صفحة الكاتب : جواد بولس

الأمل سَرِيّ
جواد بولس
علينا أن نكون قبل السادسة مساءً في مستشفى "رمبام" في حيفا. لبسنا ما يليق بالبحر الذي كان في ذلك المساء صافيًا، زرقته تثير وتستحضر فيروز وحبيبها الذي كان دائمًا بعيدًا في السماء. 
قادت السيارة بتوتّر وبسرعة، كي تعوّض بضع دقائق تأخرّناها عند مغادرة بيتنا في القرية. بالعادة تقود زوجتي السيّارة لأنّها تخشى تهوّري واليوم أصرّت أكثر كي تضمن وصولنا في الوقت المحدّد. كانت تلك أمسية لحلم كبير تحقق، لذا وجب الفرح وشرطُهُ كفرح البسطاء؛ أن يكون ناصعًا مطلقًا. 
لم أخفِ سعادتي، لكنّني كنت أقلّ انفعالًا. لا أعرف كيف أصبح قلبي كاتمًا للخفقان ولا متى؟ كيف صارت الفصول في رزنامتي أقلَّ بكثير من أربعة؟
اتّكأت على زجاج الشباك الجانبي، أغمضت عينيّ للراحة. لم أفكّر بشيء معين، كنت سارحًا، كمن في داخله آخرُ لا يجيد إلّا تنبيش مزارع القلق. نحن، أبناء من ولدوا على سفوح الهم، أفراحنا هشة كأفراح الحمام حين يأمن نافذةً يبني عليها عشّه. لماذا لا أفرح حتى السّكر؟ 
فجأةً تذكرت ملامح وجهه. غاضبًا، صادقًا، مؤمنًا بما يقوله كجند إسبارطة. قبل شهر حدّثني عن ممرّضة هاجرت من روسيا إلى حيفا. يهوديّة شربت ماء العنصرية والقرف. مرّت بجانب "سري" وزميلته في القسم. طبيبان يتحدثان بينهما بلغتهما العربية. استفزّها الموقف، توجّهت لهما آمرةً بالتوقف عن استعمال العربية! هكذا، بوقاحة سيّد عنصري، تتصرّف ممرّضة مع طبيبين زميلين في العمل. "لو لم تتوقّف عن كيل سفالتها لخبطتها بقبضتي وأسكتُّها .. صرخت بها بأن تنصرف وإلّا .." سمعته يهمس. بدأت أصحو وأخاف. حاولت أن أبتعد عن هذه الذكرى. أطاعني "سري". حضر ببسمته الخارقة ورقّته التي تذيب قلب شاعر. أملتُ رأسي ونمت على كتفه. 
كآبائي وأجدادك، ها أنا آت أفيض سعادةً وفخرًا، ثمانية أعوام انتظرنا هذا اليوم؛ منذ أودعناك شابًا لم يخبر من الحياة إلا ما أسعفت به قرية تعيش على جرح بسلام لأن العاقلين فيها استقبلوا جند موسى والسماء براياتهم البيض فسلّموا وسلموا. لماذا لا يكتمل فرحٌ في هذه الأرض؟ تأتي أفراحنا منقوصة، مقضومة، منهوشة وكأننا ندفع فدية لقطّاع طرق يحمون الولائم أو ينهبونها. 
بين نومٍ وصحو انتصرت البسمة؛ رافقتني صورته طفلًا في حضانة "اللقاء" في القدس، وتلميذًا في ابتدائية "الفرير" ثم حين فاجأنا غضًّا ليختار العودة إلى مسقط رأسه، وكأنّه استشعر قبل عقدين ما سيحل في مدينة الهياكل، هجرها يافعًا لينهي ثانويته في مدرسة "يني". بمحاذاة الشاطئ كرّ شريط العمر كالريح. ما أجملهم! ما أظلمهم أولادنا. 
تصعقني "جنى" بسؤال مباشر واضح "هل وقفت يا أبي عندما عزفوا وغنّوا نشيد هتكفا؟" لم تنتظر إجابتي. أردفت "أنا لم أقف كما لم أفعل عندما استلمتُ شهادتي من جامعة حيفا". 
كان الاحتفال الرسمي قد انتهى قبل دقائق، على المنصّة امرأة واحدة في التسعين من عمرها وعشرون من العلماء والعمداء. "روت ربابورط" ضيفة الشرف. أرملة من تبرّع بالملايين لبناء كلية الطب وصيانتها. راودتني خلال الحفل تساؤلات عن شعور هذه السيدة ومن حولها لسماع أسماء ثلثي الخرّيجين وكانوا من العرب. فكرّت أن أرسل رسائل شكر للمعهد والقيّمين عليه. لقد رعوا أحلامنا وها هم يرجعونها لنا أنوارًا ومستقبلًا. ربما كان بعضهم يتمنّى حفلًا بطعم آخر. 
احتضنا "سريًا" كما يحتضن فلاح الصباح. في لحظات كانت سعادتنا أكبرَ من بحر وأهمَّ من نشيد وطني. حاول الأولاد (سري، جنى ودانة) أن يجرّوني إلى وجعهم الذي من نشيد، إلى مخاضات هوية كسيحة، تغاضيت مشفقًا على قلبي، يكفيه وجعًا. 
في ذلك المساء أعلن "التخنيون" عن ضمّ تسعين طبيبًا جديدًا إلى سلك تلك المهنة المقدّسة، منهم أكثر من خمسين عربية وعربيًا، لم يصبحوا أطبّاء إلّا بعدما أن أقسموا قسم "الطبيب العبري". هنا في هذه الدولة يعيش قومٌ سليل الأنبياء بدم غير كل الدماء، أطباؤهم لا يصبحون أطباءَ إذا أقسموا ما تقسم به الأمم. ذلك الإغريقي "ابقراط" ليس منهم وقسمه ليس "كشيرًا" لا يعتمد. لم ينتبه الأولاد، جئنا بمصيبة فها نحن باثنتين: نشيد وقسم. 
لا شيء سيفسد علينا هدأة الليل ونداه. أكلنا وشربنا وأصغى الأولاد لحكاية أبو فارس. في ذات مساء جاء ليزور جاره أبو الجميل، جدَّ الأولاد. وجده وحيدًا على شرفة بيته. على وجهه عبوس، حيرة وضيق. يسحب نفس سيكارته كغريق. "مالك يا أبو الجميل؟ يْروح الهم، إنت ماشاالله معلم محترم وإم الجميل معلمة والأولاد يخزي العين، كلهم ناجحين. عندك بيت وسيارة وكلشي تمام، شو اللي مضايقك يا جار" استفِزَّ أبو فارس عندما سمع أبو الجميل يشكو له هموم الدنيا ومشاكلها! "شو رايك بمحسوبك" شرع أبو فارس يقص بطيبة ملاك. "بَفيق خمسة الصبح، أختك أم فارس محضره بكرج القهوة، بفطر لقمه، بسري عَلْ أرضيات، برجع مغربية. يا دوب أغسّل، هالصّدر بستنا محسوبك، عليه هالزيتات والزعتر، البيض والزيتون، بشرب معهن فنجانين شاي بميرامية، بلفلّك هالسيكارة، بولعها وبعج عليها عجتين محترمتين وبنفخ بهَالسما وبقول عيييش يا أبو فارس عيش..".
لقد أحبّوا جدّهم وخبروا سعادته التي مع قلق. أحسست بالبرق يفرّ من عيونهم، السعادة فرصة لحظة إن أضعتها ضاعت ضياعَ غيمة، هي حكمة البسطاء، الخابرين أن لا سعادة خارجَك، هي في داخلك عند حنايا أضلعك وهناك تمامًا يا "سريّ" يعيش الأمل ويكون الوطن. 

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


جواد بولس
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2013/06/14



كتابة تعليق لموضوع : الأمل سَرِيّ
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net