صفحة الكاتب : عمر بافولولو

وهكذا يكشف الجزائريون بطلان نظرية صراع الحضارات..
عمر بافولولو

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 تُوفي البروفيسور الأخصائي الكبير في الأمراض الصدرية والتنفسية بيار شولي (المناضل المناهض للظلم والحقد والاستبداد والتمييز العنصري) بمونبوليي (جنوب فرنسا) يوم الجمعة عن عمر ناهز 82 سنة بعد مرض عضال، ووري جثمانه بالمقبرة المسيحية بديار السعادة (الجزائر العاصمة) يوم الثلاثاء 09 أكتوبر، وذلك نزولا عند رغبته إلى جانب قبر المناضل الآخر من أجل القضية الجزائرية هونري مايو الذي مات برصاص الجيش الفرنسي في 04 جوان 1956، بحضور جمع مهيب تتقدمهم عائلته، وأعضاء من الحكومة، وكذا شخصيات سياسية كبيرة، ومن قدماء المجاهدين، وممثلون للسلك الطبي، فضلا عن جمهور نوعي جاء بكل صدق وعفوية احتراما وتقديرا للقيم النبيلة والمواقف الشريفة.

    هذا ولقد بعث رئيس الجمهورية السيد عبد العزيز بوتفليقة برقيةَ تعزية إلى أسرة الفقيد، ومما جاء فيها: "رحل عنا بيار أخونا ورفيقنا في النضال فلا يضاهي حزننا لفقده إلا ما أحطناه به على الدوام من احترام و تقدير". ولقد ذكر رئيس الجمهورية بعض خصاله قائلا: "لقد كان من الرجال أولي العزم والإقدام، قطع مسيرة كانت محطاتها التزامات لا تتزعزع في سبيل الجزائر التي ضحى من أجلها دونما تردد وبكثير من نكران الذات". وقال في حقه أيضا: "إنه شارك في حرب التحرير الوطنية وواصل رسالته مواطنا سخر علمه في خدمة شعبه".

    وقال الرئيس بوتفليقة (معزِّيا) بكل صراحة وأخوة إنسانية راقية: "إنني أشاطر كلا من السيدة كلودين شولي وأبنائها وأحفادها وذويه وجميع رفاقه في النضال في هذا المصاب وأتوجه إلى الجميع بخالص تعازي الشعب الجزائري قاطبة وتعازي".

    لقد أعطت الجزائر (حكومة وشعبا) مثالا راقيا وأنموذجا ساميا للتسامح الديني، والمعنى السائد لهذا المصطلح يقوم على مبدأ قبول الآخر باختلافه وتباينه. ولكن التسامح الديني في معناه العميق لدى الجزائريين الذين اكتووا بنار الظلم والاستبداد، وعانوا بعد ذلك من ويلات الفتنة والإرهاب هو الاعتراف الناضج والهادئ والواعي بوجود التباينات الدينية والعرقية والثقافية واللغوية، ومن ثم احترام الاختلافات باعتبارها إثراء للوجود البشري ودعوة إلى التعارف والتآلف، مصداق قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}. فلقد كشف الجزائريون بحضورهم الرسمي والشعبي في جنازة صاحب المواقف الإنسانية السامية بيار شولي زيف نظرية صراع الحضارات وبطلان نظرية صدام الإيديولوجيات، مبرهنين بسلوكهم الحضاري وإحساسهم الراقي على صحة نظرية التراكم المعرفي الإنساني، والتكامل الثقافي الكوني.

    ويحفظ الكثير منَّا كلمة الكاتب الفرنسي المشهور غوستاف لوبون التي يقرر فيها حقيقة ناصعة من حقائق تاريخنا وحضارتنا، حيث قال: "إن الأمم لم تعرف راحمين متسامحين مثل العرب ولا ديناً سمحاً مثل دينهم".

    يقول الدكتور حيدر الغدير: "لقد منح الإسلام الذي يعلي الإنسان، ويطهر نفسه، ويعتق روحه، ويزكي سريرته، الفرصة للناس جميعاً أن يتفيؤوا ظلاله الواسعة مسلمين كانوا أم كافرين، فإذا بروحه المتسامحة الكريمة تنشئ ضروباً رائعة جداً من التسامح ليس لها مثيل لا في قديم ولا في حديث، ولقد كان رجال الدين المسيحي في ظل الدولة المسلمة، يُعْطَوْنَ سلطة الإشراف التام على رعاياهم في جميع شؤونهم الدينية والكنسية، ولا تتدخل الدولة المسلمة في ذلك، اللهم إلا في حل المشكلات التي تنشأ بين مذاهبهم لتنصف بعضهم من بعض، فقد كان الملكانيون مثلاً يضطهدون أقباط مصر في عهد الروم ويسلبونهم كنائسهم، فلما فتحت مصر، رَدَّ المسلمون إلى الأقباط كنائسهم وأنصفوهم، ثم تطاول الأقباط بعد ذلك على الملكانيين انتقاماً منهم وثأراً لما كانوا قد فعلوه بهم قبل الفتح الإسلامي، فشكوا ذلك إلى هارون الرشيد، فأمر باسترداد الكنائس التي استولى عليها الأقباط في مصر، وردها إلى الملكانيين بعد أن راجعه في ذلك بطريركهم. وكانت الوظائف في الدولة تمنح للمستحق، وكان الأطباء النصارى في العهدين الأموي والعباسي محل الرعاية لدى الخلفاء، وكان لهم الإشراف على مدارس الطب في بغداد ودمشق زمناً طويلاً".

    ويقول: "إليك هذه الشهادة الضخمة لحَبر كبير من أحبار النصرانية هو ميخائيل الأكبر بطريرك أنطاكية الذي عاش في النصف الثاني من القرن الثاني عشر، أي بعد أن خضعت الكنائس الشرقية للحكم الإسلامي خمسة قرون، يؤكد ميخائيل الأكبر في هذه الشهادة تسامح المسلمين، واضطهاد الروم للكنيسة الشرقية. يقول الرجل: وهذا هو السبب في أن الله الذي تفرد بالقوة والجبروت والذي يزيل دولة البشر كما يشاء ويؤتيها من يشاء ويرفع الوضيع، لمّا رأى شرور الروم الذين لجؤوا إلى القوة فنهبوا كنائسنا وسلبوا ديارنا في كافة ممتلكاتهم، وأنزلوا بنا العقاب في غير رحمة ولا شفقة، أرسل أبناء إسماعيل (يعني العرب) من الجنوب (يعني الجزيرة العربية) ليخلّصنا على أيديهم من قبضة الروم".

    وحُقَّ لسائل أن يسأل: لماذا يُستقبل بيار شولي استقبالا رسميا وشعبيا بعد أن نُقل جثمانه على متن الخطوط الجوية الجزائرية؟

    والجواب بكل يسر وسهولة: لقد خرج الجزائريون بفطرتهم المحُبة للخير والكارهة للتعصب والنابذة للحقد من أجل تشييع جنازة الفرنسي المسيحي، وفاءً لقيمهم، وانطلاقا من فهمهم السليم لدينهم، وتقديرا لمواقف الرجل البطولية الإنسانية العملاقة، فمن مواقفه:

- لقد التحق بجبهة التحرير الوطني في 21 نوفمبر 1954، أي بعد ثلاثة أسابيع من اندلاع الثورة فقط.

- نشط من 1954 إلى 1956 في الخلايا السرية لجبهة التحرير في الجزائر، وكُلِف هو وزوجته كلودين شولي مهمات صعبة منها إخفاء قادة الثورة وتهريبهم وترتيب اتّصالاتهم مع الشخصيات الأوروبية التقدمية؛ بهدف كسب تأييدهم لمطلب الاستقلال.

- إعتقله الاستدمار الفرنسي، ثم أطلق سراحه فاستأنف نضالَه السريّ والعلني محاصَراً بمضايقات البوليس، إلى أن أمرت الإدارة الاستعمارية بإبعاده إلى فرنسا.

- سافر شولي مع زوجته من فرنسا إلى الجمهورية التونسية المستقلة حديثاً، والتحق بأسرة تحرير جريدة «المجاهد» الناطقة باسم المقاومة،  وقام هو وكلودين بمهمّات كثيرة كلفتهُما بها الحكومةُ الجزائرية المؤقتة في تونس وخارجها.

- كان أحد مؤسسي وكالة الأنباء الجزائرية عام 1961 بتونس.

- عاد بيار وكلودين شولي إلى الجزائر بعد الاستقلال في جويلية 1962، واختارا الجنسية الجزائرية.

- يُعتبر أحد مهندسي منظومة الصحة العامة؛ فقد قام بعد الاستقلال بتكوين عدة أجيال من الأطباء الجزائريين وكان خبيرا في مكافحة مرض السل، واشتغلت زوجته (المختصة الاجتماعية) في دراسة الوسط الريفي بالعديد من المراكز البحثية، وفي جامعة الجزائر.

- تقلد مناصب عليا بوزارة الصحة، ومكنته خبرته الواسعة من العمل مستشارا بالمنظمة العالمية للصحة. كما شغل منصب نائب رئيس المرصد الوطني لحقوق الإنسان، وعضو بالمجلس الوطني الاقتصادي والاجتماعي.

    لقد خرج الجزائريون إذن من أجل تشييع جنازة المناضل بيار شولي إحياءً لمواقفه النبيلة، وتكريسا لنظرية التكامل بين الثقافات، ودفنا لنظرية الصراع بين الحضارات، وردا على فوكوياما الذي ادعى نهاية التاريخ غرورا واستكبارا ، وبرهانا على أن الدين والوطن وجهان لعملة واحدة، وللشيخ محمد الغزالي الذي أوفده الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد (رحمهما الله) لزرع ثقافة التسامح ونشر منهج الوسطية والاعتدال، كلام جميل دقيق مُبدع، قرر فيه أن التسامح الديني إنما هو "اختراع إسلامي" ذلك أن الإسلام أول من بدأه وأن المسلمين أول من طبقوه. فهل نحن على العهد باقون؟؟


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


عمر بافولولو
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2012/10/22



كتابة تعليق لموضوع : وهكذا يكشف الجزائريون بطلان نظرية صراع الحضارات..
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net