يلعب الإعلام كما الحال مع الدعاية والحرب النفسية دورًا هامًا في أي مواجهة بين الأعداء أوالأخصام. ففي الإعلام حقيقة مفترضة يتم السعي لإظهارها، وموضوعية وتجرّد، لكن الحاصل أنه يتم ليّ عنق الحقيقة لتصبح دعاية فاقعة أو متخفية، هكذا هو الأمر في معظم الوسائل.
إذ أنه بين الاعلام والدعاية يظهر بالثانية الكذب المباشر أو المستتر، لكن يبقى الإعلام رغم ذلك موجّهًا ومسيّرًا وخاضعًا للدولة أوالجهة الممولة أو لسياسة التحرير في المؤسسة الإعلامية، أوحديثًا يتم تجييره حسب قناعات صاحب القناة الإعلامية في الوسائط المختلفة على الشابكة.
لا يقوم الاعلام غالبًا بمهمته الصادقة والموضوعية كاملة، ولا يقوم الإعلام بإعطاء الصورة الكاملة بل قد يجتزيء، ويقصّ، أو يزيد منها ما يتوافق مع سياسته الأعلامية وحملة التهييج أوالتجييش. وعليه يظل الإعلام نسبيًا في عرضه للحقيقة (المجردة)، ما يلقي بالعبء الكبير على المُتلقي ليعي ويفهم ويقدّر.
في العدوان على فلسطين من الرئة الجنوبية أي قطاع غزة -على سبيل المثال- تبهت الحقائق عندما تحمل إحدى القنوات التحليل على قاعدة التنظيرالفاقع فقط لتوجّه القناة أو الوسيلة الأيديولوجي، فتقوم متسلحة بحمولة السلاح بتسخيف الآخرين والتهوين من أمرهم-لاحظ حتى ونحن تحت وابل النيران-، فتُعلي وترفع من قدر جماعتها فوق السحاب! وفي اتجاه آخر تذبّ عن أصحاب المؤسسة ومموليها، ولا تسمح لأحد بنقدهم باعتبارهم مقدسين مهما فعلوا من كبائر وطنية وقومية.
إن الإعلام الإسرائيلي المضلّل والكاذب والموجّه نعرفه، ونفهم كيف نرصده ونعيه، وله من البواعث والأهداف والغايات ما نفترض أنه مفهوم كليًا للعربي، وللفلسطيني حيث يتجلى الخبث الدعائي والأكاذيب الممزوجة بالديني التناخي، والتضليل السياسي ما قد كشفته وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة وما يتصدى له مناضلو ومقاومو الإعلام والسياسة وجماهير المتابعين عبرالحواسيب ووسائط التواصل بكل كفاءة.
أريد أن أتكلم في المحظور، وفي منطقة التنبيه والخطر للعقل العربي أحادي الاتجاه أي في الاعلام العربي إبان العدوان، أو الحرب أو الخصومة بين الأعراب وهنا حالتنا واضحة.
الاعلام ليس إعلامًا وخاصة في حالة العدوان أو الخصومة أو الحرب بين العرب وفي حالتنا، فهو بالضرورة يصبح منحازًا بوضوح، أو بتستر سرعان ما ينكشف للحصيف والمتأمل صاحب العقل الذي لا تجرفه العواطف أو المصالح.
ومهما حاول الإعلام الموجّه والمهيّج أن يظهر نفسه غير ذلك فإن عليك أن تتمسك بعقلك وتداوم على اكتساب الوعي والقدرة على الفرز، واكتشاف الزيف والتمحيص والمراجعة لتمسك الوسيلة الإعلامية بالجُرم المشهود -مهما حاولت إخفاؤه-حيث تلتقط الكذب الصريح أو المخفي بين السطور أو عبر التضليل والنفاق السياسي.
بعض الفضائيات ومنذ بداية العدوان على فلسطين من رئتها الجنوبية أي قطاع غزة، وبعض مواقع التواصل الاجتماعي و"المؤثرين" تقوم بالتنظير والتلميع والإبراز المبالغ فيه لحد التخريف فقط لفكرة أو أفكار أو أشخاص "منزهين"! من أيديولوجية معينة باعتبارها الفكرة السامية والمنزّهة عن الخطأ والمنزهة عن النقد؟!
تقوم هذه الوسائل الإعلامية بذات الوقت بكتم صوت أو إخفاء أو ازدراء أو السخرية والتبخيس من كل ما يضرّ بها، وبتلميعاتها التجييشية، ليس لأن الوضع مواجهة وحرب، وإنما لتحقيق هدفين رئيسيين الأول تصوير أي تقدم (أو حتى فشل) أو نجاح ولو غير ملحوظ على أنه مسلسل انتصارات! حتى إن فاقت محطات التقصير أو الفشل أو الانهيار علو جبل الجرمق في فلسطين!
والهدف الثاني التغطية على مواطن الفشل أو التقصير، ومنع مجرد التفكير بالإشارة إليها لأنك حين الإشارة لمحطات التقصير بقصد الإصلاح أو النصيحة أو النقد أو التصويب فأنت تُزج فورًا في زمرة من زمر المتخاذلين أو الخونة أو الشياطين!
إنهم يغلقون الباب بقوة في وجه أي ناقد أو مراجع او متبصر أم متأمل أو مفكر قائلين أن ليس لك أن تفكر بغير عقلنا نحن فقط، وإلا!
إن الاعلام الموجّه الذي لا يقبل الرأي الآخر حين الحوار باحترام شديد هو إعلام مضلّل وتخريبي بقصد، بل وهو إعلام فتنوي، وهو بالحقيقة الإعلام التهييجي الذي يصعّب مهمة العاقلين من الناقدين والمعارضين بمواجهة (أبناء الله)! أو المناضلين المغسولين بماء الجنة! فكيف لهم في ظل التهييج والتجييش التخريفي أن يتجرأوا -لا سمح الله-ويشيروا بأصبع الاتهام أو النقد لمجد الأمة أو مجد المقاومة أو مجد الإسلام من أولئك النورانيين ولو فعلوا الفواحش كلها!
نتكلم في الإطار العربي حين الحديث عن الرأي والرأي الآخر، ولا نتكلم عن مواجهة الإعلام الصهيوني هنا الذي نفهمه بوضوح كما قلنا، فهو يريد تدمير الشعب العربي الفلسطيني وإبقاء الأمة مفتتة متجزئة منهارة خاضعة لسلطته وهيمنته، وهي بغالبها لذلك قابلة وإن تغطت بعباءة الكفاح أوالمقاومة أو الدين.
إن حالة التهييج الجماهيري ما يشبه فيما يحصل في مدرجات الملاعب تصبح هدف القناة (أوالوسيط الإعلامي)، فيستثار الشارع عاطفيًا، ويتم تجييشه وتجنيده ليحمل السيف ويجزّ رقاب الناظرين من زاوية مختلفة، وقبلها يطلق النار على عقولهم، ويُسكت أصواتهم باعتبارهم تعدّوا على الأرباب أو على المقاومة أو على الثورة أو على النضال أو على السلطة!
من بعيد يقوم المتهيّجون بتشكيل درع حامي ضد من يفكرون أن ينتقدوا -وتُفهم لديهم اعتدوا- على دولة المقاومة الحامية الراعية، بل ويغضّون الطرف أو يحاولون تفسير وتبرير سلوكها المنافق المريب بالعلاقة مع العدو، أو حين ترك المقاومة بلا أي ظهر الا السماء والطارق.
(أنظر علي بن أبي طالب رضي الله عنه حين قال: الناس ثلاثة: عالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح. فلا تكن من النمط الثالث)
إن الإعلام حقيقة وليس أكاذيب. بل من المفترض أن يذكر الوقائع كما هي حتى لو خالفت رأي الوسيلة أو الدولة الحاملة لها أو الفصيل، ولكن ما تراه في مختلف الوسائل الاعلامية العربية هو تحطيم مقصود لمعنى الديمقراطية والحرية والتفكّر الرباني، وإعادة تشكيل للعقل العربي من زاوية تغذية الانفعالات المتهيجة وتكبير مساحات الردح والقدح والشتم والاتهام الداخلي ضمن سياسة التنظيمات أوالدول الأيديولوجية التي تحدثنا عنها طويلا في مقالات سابقة، وهي تقوم بالانتصار لفكرة "الفسطاطين/المعسكرين" فيكون كل من سواها أو من يحمل وجهة نظر أخرى مجرد مارق أو موبوء أوعميل أو كافر فالقاموس مليء بمثل هذه الألفاظ القبيحة.
في العدوان على فلسطين وغزة لا تتضح الكثير من الأمور لدى المتابع غير المدقق أو المتابع المأسور لوجهة نظر مؤدلجة، أو المتابع المأسور لقناة إعلامية استسلم لها
لأن حالة الأسر وإغلاق العقل أو التسليم وعدم التدقيق تأتي من افتقاد الثقة بالذات أولًا
ومن عدم صلابة المرجعية أومن عدم اعتماد أداة قوية للفرز والتمحيص.
لقد حرص القرآن الكريم على دعوة الناس إلى التعقل والتفكير والتأمل والنظر ما نقرأه في مختلف الآيات التي تتضمن مثل هذه العبارات: "أفلا يعقلون"، "أفلا يتفكرون"، "لعلكم تتفكرون"، "لعلكم تعقلون"، وحيث وردت مشتقات " العقل" في القرآن الكريم (49 مرة) كما وردت مشتقات الفكر فيه ( 18 مرة ). وغير ذلك من مفردات النظر والتأمل ذات الصلة بالعقل.
إن الاعلام غير الدعاية، وما نراه بوسائل الاعلام اليوم بغالبه مجرد دعاية (بروباغندا) قاتلة تخفي متعمدة ما لاتريد ظهوره، وتدعم فكرة أو مفهوم او أيديولوجية أو موقف سياسي أو مسلك محدد، ويتم عملقة المواقف وتضخيمها لحد لخرافة، وتسليط الضوء عليها دون سواها، فلا رأي ولا رأي آخر بالحقيقة وإنما قتل للتفكر والـتأمل وتدمير لفكر النقد الملتزم وللحصافة.
وفي كل ذلك سِمة أو سمات الدعاية حيث يصور لك صاحب الدعاية أن حياتك مرتبطة بالمنتج أو الفكرة التي يطرحها، وأنك بدونه لن تستمر! فيحيط بك من كل جانب، فأنت كالغريق في بحرها ولا نجاة الا بطوقها أو أصفادها.
وعندما يهزك أحدهم لتصحو من غفلتك، فإنك تقاوم! وإن أفلحت يُكال لك سيل الشتائم والاتهامات... فأنت كاذب وأنت متواطيء وأنت عميل وأنت كافر.
نعم يتم استغلال الوسيلة الإعلامية بشكل دعائي ترويضي موجع لمن يعقلون حيث تُحقَن بكميات هائلة من مياه المجاري التي يتقبلها المشاهد أو القارئ أو المتابع البسيط لأنها جاءت من الجهة الفلانية وذلك ما يحصل بمجرد أن ينشب الذئب أظفاره بالجسد الطري.
إن الحرب النفسية كلعبة يمارسها أرباب الإعلام (وأرباب السياسة) لا تتجه لعقل المتابع وتفكره من حيث أمر الله سبحانه وتعالى، وإنما تتجه مباشرة الى نفس وعواطف وانفعالات الجمهور من حيث تحسسها لحاجاتها المتقلبة.
وماذا يريد الفقير سوى اللقمة، أو البائس أو المحبط سوي الأمل، ومن هنا يصبح الأمل المحقون بحقيقته وهمًا وكذبًا وتخريفًا، ولك العودة لمراحل سابقة كان الحلم الكبير يرتبط بالعراق اوأفغانستان أوسوريا...فإلى أين وصلنا؟
إن الحرب النفسية ضمن الأداة الإعلامية تأتي لإي أحد، ومن أهم أهدافها للتغطية على حقيقة الأفعال للدول أو الاحزاب أو الأشخاص، فحيث تراه يغنّي وهو ما تريده منه فإنك تغضّ النظر عن أنه يستخدم محسّنات الصوت مثلًا.
وحيث أنه كما ترسم لك وسيلة الاعلام أو السياسيين يصارع (من خوض الصراع) ويناضل أويكافح أو يدعو (من الدعوة الى الله أو لفكرة) أو يثور فليس لك أن تشير الى خطأ أو خطيئة هنا أو هناك في الموقف أو حتى في السلوك المتناقض أو المسلك المشين.
إن الوسيلة الإعلامية وهي بالحقيقة الدعائية ومثلها القيادت السياسية، تقوم خاصة بهذه الحرب على فلسطين بالتهييج (عملية نفسية انفعالية) والتجييش (حصد الأعداد من الناس لقبول ما أريد أن أريه إياه، ومن ورائها استنتاجاتي أنا أو ما أحقنه مع الخبر ولو كان المجاري) والتحشيد، فالعدد مهم لنجاة القناة أو الدولة أو الحزب من مواجهة آثار العدوان والتقصير الذي يجب ألا نتوقف عن الإشارة اليه، وانتقاده وطلب مراجعته من أي طرف جاء، ولكن بالوقت المناسب.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat