صفحة الكاتب : محمد الحمّار

فيديو الغنوشي أو التكيّف مع الإرادة الأمريكية
محمد الحمّار

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
 يعلم القاصي والداني أنه تم مؤخرا تسريب فيديو لراشد الغنوشي في حديث سري مع السلفيين. وقد أقام الشريط الدنيا ولم يقعدها بعدُ نظرا لكشفه عن تواطؤ رئيس حزب حركة النهضة مع الطيف السلفي بخصوص مسائل تتناقض مع النمط المجتمعي التقدمي الذي دأبت عليه تونس على امتداد عقود. ومهما يكن من أمر نعتقد أنّ الأهم ليس الحسم بخصوص وجود تواطؤ بين اللونَين الإسلاميين من عدمه (فذلك بات يقينا حتى قبل تسريب الفيديو الحدث مؤخرا)، بل الأهم أن نستخلص العبرة من حدث التسريب نفسه وذلك من خلال محاولة نبيّن من خلالها  أنّ منهجية التسريب قد تكون أخطر من مضمون الفيديو المسرب، ونأمل أن نعثر في طياتها على رسم معيّن أو سياسة معينة يشترك فيها الطيفان الإسلاميان، المجتمِعان في مكتب رئيس حركة النهضة، أو تشترك فيها طرف منهما مع طرف خارجي.
لهذا الغرض نبدأ بالتذكير بأنّه قد قيل إنّ الشريط المعني متوفرٌ على المواقع الاجتماعية منذ الربيع الماضي إجمالا. وفي هاته الحالة يحق التساؤل: لماذا أثار الشريط استنكارا وتنديدا غير مسبوقين الآن ولم يثر أية ردة فعل تذكر إبان نشره للمرة الأولى؟ بكلام آخر ما الذي حدث في الأثناء؟ وسواء صحت هذه الفرضية أم لم تصح، نجيب بالقول إنّ ما حصل في الأثناء له علاقة لا فقط بتواطؤ اللونين الإسلاميين مع بعضهما البعض وإنما أيضا بسياسة الولايات المتحدة في تونس وفي المنطقة عموما. فـ"غزوة السفارة" (14-9-2012) جاءت كالصاعقة لترج الكثير من الوضعيات ولتضفي معنى جديدا على الأحداث وعلى مضمون الفيديو المسرب بالذات. و"الغزوة" المتمثلة في هجوم نفذه جمعٌ من السلفيين على مقر البعثة الدبلوماسية للقوة الأعظم في العالم تمّ على مرأى ومسمع من قوات الأمن، كانت عاملا مرشحا للتداخل مع عامل التسريب. بالتالي و من خلال قراءة سنكرونية وبَعدية للحدثين ("الغزوة" والتسريب)، أضحى الشريط يكتسب عنصرا لم يكن يكتسبه من قبل: فضحُ الفاعلِ والساكتِ عن الفعل معا؛ السلفيين وحزب حركة النهضة. لكن لو توقف الأمر عند هذا الحدّ لبقيت المشكلة مسألة داخلية لا تهم إلا التونسيين. لكن حادثة السفارة ارتقت بالمشكلة إلى البوتقة الخارجية، دبلوماسيا وسياسيا، كنتيجة لتقاطعها مع التسريب ومع مضمون المادة المسربة. وكانت النتيجة أن وجدت كل من السلفية وحزب النهضة نفسهما مُجبرتَين على سلك الطريقٍ المسطرة من طرف الولايات المتحدة منذ سنة 2003 والتي تتوعد بمقاومة الإرهاب وبإرساء ما يسمى بالشرق الأوسط الجديد. لنرَ كيف حصل ذلك على الساحتين الداخلية والدبلوماسية.
على الساحة الداخلية، استنفذ كل من السلفيين وحزب النهضة لكل المبررات المشتركة لسياسة التكتم على ضلوعهما في نفس المشروع الملتحي. وأصبح ذلك يعني أنه لم يعد للطرفين أي مبرر لحجب التزاوج بينهما. وسواء تسريب الشريط أخذ حزب النهضة على حين غرة، أم كان هذا الأخير هو المُسرب، فالنتيجة هي نفسها: لقد مكنت "الغزوة" حزب النهضة من التحرر من عقدة التكتم ، كما مكنت السلفيين من التحرر من عقدة أمريكا. وبالتالي لا "النهضة" ما زال يهمها أن يدرك الرأي العام تواطؤها مع السلفية و لا السلفية مازال يهمها النأي بنفسها عن التحرك سرا وعن استهداف الولايات في تحركاتها. كما أنّ الذي بات يهم حزب النهضة، وبصفة مُلحة وأكثر من أي وقت مضى، هو اصطياد عصفورين بحجر واحد: أولا، إرضاء السلفيين، مما يستلزم الكشف عن التزاوج الذي كان مخفيا وإبرازه للعيان، إن تملقًا و تزلفًا أم تجاهرًا. وهذا يصح في حال صحة الفرضية القائلة بتعمد تسريب الفيديو من طرف النهضة تحديدا أو السلفيين تحديدا أو الاثنين معا، أو حتى في حال وقوع التسريب على حين غرة. فلا يهم من قام بالتسريب. ثانيا، إرضاء الولايات المتحدة نظرا للإهانة التي تعرضت إليها ونظرا لأن حكومة الترويكا النهضوية كانت مسؤولة عن انخرام الأمن حول مبنى السفارة الأمريكية. مع العلم أنّ هذه الرغبة تتباين مع الأولى حيث إنّ الذي بات يهم السلفيين هو المضيّ قُدُما في إهانة الدولة الأقوى في العالم.
 في نفس السياق لكن على الجبهة الدبلوماسية، نلاحظ أنّ الموقف الأمريكي قد تبدّل مرتين، مرة إزاء حزب النهضة لمّا تبينت أمريكا أنه لم يعد ذلك الصديق الذي لا يتوانى عن الذود عنها في حال هوجمت من قِبل أطراف محلية، و مرة إزاء السلفيين لمّا صُدمت بمدى الحقد الذي يحملونه إزاءها. ومن خلال كلتا الحالتين يتأكد لدينا أنّ تبدّل معنى الفيديو اليوم، عما كان يعنيه في أي وقت آخر (قد يكون نشر فيه كما يزعم بعضهم)، وحتى عما تعنيه المادة بحد ذاتها، يكمن في تبدّل الموقف الأمريكي من الطرفين المجتمعين في الشريط المسرب أكثر من أن يتمثل في كشف النقاب عن التعاون بين الطيفين الإسلاميين أومحاولة أحد الطرفين إرضاء الآخر. وما دام الأمر كذلك يحق افتراض وجود مصلحة أمريكية من وراء تسريب الشريط . من هذا المنظور فما آل إليه المنهج التسريبي، البَعدي للحادث الديبلوماسي، من المفروض أن يدعو الرأي العام إلى التأمل الشديد فضلا عن لزوم الحذر الشديد بعد انكشاف نية السلفية بشقيها النهضوي والجهادي في إرساء الدولة الدينية وإقامة الشريعة. وها أنّ تأكيد الفرضية يأتينا من عند السفير الأمريكي نفسه، جاكوب والس، بضعة أيام بعد يوم التسريب (التسريب تم في يوم 9-10- 2012 وتصريح السفير في يوم 13 من نفس الشهر). يقول السفير:"أدعو الحكومة التونسية إلى إنجاز تحقيقاتها وتقديم الجناة ومدبري هذا الهجوم إلى العدالة". إلا أنّ السفير، بعد الإفصاح عن هذا الطلب المنطقي و المعقول، يضيف: "وأتطلع أيضا إلى أن يتحدث الشعب التونسي علنا عن العنف والإرهاب ويقوم بدور فعال في صياغة المستقبل الذي يستحقه بجدارة" (عن جريدة "المغرب"، بتاريخ 14-10-2012، ص3). فلئن يتعين على الشعب التونسي الاستجابة لطلب الأمريكان بعقاب المتطاولين على رمز سيادة بلدهم وحماية البعثة الأمريكية مستقبلا، فبأية صفة تقترح الولايات المتحدة على شعب تونس ما يصلح من مواضيع ومتى كانت مسألة "العنف والإرهاب" تقتصر على السلفيين أو النهضويين أو العرب أو المسلمين دون سواهم، أمريكيين كانوا أم غير أمريكيين؟ للإجابة يمكن القول إنّ منهج التسريب، وهو الذي يذكرنا بـ"الويكيليكس"، أزاح الستار عن قابلية كامنة لدى السلطة المؤقتة في تونس للتكيف مع الإرادة الأمريكية (مثلما تكيفت مع إرادة دعاة الشعوذة الدينية المستوردة) وبالتالي لتطويع إرادة الشعب التونسي للرغبة الأمريكية، مما يتنافى مع مبادئ الثورة لأنه يدعم الجانب الإيديولوجي الامبريالي على حساب الجانب السياسي والاجتماعي التحرري الوطني الذي يفرضه التاريخ وتجدد مشروعيتَه الثورة. ولئن كان الأسلوب السلفي أبغض الأساليب عند التونسيين في "صياغة المستقبل" فهل أنّ مقاومة هذا الأسلوب تستوجب إتباع الأسلوب الوصائي الأمريكي، مما يذكرنا بالعقيدة المقيتة "إن لم تكن معنا فأنت ضدنا"؟ وما هي الضمانة لتبرئة السياسات الدولية و الأجنبية بما فيها السياسة الأمريكية من إمكانية التسبب في صعود السلفية وفي انتشار العنف السلفي؟
مهما يكن من أمر، لكأنّ تسريب فيديو الغنوشي أريد به ضمنيا قول ما يلي إلى التونسيين: "نحن حزب النهضة، سواءً اعتقدتم أننا المسربون للشريط أم ألححتم على أنكم أنتم الفاعلون، نعلن أنّ معشر السلفيين منضوون جهرا ابتداءً من الآن تحت لوائنا.ها نحن اعترفنا أمام الملأ بمساندتنا لسياستهم الملتحية وها هي أمريكا مستاءة منا ومنهم في الآن ذاته. فلا يمكنهم نقض هذه الحقيقة طالما أنّ كل الشعب يملك الدليل (الشريط) على أنهم يبحرون على نفس الموجة معنا. وإذا أراد هذا الشعب مقاومتهم فقد أعلن مقاومته لنا في الآن ذاته. ويبقى نهج المقاومة الأسلم أن نقتفي جميعا آثار الأجندة العالمية الأمريكية. فاحذرونا واحذروا الأمريكان يرحمكم الله."
محمد الحمّار 
 

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


محمد الحمّار
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2012/10/15



كتابة تعليق لموضوع : فيديو الغنوشي أو التكيّف مع الإرادة الأمريكية
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net