صفحة الكاتب : صالح الطائي

كتائب القديس مار جرجيس المسلحة تمرد إرهابي أم خروج على القيم
صالح الطائي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
قراءة في بيان الدائرة الإعلامية لكتائب القديس مار جرجيس المسلحة، المنشور في الرابط التالي
 
لا ينكر أن أرض الرافدين شهدت نشوء وضمور الكثير من الحضارات التي أنشأتها الأقوام القاطنة أصلا في العراق أو الوافدة إليه من المناطق الأخرى. ولا ينكر أن العراق كان الجغرافية الأكثر استقبالا لرسالات السماء عبر التاريخ، بل إن أغلب الرسالات السماوية القديمة نزل بها الوحي على رسل من أهل العراق، وحتى تلك التي أنزلت في جغرافيات أخرى وفدت إليه لأنه أصل الدنيا ومركز الحضارة، مع أن وفودها لم يكن سلميا، حيث وفدت إليه اليهودية بعد غزوات "بختنصر" للممالك اليهودية واستقدام الأسرى اليهود وإسكانهم في بعض مناطق العراق. ووفدت إليه المسيحية عن طريق الأسرى المسيحيين الذين نقلهم كسرى فارس "شابور" سنة 260 ميلادية.(1) إلا أن ذلك لا يعني أن أهل العراق المتنورين المتحضرين كانوا سيرفضون وفودها طبيعيا.
ولا ينكر أن المسيحية كدين سماوي توحيدي لعبت دورا في حقبة ما من هذه الحقب المتعاقبة، وتركت بصمتها على تاريخ العراق حالها حال الديانات التي سبقتها. كما لم تكن الديانات الأصيلة أو الوافدة تختص بقوم أو بقبيلة من الأقوام والقبائل العراقية المتعددة التي تعيش مجتمعة على ثراه. 
ولذا نجد أن بين العراقيين الذين اعتنقوا المسيحية من كان من أصول عربية أو حاملا لدم هجين فوجود العرب في العراق القديم قبل الإسلام تؤكده الكثير من الوقائع والكتب التاريخية، نعم هناك من يدعي أن النصرانية انتشرت في العراق منذ القرن الميلادي الأول، بعد أن أسس "مار ماري" كرسيه في المدائن سنة 49 ميلادية (2) لكن هذا لا يعني  أن انتشارها في ذلك التاريخ المبكر صحيح ولاسيما أن الباحث أشار في أماكن أخرى من بحثه أن القرنين الثالث والرابع هما التاريخ الحقيقي لانتشار النصرانية في العراق حيث قال: إن أهل الحيرة تنصروا بعد عام 260 وأهل كسكر وواسط تنصروا بعد هذا التاريخ، وفي تاريخ أبعد تنصرت مناطق أخرى. وهذا يعني أن انتشارها في العراق جاء متزامنا مع توسعها الطبيعي. 
كما لا يعني هذا أن التنصير جاء بأقوام أخرى من غير العراقيين العرب إلى العراق، ولا يعني أن المسيحية اختصت بقوم من أقوامه دون غيرهم، فالمؤرخون النصارى أنفسهم يعترفون أن المسيحية كدين انتشرت بين عرب العراق في مدن الحيرة والأنبار وعين التمر وميسان وعاقولا "الكوفة" والموصل والبصرة وكرخ سلوخ "كركوك" (3) ويدعون أن من القبائل العربية التي اعتنقت النصرانية العباديين، وبنو عجيل، والإياديين، والمضريين، والتنوخيين، وبنو لخم، والطائيين، وبني سليم وتغلب، وبني شيبان، والأزديين (4)
معنى هذا أن العراق كان مقرا ومقاما لأهله العرب الذين تنصر بعضهم كما كان مقاما ومستقرا لغير العرب من أهله، وهم أقوام صغيرة الحجم قليلة العدد لا تضاهي عدد العرب فيه، اتبعت النصرانية واعتنقتها حالها حال بعض عرب العراق. 
ومن الأقوام غير العربية التي آمنت بالديانة النصرانية، "الآراميين" (السريان الشرقيين النساطرة) و"السريان" الغربيين اليعاقبة. وليس كما يدعي البيان المسلح (إن المسيحيين في دول الشرق هم سكان بلادهم الأصليين وأن الآخرين الذين يقبعون على كراسي السلطة هم إما محتلون أو غزاة أو في أحسن الأحوال ضيوف غير مرغوب بهم) فهذا الاتهام الخطير وغير المسبوق الذي يجرد العراقيين العرب من عراقيتهم الموروثة، ويحث على طردهم من العراق لأنهم (ضيوف غير مرغوب بهم) كما يقول البيان، يؤكد أن هناك أجندة تخريبية جديدة نجحت في توظيف بعض الطوائف المسيحية لإحداث فتنة جديدة في العراق تلقى الدعم من الدول المسيحية التي سبق وأن اعترضت على حكم الإعدام الصادر بحق طارق عزيز ولم تعترض على كل الأحكام الأخرى، والتي تنتظر مثل هذه الفرص الذهبية للنيل من العراق وأهله خدمة للمخطط الشيطاني الكبير!! فضلا عن وجود مشاكل تنظيمية في هيكلية النظام المسيحي وقطيعة بين القادة والأتباع وهذا ما أكده البيان من خلال قوله:(تعلن مجموعة من الشباب المسيحي المؤمن بوحدة الشعب [يعني المسيحي] والرافضة لأداء قادتنا السياسيين والروحيين الهزيل والمخجل، تعلن عن تشكيل كتائب القديس مار جرجس)
 
وفي عودة إلى السرد التاريخي نرى أنه حتى بعد إتباع بعض العراقيين للمسيحية لم تكن هناك مشكلة في هذا الإتباع الجديد لا عند العراقيين العرب ولا عند أهله من غير العرب، فلكل منهم كيانه المنفصل عن الكيانات الأخرى، كما أنه لا ولم يعني أن اعتناق النصرانية يؤكد على صدق هوية العراقي ومن لا يتبعها من أهل العراق لا يعد عراقيا!!
ثم لما تلطف الله تعالى بالعالم وأرسل نبيه محمدا (ص) للعالمين كافة، كانت أرض العراق أول المناطق الجغرافية التي تستقبل الدين الجديد بعد جزيرة العرب، وعاش أهله المسلمون وغيرهم بوئام وصفاء، وحينما قرر الإمام علي (ع) نقل الخلافة الإسلامية وعاصمتها إلى العراق تبعته في ذلك كل الأقطار الإسلامية باستثناء الشام، وفي هذه الحقبة كان من ظل على دينه من النصارى حرا طليقا لا قيد ولا شرط عليه.
وعبر التاريخ اللاحق لم تحدث مشكلة حقيقية بين المسلمين والنصارى، إلا ما كان متعارف عليه من أحداث تقع بين المسلمين أنفسهم، وخلال هذا التاريخ الطويل كان النصارى من أكثر خلق الله حبا للسلام والتسامح لأسباب كثيرة منها
عدم إيذاء المسلمين لهم أو اضطهادهم
كونهم كانوا أقلية نسبة إلى الأكثرية المسلمة
روح التسامح الديني التي كانت فاشية بين أهل العراق
وفي زمن الإمبراطوريات العربية وجد بعض النصارى أماكن في أعلى السلم الوظيفي للدولة الإسلامية كما في زمن الأمويين والعباسيين، وبالمقابل أوكل لهم السلاطين بعض أحقر الأعمال ومنها الاغتيالات السياسية والأعمال التي يأنف المسلم عن القيام بها مثل تخريب قبر الإمام الحسين في زمن المتوكل العباسي كما هو مشهور في التاريخ.
وبعد الاحتلال الإنكليزي للعراق تطوع بعض المسيحيين في فرقة تشبه كثيرا الفرقة القذرة التي شكلها الاحتلال الأمريكي، وارتكبوا مجازر في بعض المناطق العراقية، ثم نست قلوب العراقيين المسلمين الطيبة تلك الوقائع ولم تتابعها.
 ثم بعد استقلال العراق تمت معاملة المسيحيين منذ عام 1958 ولغاية ما بعد الاحتلال الأمريكي كعراقيين من الدرجة الأولى، وبعضهم كان مفضلا على المسلم الذي يتعبد بمذهب مخالف لمذهب الدولة.
هذه الخلاصة تؤكد أن ما يمكن أن تتعرض له فئة من العراقيين على يد فئة منسوبة للإسلام لا يعني أن المسلمين العراقيين هم ضد المسيحية ووجودها في العراق، لأن ما تتعرض له بعض الفئات المسلمة من الإرهابيين يفوق آلاف المرات ما تعرض له المسيحيون، وما تعرضوا له هم وغيرهم لم يصدر عن عراقيين يعتزون بعراقيتهم ويدعون إلى الوحدة الوطنية، وإذا كانت الحكومة عاجزة عن حماية هذه الفئات فذاك ليس معناه أنها تخلت عن حمايتهم أو أنهم مواطنين من الدرجة العاشرة كما يدعي البيان (ووقفت الحكومات المتسلطة في هذه البلدان موقف المتفرج دون أن تسارع الى حماية مسيحييها الذين لازالوا يعتبرون مواطنين من الدرجة العاشرة) فإذا كانت بعض العمليات الصغيرة قد أنزلتهم إلى المرتبة العاشرة ماذا نقول عن العمليات الإرهابية الموجهة ضد زوار الأربعينية إذا؟
إن سعي العراقيين الشرفاء لإقامة دولة القانون التي يقودها دستور يرتضيه الشعب ويوافق على بنوده تحريريا يوجب على كافة العراقيين التخلي عن التكتلات الطائفية والتخلي عن حمل السلاح للقيام بأعمال همجية قذرة، لأن الحمل الكيفي للسلاح يعني دماء جديدة وخرابا أكثر وتدميرا أشد وهم بعملهم ودعوتهم هذه يعطون المشروعية للجماعات الإرهابية التي تفوقهم عدة وعددا للقيام بأعمال إبادة جماعية لا نرتضيها ولا نقرها.
وأقول للدائرة الإعلامية لهذه الكتائب المسلحة الخارجة على القانون: إن دعوتكم التي تقولون فيها:(نهيب بالنشامي و الغيارى والشرفاء من الرجال والنساء من أبناء شعبنا أن يبادروا الى دعم هذا التشكيل المسلح الوليد بالمال والسلاح لنتمكن من حماية أنفسنا، فكفانا نحيبا واستنكارات فارغة، لإن هذا هو وقت العمل الحقيقي.) تذكرنا من حيث المضمون بالشعارات التي كانت ترفع قبل الإحتلال، وهي التي وجدناها حينما حمي الوطيس وقد تجمدت شوارب مطلقيها ولم تطلق قذيفة واحدة ضد المحتل، لقد ولى زمن الشعارات الفارغة، والعمل الحقيقي لا يتم من خلال فوهات البنادق، فرفقا بالعراق الحبيب أيها العراقيون "النشامى"
 
 
الهوامش
(1) تاريخ نصارى العراق، الدكتور سهيل قاشا، ص22
(2) المصدر نفسه، ص7
(3) المصدر نفسه
(4) المصدر نفسه
 

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


صالح الطائي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2011/01/26



كتابة تعليق لموضوع : كتائب القديس مار جرجيس المسلحة تمرد إرهابي أم خروج على القيم
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net