- طريقتي مع المونديالات منذ الطفولة.. هي متابعة حفل الافتتاح.. ثم 3 مباريات وهي نصف النهائي والنهائي.. بمعنى أن مجموع ما أصرفه من الساعات على كل مونديال هي 7 ساعات تقريباً ولا غير.. وإذا قررت ساحة الرحمة الإلهية سؤالي عن هذه الساعات القليلة.. فماذا عنكم؟ يسعدني أن أراكم أمامي مع أصدقائي المقربين وأولاد عمي.. تتحولون جميعاً إلى سردين بالفلفل الحار.
- و بسبب قلة المتابعة.. تراني مركزاً جداً في حفل الافتتاح وأحاول قراءة الرسالة التي تريد الدولة المضيفة تقديمها.. فرسالة جنوب افريقيا في 2010.. مختلفة عن رسالة البرازيل في 2014.. ومختلفة عن رسالة روسيا في 2018.. وهي بالتأكيد مختلفة عن رسالة قطر.
- في حفل افتتاح مونديال كأس العالم في قطر سنة 2022، كنت جالساً مع أولاد عمي وبقية السردين.. وفجأة ظهر الشاب المميز غانم المفتاح.. وهو ملتصق بالأرض بسبب حالته البدنية.. وجلس بجواره الممثل الأمريكي مورغان فريمان .. ثم قرأ غانم آية: (إنا خلقناكم من ذكر...) وأجابه فريمان (أستطيع أن أرى ذلك..) بصوته العميق .. الذي اختاره المنتجون في هوليود لأداء (صوت الرب) لشدة عمقه.. بل اختاروه لأداء شخصية الإله في فيلمين.. وسبحان الله عما يصفون.
- في وقتها.. لم أتمالك نفسي حتى صحت بصوت مرتفع.. الله الله.. رائع.. وقلت لمن حولي: لم يسبق لدولة إسلامية أن كان لها هذا المستوى من الذكاء في تقديم رسالتها.
حتى على مستوى اختيار الشاب غانم المفتاح.. لم يختاروا شخصاً صحيح البدن ليقرأ الآية ويجري ذلك الحوار مع فريمان.. بل اختاروا شخصاً معاقاً بدنياً.. ومعروفاً بمحبة جمهوره ومتابعيه وتعاطفهم معه.. حتى إذا فكر أحد الليبراليين والعلمانيين المرضى.. أن يعترض على تلاوة الآية في المونديال.. ستتم مهاجمته بدوافع إنسانية منحازة مسبقاً لغانم.. ويخرس بوقت قياسي.
- أنا أيضاً كنت أستطيع أن أرى نوايا دولة قطر (ومن ورائها تركيا) في مثل هذه الفعالية.. فهي قادمة بقوة لتقديم دين منفتح ومتطور بحسب المعايير الإخوانية الموجودة في قطر وتركيا.. وهم عازمون على إقناع الغرب بهذه النسخة عن الدين.. التي يحملونها.
- ويمكن القول أن قطر (ومن ورائها الأخ الاكبر تركيا) نجحوا سابقاً في إقناع حركة طالبان أن تغير خطابها.. وتجري عمليات تجميل تناسب عودتها للحكم.. وهو ما تكرر مع المعارضة السورية.. ونجح للمرة الثانية.
- ضع صورة (أبو محمد الجولاني) القديمة أمامك.. وتخيل حتى في أبعد أحلامك.. أن يأتي يوم تصفق فيه الناس -حتى علمانيهم- لهذا الشخص .. بعد تخفيف لحيته وترك عمامته.. ويعتبرونه المنقذ ويعقدون الآمال عليه.. ونعيش موجة مديح وثناء شبيهة بتلك التي كانت لجمال عبد الناصر!
هذا يكشف لك أمرين:
الأول: إلى أي مدى بلغ الاصطفاف والانقسام من الحدة .. بحيث صار عدو عدوي أعز صديق..
والثاني: كيف يمكن للإعلام إذا قرر القيام بعمليات التجميل المعروفة.. إقناع الناس بشخصية سلفية جهادية كانوا بالأمس يسمونه إرهابياً..
- لم يكن أحد يتصور (بما فيهم تركيا وقطر) أنه من الممكن إعادة إنتاج تشكيل معين.. مولود في رحم تنظيم القاعدة الإرهابي.. وإعادة تقديمه مرة أخرى بصورة أكثر مقبولية.. لولا أنهم اختبروا ذلك في أفغانستان ونجحوا في إعادة تشكيل منظومة الأداء في طالبان -ولو بنطاق محدود- مما أعطاهم جرعة ثقة بتكرار التجربة في سوريا على نطاق أوسع.
- ولكن يبقى السؤال.. هل نجح الأمر فعلاً في سوريا أم تنتظرنا انفجارات كبرى في الوضع الداخلي؟
ولن أجيب عن ذاك السؤال في هذا المقال.. لأنه مرتبط بالحديث عن الوضع الإقليمي والوضع الداخلي ويحتاج لمقال مستقل ليس هذا وقته.
- ولكني هنا أركز النظر فقط وفقط على أداء الجولاني (الشرع) وكيفية تعاطينا مع هذا الأداء.. وفي هذا المجال.. انقسمت الأراء المهمة في البلد على شطرين:
أولاً: شطر مع الشطري.. رئيس المخابرات الذي زار سوريا.. ويقول هؤلاء أنه من غير الممكن أن نقاطع جاراً قريباً مثل سوريا.. تربطنا به علاقات تاريخية.. وتواجد متبادل للمواطنين بعشرات وربما مئات الآلاف.. وحدود تبلغ 600 كم.. ومشتركات كثيرة لا مجال لعدها.
فإن قلتم أنه مطلوب للقضاء العراقي.. فترامب مطلوب أيضاً .. ولكن الواقع لا يساعد على تنفيذ أوامر القبض.
وإن قلتم أنه ساهم في سفك دماء الأبرياء.. فالسعودية.. وسوريا نفسها.. والأردن.. كلها ساهمت وسهلت انتقال الانتحاريين الذين جعلوا من دماء العراقيين أنهاراً جارية.. فهل نقاطع هذه الدول بمنطق الانتقام ؟
في النهاية نحن نريد العيش بأمان وسلام.. ونريد تجنب العداوة مع الجميع.. ولذلك لابد من علاقات مع سوريا والسعودية والأردن وأمريكا وو.. وعفى الله عما سلف.
وضع خطاً تحت؛ (عفى الله عما سلف) لأننا سنحتاجها.
ثانياً: شطر ضد الشطري.. يعتقد إنها خطوة مستعجلة.. ونوايا الجولاني ليست واضحة..
ويجب أن نحترم هيبة الدولة العراقية ودماء الأبرياء الموجودة على يدي هذا المجرم..
ويقول هؤلاء: أن هذه المسارعة إلى فتح صفحات جديدة مع الإرهابيين مثل علي حاتم ورافع العيساوي والجولاني ووو.. تضاعف حالة عدم الثقة بالطبقة السياسية.. وكأنها تستخدم جمهورها لخوض معارك سياسية مغلفة بإطار عقائدي وما شابه.. وعندما يستشهد الشباب وتثكل العوائل باسم المبادئ.. سرعان ما تتنصل هذه الطبقة السياسية عن المبادئ وتلهث وراء المصالحات والتوافقات السياسية.
بلد مثل أمريكا.. ليست بحاجة لجنود عقائديين.. بل مرتزقة.. وهي دائماً تجدهم حتى لو تبين أن حروبها كانت عبثية.. لأن دوافعهم للحرب ليست تحقيق أهداف مقدسة.. بل المال.
لذلك لا يهتم الأمريكي بتقلب الأيديولوجية.. فقد وجد جنوداً للقتال في فيتنام.. ثم وجد في عاصفة الصحراء.. ثم في أفغانستان.. ثم في العراق مرة أخرى.. وفي كل مرة لديه المطابع والورق.. والكثير من الدولارات.
في العراق نحن لسنا كذلك.. إذا خسرت جيشك العقائدي الذي يدافع عنك بصدق.. فلن ينفعك هؤلاء الحلفاء الذين تجاهلت جمهورك من أجلهم.
وأذهب لتجرب مبدأ؛ (عفى الله عما سلف) عندما يكون الفقيد ولدك.. وليس أولادنا.
- هذان منطقان يتصارعان في العراق.. ومن الواضح أن الغلبة للأول بحكم الواقع والظروف.. ولكن يجب على هذه الطبقة السياسية أن تنتبه للطبقة الثانية وتنصفها وتراعيها.. قبل أن يأتي يوم يكونون فيه مثل بشار.. لا أحد يدافع عنهم.
- بقي أمر أخير في جولتنا مع الجولاني.. وهو النغمة الجديدة التي أطلقها بعضهم بأن الجولاني حقق في أسبوع مالم يحققه العراقيون في 20 سنة!! وختمها بعبارة "أنشد عمك"..
وفي جواب عمنا هذا أقول: بماذا تفوق علينا الجولاني؟
إذا كنت تقصد (قرار حل الفصائل وتحويلها إلى الجيش السوري الجديد.. وحصر السلاح بيد الدولة) فهذا قرار تركي كما يعلم الجميع..
تركيا في مواجهتها القادمة مع أكراد سوريا -وهي قادمة لا ريب- لا تريد مواجهتهم بفصائل ومجاميع فاقدة للشرعية.. خصوصاً مع الدعم الأمريكي للأكراد.. بل تريد تركيا أن تستفيد من شرعية الجيش السوري.. وتدمج الجميع فيه ليكون سلاحها الأقوى.
والفصائل في العراق تشكلت برعاية خارجية مثلها مثل فصائل سوريا.. ولو ثمة قرار خارجي بحلها (مثل سوريا أيضاً) لحلت في ساعات.. فلا أدري كيف تحسب هذه نقطة تفوق للجولاني؟
وإذا كنت تقصد تجنب الحرب الطائفية وتحقيق المصالحة .. فما زال الوقت مبكراً للحكم.. فلا تستعجلوا التملق.. ونسأل الله أن يحقن دماء الجميع في سوريا.. السني والشيعي والعلوي والدرزي وغيرهم.
وإذا كنت تقصد ضعف الحكومة وتفريطها بالسيادة أمام الاعتداءات الخارجية.. "فكلنا في الهوا سوى".. فكما أن الاحتلال التركي يسيطر على أجزاء من العراق.. فالصهاينة يسيطرون على أجزاء من سوريا حتى كادوا يصلون العاصمة.
لا أعرف "أنشد عمك" على ماذا؟ غير عقدة النقص التي يعيشها بعضنا.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat