة والارشادات المنيرة، ومن هنا ورد عن نبينا الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال :( أدبوا أولادكم على ثلاث خصال : حب نبيكم وحب أهل بيته وقراءة القرآن)٤ . وهذه الخصال العقيدية الثلاث هي مفتاح الضمان والسلامة بخصوص نظام الفطرة البشري، بتأكيد حفظها من الموبقات والأمراض الأخلاقية .
وورد عن الامام الصادق (عليه السلام): (بادروا أولادكم بالحديث قبل أن يسبقكم إليهم المرجئة)٥ وفي بعض النسخ بادروا أحداثكم..
المرجئة هم جماعة أو فرقة ظهرت في أواخر القرن الهجري الأول ترى النجاة فقط بالإيمان دون العمل .
يشير حديث الامام للمبادرة والمسارعة بتعليم الأولاد العقيدة الصحيحة التي تحفظ فطرتهم من مخاطر الضياع والانحراف - والمرجئة نموذج من الانحراف في ذلك الوقت، وإلا فما فما أكثر المرجئة في عصرنا!
المضمون الثاني : الاخلال بالنظام الأخلاقي الجنسي، فالأسرة البشرية تعارفت في مسيرتها أن تكامل الحياة يتم من خلال وجود الذكر والأنثى فقط، وليس من خلال التحوير الجندري الذي قد يشمل ذكر وأنثى في آن واحد أو يشمل ذكر وحيوان أو أنثى وحيوان حسب خيارات التلاعب بالهوية الجنسية، فإن هذه السابقة تفتح باباً خطيراً في قلب جميع نواميس الحياة وإخلال بكل الانظمة الانسانية، وأولها النظام الأخلاقي الذي هو العمود الفقري للتعايش السلمي والتماسك المجتمعي، وإذا كانت بعض الأنظمة الدولية دعمت الثقافة الجندرية فهذا يعني استبدال جميع القيم والمفاهيم النبيلة والسماوية بشريعة الجندر الجديدة !! ثم استبدال المجتمع السوي بالمجتمع الجندري!! وإذا كان كذلك فهذا هو عين المسخ للهوية الانسانية، وفي هذا عبرةً لأولي الألباب .
المضمون الثالث : عدم قابلية فكرة الجندر للتطبيق من حيث أرضية الواقع والفطرة - المعروف والثابت في محلّه أن أحد دلائل صحة النظرية هو انطباقها في الواقع، أي قبولها لدى مختلف الألوان والشرائح البشرية، والحال ليس كذلك من حيثية الانسجام، فالكثير رفضها ورأى خطورتها وجرمها على صعيد المجتمع والانسانية، ومن هولاء المتدينون من أصحاب الشرائع السماوية بمختلف طوائفهم ومذاهبهم، فالأكثرية منهم رفض فكرة الجندر بالمرة . نعم أن فكرة الجندر تعرضت للتسويق بشكل هائل على المستوى الثقافي والاجتماعي ولكن التسويق شيء والنجاح شيء آخر!
والأهم من ذلك أن فكرة الجندرة تتضاد وتتنافى مع القانون الداخلي لذات الانسان ألا وهو ميزان الفطرة السليم، فالثقافة الجندرية بمختلف أبعادها تصطدم مع الفطرة البشرية، وإذا كانت كذلك أي حتى أصل الفكرة شاذ ومبتسر فضلاً عن الممارسات الشذوذية المشرعنة تحت هذا العنوان، من هنا يتبين بوضوح لكل عاقل واعي أن هذه الأفكار الغريبة واحدة من تفاهات العصر التي اعتاد أن يتحفنا بها!
______________
- ١- الجندر - د. مصطفى شيدل ص ٨٠
٢- انظر الجندر الابعاد الاجتماعية والثقافية ص٢٤
٣- سورة التحريم آية :٦
٤- ميزان الحكمة ج٤- ص٣٦٨٠
٥- الكافي ج٦-ص ٤٧
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat