إلى الذين قد تشل أجسادهم ولكن عقولهم لن تشل ، إلى الذين قد تخبو خلايا أجسادهم ولكن آخر خلية ستبقى تشهق تكمن في قحوفهم النقية ، واستجابة لدعوة أخيتي الأديبة القاصة سنية عبد عون أقدم هذه الحكاية .
ولما استباح ضميرَ الصبيّ النهار،توجه تلقاء نبع البياض، فرأى فيه وجهه .
نمت في راحتيه غصون الإختيار .
حين كان الصبية أترابه يمرحون ويلعبون ويتمازحون ، وفيما بعد يعبثون بجدائل المراهقات ، كان يتفكر كيف يلعق الأفق .
وجدته في شرفة القصر البهي ينتظر البدر كي يدخله في زجاجة أحضرها معه .
لم يكن إنسيا ًفأمه منّا نحن معشر الجان ، ولكنها تخلت عن ميزتها فتزوجت إنسيا ً .
إذن هو نصف إنسان ونصف جان .
عليّ أن أسبت لسنوات كعادتنا ، وقد أجده مل ّمن الإنتظار وعرف أن البدر بعيد .. بعيد جدا ً كبعد الطغاة عن الجنة ، ولربما يكون قد غادر الشرفة ، ولكني سأبحث عنه ولابد أن أجده ولو كان في حافات السماء .
أخيرا ً وجدت الذي فاح من وجنتيه ريح الإنتماء ،مددت له ساعدي لأسنده
وكان مصرّا ًعلى مصارعة برد الشوارع .
شوارع ازدحمت بالسابلة والمارة ، إنتشرت في جوّها أنفاس كريهة، وتناثر على أرصفتها بصاق الضعاف ،وقيء الحشاشين والمخمورين .
غض جفونه ، وكنت سأحزن لوسبقني إليه أحد ، وستفقد غمامات الجفون صبرها لوسبقتني أنثى .
هن يجهلن أوائله من أواخره كالحلقة المفرغة .
مادت بي الأرض وسرت في ّرعشة الأمل ،وشعرت كما لو كنت نيزك عام في تيه الفضاء .
أوصلته لبائع العكازات .
- كأضلاع الصغار الجياع ، متشابهة جميعا ً.
وما زال يغض الجفون ، رغم سهام النظر التي تخترق المناطق الناتئة من جسدي وتتركز في السفوح ، و تضخمت العضلات المفتولة حتى كادت تتفجر ، واهتزت الشوارب ذات النهايت الذربة الشبيهة بنهايات خناجر اللصوص .
هزها نبض الذكورة ، ورغم فحولته ظل يغض الطرف .
إختار أرخصها ثمنا ً ، وجاوزني ولم يعرني أدنى انتباه ، وراح يقرع الإسفلت :
طق ططق طق ، طق ططق ، طق ططق طق .
إختفى بين الناس كطير فر من صائده .
ألفيته قائما ً في سوق الصفّارين يتطلع إلى مطرقة صفّار ينقش ماعونا ً نحاسيا ً يقدم فيه السلاطين الطعام للفقراء في المناسبات التي يتذكرون الله فيها .
كادت أهداب مرتادي السوق ترقص لصوت الطرقات المتقاطعة .
ططق طق طق ، ططق طق طق .
ركز نظره كمتطلع من وراء حجب على سفائن في قرارة الماعون تتصدى بصدرها
للموج العنيف .
ذاب مع عكازه كما الملح في ماء المحيط .
لجج البحر تعلو وتهبط والسفائن تفلقها .
عليها عسكر عظيم .
صوت تفلق لجج البحر متناغم مع طبول الحرب .
طق طق ططق ، طق طق ططق ، طق ططق .
يبدو أن مارد الحرب يستفيق بقرع الطبول .
لكن ضمائر الطغاة لا تستفيق أبدا ً.
تعودوا على خشخشة ورق الدولارات وشجاهم صوت خرير النفط ، ولا يأبهون لفوران دموع الثكالى على ترائب الصبية ونحور الكتب المقدسة .
عند الساحل رأيته مع الفتى الأحمر وهو يخطب بالجند بعد حرق السفائن .
عكازه انقلب رمحا ً مثقفا ً.
خطبة عصماء بعد خمسين سنة فقط من تعلم البربر العربية ونحن لا نعلم كم من السنين مرت على فتق رتق العربية في أرضنا وقادتنا لايعرفون الأحرف المشبهة بالفعل .
وتهاوت الأسياف كتهاوي الكواكب في ليل معتم .
نقلوه إلى خيمة قريبة من ساحل المعركة ، وفي صدره جرح غائر .
مسحت الدم المتخثر برقة ، وشعرت كأني أهوي لقاع لا قرار له ، ولم يرمش جفنه وأنا أسقيه شرابا ً مرّا ً .
كان سعيدا ً بجرحه الغائر الذي يشعره بلذة الفوز .
لايدرك الناس معنى لذة الموت ويجلسون يرقبون النهاية بألم ، في حين يتلذذ المقبل عليه بسعادة غامرة . لابرهان لأثبات ذلك .
الجرحى كثر كما لو عصف بهم إعصارفجعل أجسادهم كأنقاض جدران البنايات وجراحاتهم كالنوافذ المحطمة .
- أراك ِ تولينه عناية تفوق غيره .
- هو يا أمي ، إنه هو الذي قلت لك أنه
سيأتي مع الأفق البهي .
سيأتي الذي عجنت معه من طين واحد يوم سالت أول الغيمات بالبراءة .
سيأتي فأفرش له الشغاف سجادة عشق .
سيأتي الذي تنمو الجبال بقدومه ، وتتفرع عنها السهول والوديان .
سيأتي الذي يمتص النحل من رضابه شهد الحياة .
- تفتأين تحلمين بكأس الحب الدهاق ورقائق خبز يحملها زاجل رحل برحيل مقل النهار .
السذج من الصبية وحدهم يصدّقون مقولة الطغاة : حب الوطن من الإيمان ، ولغاية اللحظة لم نعرف معنى الإيمان .
عندما يكونون بحاجة لمزيد من حطب الحرب يصدحون بها .
لله كم أناني هذا الوطن ، يحبه البسطاء ولا أعرف مثالاً لوطن أحب مرة .
- الحب يا أمي منازل ودرجات ، ولن أكون غبية كغيري تصدق أنه يحبني أكثر من روحه ، ولو قالها مرة ، لعدت لعالم الجن ولا أحزن حينذاك .
سأكتفي بقوله : أحبك . فقط أحبك ، فذلك كثير إن كان صادقا ً دون حاجة لمعرفة درجته .
- هذا هو الذي انتظرتيه دهورا ً ؟
- طفت البلاد فمللت مما تضمره النفوس ويطفوعكسه على سطح الجلود .
النخل يسقى من ماء واحد ولكن حلاوة ثماره مختلفة .
- وهل ذقت ثمره ؟
- ذقته ... عندما قطع ثوبه نصفين ، ستر بالنصف الأول عورته ، وجعل من النصف الآخر كفنا ً لأبي ذر .
ذقته ... عندما عانقني بضراوة لحظة اقتحامنا مع الثوار سجن الباستيل .
ذقته ... يوم سرق الطعام من رحلة الشتاء مع رفاقه الصعاليك ووزعها على المدقعين .
ذقته ...عندما قال : إن المادة لا تفنى .
في لحظة محددة غادر.
الطفل الصغير هذا الذي يتأمل في عكّاز والده المغادر صار يعقل .
- أماه .. هل كان أبي إنسيا ً أم من الجان ؟
- الذي أعرفه أنه كان من الطيبين .
- لقد حلمت به أمس ، كطير وقف عند نافذتي .
- وماذا قال لك ؟
- لم يقل شيئا ً ، وراح ينقر الزجاج
طق طق ططق ، طق ططق طق .
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat