صفحة الكاتب : سماحة الشيخ حلمي السنان القطيفي

من إسلام الحديث إلى إسلام القرآن بين الحيدري وطرابيشي الحلقة الخامسة
سماحة الشيخ حلمي السنان القطيفي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
 تحدثنا سابقاً عن منهجي كلا الطرحين للحيدري وطرابيشي ، وهنا قبل الحديث عن المادة العلمية التي طرحها الحيدري أحببت الاشارة لأمر وهو : أنه يبدو لنا أن السيد الحيدري قد تأثر كثيراً بالفكر الحداثوي العلماني الإيراني والعربي ، فقد حدثني من أثق به بأنه كان الدكتور عبدالكريم سروش ـ وهو المعروف بالعلمنة بل الأفكار الالحادية ـ حينما يأتي إلى قم يبيت عند السيد الحيدري ، وكان يلتقي أيضاً كثيراً مع مجتهد شبستري وكلاهما ممن عرف بهذا الفكر الذي بدت علائمه تلوح في الأفق من قبل السيد الحيدري ، والجدير بالذكر أن تأثر الحيدري بالفكر الحداثوي العربي بمثل محمد أركون أو محمد عابد الجابري أو جورج طرابيشي هو بطبيعة الحال سيتبعه تأثر أولئك بالمادة المطروحة عندهم .
 
إذن فالمحور الثاني وهو الطرح ، فهل كان في طرح السيد الحيدري أمر متميز وجديد أم لا ؟
 
لقد تشكل طرحه للمادة العلمية التي تبناها ورعاها عبر مشروعه التصحيحي التجديدي من أمرين :
 
أحدهما : هيئة الطرح .
 
ثانيهما : المادة المطروحة وهذا هو المحور الثالث الذي سنتحدث عنه .
 
أما هيئة الطرح فقد كان أقرب إلى الطرح الخطابي منه إلى البرهاني ، فهو خطابي في صورة برهان ، وفيه استغلال للعقلية العامية والضمير الجمعي في التأثر بالخطابة لجلب المستمع إلى حديثه من خلال رفع الصوت تارة وخفضه تارة أخرى ، والصراخ والتهويل والتسخيف والتسقيط لآراء مخالفيه ، بل وعرض العضلات بالتحدي لمن يعارضهم ويخالفهم بأن يتقدم للمناظرة معه عبر القناة ، وليس لمن يخالفهم فقط بل ترقى لتحدي المرجعية ومرجعية النجف على وجه الخصوص ، هذا كله من كلامه والكل قد استمع إليه فليس أمراً خفياً نكشفه للعلن . وقد تغلفت هذه الهيئة من الطرح بغلاف الدعوة لمرجعية السيد نفسه استجابة للكاريزما الخاصة التي لا يمتلكها غيره ، فكان في كل مسألة يقوم فيها بعرض مجموعة من مؤلفاته التي لا يوجد مثلها كماً وكيفاً ، فلا يعتقد القارىء أن هذا هجوم على شخص السيد فليست بيننا وبينه عداوة شخصية سابقة وإنما نحن نقوم ببيان الوجه في خطأ الطرح الذي يقوم به ليس إلا .
 
وأما المحور الثالث وهو المادة المطروحة ففيها جوانب من البحث : وقبل أن نتعرض لما طرحه الحيدري نحب إلفات نظر القارىء إلى أمر وهو أن السيد الحيدري قد ذكر في إحدى الحلقات من (القرآن في حديث رسول الله صلى الله عليه وآله) وهي الحلقة الثالثة أمراً مهما وهو أنه أشار إلى أن الأصل في هذا المصطلح وهو إسلام الحديث وإسلام القرآن هو الكاتب والمفكر جورج طرابيشي في كتابه (من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث ) حيث بين في كتابه البون الشاسع بين إسلام القرآن وإسلام الحديث ؛ قال الحيدري في كلامه :
 
طبعا هذا الاصطلاح ليس لي حتى أنه تكون القضايا لأصحابها هناك كتاب كتبه المفكر المعروف جورج طرابيشي وهو من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث، أنا بودي أن الأعزة يراجعون، لا أقول أنني موافق لما قاله في ذلك الكتاب الكبير والضخم، وإنما أريد أن أبين أن الإسلام الذي بيَّنه القرآن أو الإسلام القرآني يختلف في كثير من أبعاده عن الإسلام الروائي والحديثي واطمئنوا كثير مما ينقل على منابر الشيعة وكثير مما ينقل على فضائيات الشيعة ثم وأكثر منه مما ينقله دعاة السنة بمختلف اتجاهاتهم في صلوات الجمعة وفي منابرهم وفي قنواتهم إنما هو تأسيس لإسلام الحديث الذي لا يوافق عليه إسلام القرآن. ...إلى أن قال : إذن هدفي الأصلي من هذا البرنامج هو أنه أجعل القرآن لأننا لابد أن نأخذ ديننا أولا من القرآن، إسلام القرآن، حقائق المعارف القرآنية، نجعلها هي المحور، هي الأساس، هي المعيار، ثم نقيس عليها إسلام الحديث، الآن لماذا هذه المشكلة وقعت في الحديث؟ .
 
أقول : إن السيد الحيدري يبين لنا في هذا المقطع المكتوب من محاضرته أن الإصطلاح لم يكن من عنده ـ أي أنه ليس بتجديد منه في الإصطلاح المطروح ـ وإنما هو لكاتب مسيحي ومفكر معروف وهو جورج طرابيشي وقد كتب كتاباً اسمه ( من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث) ، وللإنصاف قال بأنه لا يوافق الكاتب فيما قاله ، إلا أن هذه دعوى تحتاج إلى إثبات من السيد فهل هو لم يوافق الكاتب فيما قاله ؟ ثم بين أن الاسلام القرآني يختلف في كثير من أبعاده عن الاسلام الروائي .وأن كثيراً مما ينقل لنا الآن هو من اسلام الحديث الذي هو بعيد عن إسلام القرآن .
 
وبعد نقل هذا الكلام أعود للبحث في تحليل المادة المطروحة من قبل السيد الحيدري فأقول :
 
أولاً : قد اتضح لنا من خلال هذا المقطع الصوتي المنقول هنا مكتوباً أن الحيدري ليس عنده تجديد في أطروحته من حيث المصطلح ، وإن كان العنوان مغايراً لعنوان كتاب طرابيشي ، وأما من حيث الغرض فما يطرحه طرابيشي هو بيان لمنشأ ابتعاد المسلمين عن الإسلام القرآني ، ولذا بيَّن ما يرى أنه من المفارقات بين مفاد الآيات ومفاد الأحاديث بينما غرض الحيدري هو ضرورة الرجوع لإسلام القرآن الذي به تنتفي الكثير من المدسوسات في الاسلام والتي دخلت لنا من خلال إسلام الحديث ، ولا يخفى أنه على هذا يكون مكملاً لمسيرة طرابيشي وحينئذٍ يبدو تأثره به .
 
ثانياً : ادعى السيد الحيدري هنا أن إسلام القرآن يبتعد كثيراً عن إسلام الحديث ، وذلك لما قدمه في حلقات سابقة من أن الكثير من الموروث الروائي السني والشيعي كلاهما قد اشتمل على الروايات الاسرائيلية واليهودية والمجوسية. وهذا نفس ما يصرح به طرابيشي في كتابه في الصفحة 492 من الكتاب . وفي نفس الوقت ينفي السيد موافقته لجورج طرابيشي ، ولم يبين لنا متعلق النفي وعدم الموافقة ما هو وإنما قال: لا أقول أني موافق له ، فإذا لم يوافقه فهل خالفه أم لا ؟ إن قال أنه خالفه فالبحث التحليلي الاستقرائي بل النتيجة التي يصرح بها في أطروحاته تقول بخلاف ذلك ، وإن قال أنه يوافقه كان تكذيباً لما قاله هنا من أنه لا يوافقه ، وكأنما كلامه هنا قد أطلقه على خجل وهي رمية من غير رام فقد كان ذِكْره للكتاب في محاضرته زلَّة لسان أوقعته في حرج مع المتابعين له من حيث إنهم كانوا يتوقعون أن كل ما يطرحه هو من بنات أفكاره وأبكار إبداعاته فتبين أنه مسبوق بذلك فكرة وطرحاً ومضموناً أيضاً .
 
أما الفكرة فهو قد صرح هنا بهذا المعنى كما نقلنا كلامه سابقاً بأن إسلام الحديث ابتعد بمراحل عن إسلام القرآن ، وأما طرحاً فالسير التراتبي لمقدمات أطروحاته الذي ذكرناه في أول هذه الحلقة هو نفس السير الذي ذكره جورج طرابيشي في كتابه ، وكذا عرضه المبسوط للمرجعيات السنية من أئمة المذاهب قابله الحيدري بعرض للمرجعيات الشيعية وقام بما لامزيد عليه من الطعن في هذه المرجعيات ورميها بالتخلف والرجعية ووأنها المرجعية النائمة الخرساء ، فارجع أخي القارىء للكتاب لترى صدق ما نقوله هنا حيث رمى طرابيشي تلك المرجعيات كالتي لمذهب أحمد بن حنبل والأشعري والشافعي بأنها التي قامت بتغييب العقل القرآني وتجميده بل حجبت العقل مطلقاً وأحيت جانب الغيب الالهي ، كما في عالم الكنيسة .
 
وقد استفاد أيضاً من طريقة عرض المادة الروائية التي في الكتاب في الإستنكاف عن اعتبار محورية الحديث ؛ حيث إن أغلب المادة في كتاب طرابيشي قد حاولت غسل دماغ القارىء وإيهامه أن الموروث الروائي الذي استعمل في تفسير القرآن كله مما يعمل على حرف المسار عن إسلام القرآن ، بسبب أنه روايات إسرائيلية ومليئة بالكذب والوضع ، فأخذ هذه المقدمات والنتيجة أيضاً وجعلهما في قالب خطابي مقبول وقدمهما للمستمع على أنهما من تحقيقاته ، ولذا لما زلَّ لسانه وذكر الكتاب اضطر للقول بأنه لا يوافق الكاتب ، ولم يبين للمستمع في أي شيء لا يوافقه وهذا تدليس وتعمية على المستمع ، وعلى كل حال فالنتيجة الكلية التي فهمها السيد الحيدري من الكتاب وهي ابتعاد إسلام الحديث عن إسلام القرآن هي نفس الفكرة التي طرحها طرابيشي في كتابه كداعٍ وباعث للانتقال من إسلام الحديث إلى إسلام القرآن ، أو لا أقل للأخذ بإسلام القرآن ؛ تمسكاً بصحة النتيجة التي صاغها له جورج طرابيشي في قالب من ذهب في كتابه هذا فأخذها السيد الحيدري دون تعب أو نصب فقط قام بتغيير الأمثلة وبعض الشواهد لا غير وذلك لتتناسب مع الطرح للمستمع الشيعي .
 
ثالثاً : ذكر السيد الحيدري في أطروحته في الحلقة من القرآن في حديث رسول الله صلى الله عليه وآله : مجموعة من المقاطع من خطب لأمير المؤمنين في وصف القرآن ، ومنها ما يرشد للرجوع إلى القرآن في ظرف الاختلاف وإلى الاحتكام للقرآن ، فاستفاد منها مرجعية القرآن ومحوريته المطلقة بخلاف الحديث .
 
أقول : إن استشهاد السيد الحيدري بهذه المقاطع من نهج البلاغة هو خلاف منهجيته العلمية المدعاة في المقام إلا أن يلتزم بأن نهج البلاغة ـ أو لا أقل ـ هذه الخطب من النهج قد ثبتت بدليل قطعي فهي من السنة القطعية فصح له الاحتجاج بها وإن لم تكن كذلك أعوزه الدليل على قطعية صدور النهج ، وإن قال بأنها ليست كذلك فهو المطلوب لنا فيثبت عليه الاشكال بأنه قد استند لغير القرآن والسنة القطعية في مقام البرهان ، فوقع فيما فرَّ منه واستند إلى غير ما يرى حجيته .
 
قال بعد أن ذكر الخطبة رقم 175 من النهج :
 
والله العظيم لا توجد هذه الصفة إلا في القرآن، لأن الحديث قد يكون يغش الإنسان، لا حديث رسول الله بل الذي نقل إلينا، لا يأتي شخص يقول إن السيد الحيدري يريد أن يقصي الحديث ويهمش الحديث، أنا لو أسمع الحديث من رسول الله لا إشكال ولا شبهة أنا تابع لرسول الله، لو أسمع الحديث من أئمة أهل البيت أنا تابع لهم ولكن الحديث لم أسمعه منهم وإنما نقل إلي من أناس سواء كانوا من الصحابة أو كانوا من تلامذة الأئمة، ليسوا بمعصومين، إذن يخطأون وينسون ويسهون ويقطعون وينقلون بالمعنى ويضعون و… إذن نفس الحديث قد لا يكون ناصحاً يعني الحديث المحكي لنا المنقول إلينا. <والمحدث الذي لا يكذب < إذن يوجد هناك محدث يكذب، تقول حتى الأحاديث المتواترة؟ أقول لكم نعم بعض الأحاديث المتواترة قد تكون كذباً، حديث متواتر وكذب؟ نعم.
 
والذي يظهر هنا أن السيد الحيدري مضطرب البيان مما يكشف عن عدم وضوح الفكرة عنده أو غوغائية التفكير في بنيته المنهجية فقد عبر أولاً بإن الحديث قد يكون يغش الانسان مطلقاً العنان ، ثم استدرك على ذلك بأن مقصوده ليس السنَّة الواقعية التي عن الرسول أو عن أهل البيت بل السنة المحكية فقط ، ، ثم يعود ثالثة ويقول إن الحديث يغش وإن كان متواتراً ، وهنا الطامة الكبرى فالمتواتر المفيد للعلم القطعي أيضا ليس معتبراً أيضاً عند السيد وإنما بعد عرضه على الكتاب أيضاً ، فالقرآن بنظره محدث لا يكذب وهو صحيح تام من كلام أمير المؤمنين ولكن نتيجة ضم المقدمتين هي أن الحديث المتواتر محدث قد يكذب ، قال : أقول لكم نعم بعض الأحاديث المتواترة قد تكون كذباً حديث متواتر وكذب ؟ نعم .
 
ونترك التعليق على هذ للقارىء المحترم فإنا لا نحب الاستخفاف بعقله دون أن يشترك معنا في الحكم على مثل هذا الكلام.
 
رابعاً : قال بالتزام الأخذ بخصوص السنة القطعية وهنا يظهر منه أن السنة القطعية هي التي سمعها هو من الرسول أو من أئمة أهل البيت وهذا قطعاً لم يحصل ولن يحصل له ، فليس إلا السنة التي نقلت له وقطع بصدورها عنهم عليهم السلام أو قطع بمضمونها ، وهذا يلزم منه أن تكون الكثير من الأحكام الفقهية في الفروع الشرعية فاقدة للدليل عنده ؛ إذ أن الكثير من الأحكام الشرعية ليس لها دليل من القرآن ـ خاصة مع الالتفات إلى أن آيات الأحكام في القرآن معدودة قليلة ـ وليس إلا السنة غير القطعية إلا أن دليل حجيتها قطعي ، فلو التزم بهذا الذي ذكرناه لم يكن فرق بينه وبين غيره ، كما أنه ليس من المعقول أن يتحقق عند السيد الوثوق بصدور كل تلك الأخبار التي تشتمل على الأحكام الشرعية التي لم يقم عليها دليل قطعي ، أو الوثوق بمضمونها .
 
خامساً : يرد على السيد الحيدري نقض واضح وتام وهو : أن استشهاده بمقاطع من نهج البلاغة في ضرورة مرجعية القرآن خاصة في صورة الاختلاف ليس تاماً وذلك لمعارضته لما ورد عن أمير المؤمنين في النهج وفي بعض الروايات من غير النهج من أنه لما كلف ابن عباس بمناظرة الخوارج رافعي المصاحف قال له :
 
لا تخاصمهم بالقرآن فإنه حمَّالٌ ذو وجوه تقول ويقولون ولكن خاصمهم بالسنة فإنهم لن يجدوا عنها محيصاً (النهج 465 ـ الخطبة 77 ) .
 
فإنه لو كان يعلم أمير المؤمنين بما للقرآن من تلك المرجعية والمحورية فلمَ نهاه عن مناظرتهم به ؟ ولو كان القرآن كما وصف السيد الحيدري من أنه المحقق للوحدة بين المسلمين واجتماعهم على أمر جامع فلمَ إذن نهاه عن مخاصمتهم به ؟ بل إن جواب أمير المؤمنين يصلح جواباً للسيد الحيدري على أصل منهجيته في جعل المحورية المنحصرة في القرن فقط ، فإن التعليل للمنع بأن القرآن حمال ذو وجوه ، مع نفيه وجود هذه العلة في السنة يكشف كشفاً قطعياً عن أن السنة لها محورية مستقلة أيضاً في عرض محورية القرآن .
 
وهذا النقض لا يمكن للسيد الحيدري الفرار منه إطلاقاً ، وليس له إلا الرجوع عن فكرته وطرحه وإلا فالالتزام بما ذكرنا يجعل مبناه في غاية التهافت .
 
سادساً : لقد قدمنا في الحلقة الرابعة المراحل الخمس التي ذكرها السيد الحيدري مدعياً أنها تصل بنتيجتها إلى ما تبناه من عدم محورية الحديث ، وسوف نعلق على تلك المراحل مرحلة مرحلة ليتضح للقارىء عدم تسلسلها في الانتاج وعدم مقدميتها بالتالي للنتيجة التي وصل إليها .
 
أما المرحلة الأولى : ذكر فيها أن تدوين الحديث قد وقع بعد 130 سنة من تغييب عملية التدوين والمنع منه ، وبالتالي مع بدايته كان للكذب والدس والوضع والتزوير حظه الوافر في الحديث .
 
ويمكن التعليق على هذه المرحلة : بعدم صحة انقطاع تدوين السنة عند الشيعة مدة 130 سنة ، بل كان مستمراً وتحت نظر الأئمة ولم ينقطع وإنما الذي انخدع به الحيدري هو ما قرأه وتأثر به من كتاب طرابيشي وغيره ، ولم يلتفت إلى أن ذلك الكاتب قد ذكر هذا المعنى قاصداً به تدوين الحديث عند اسنة ولا ينطبق هذا على الشيعة ، ولو كلف الحيدري حاله وقرأ كتاب تدوين السنة للسيد محمد رضا الجلالي (الفصل الثالث من ص 113 إلى ص 195 ، وكذا ص 564 ) لوجد من الروايات عن النبي وعن أمير المؤمنين وعن أصحابهم وعن بقية الأئمة ما يروي الغليل مما يحث ويأمر بتدوين الحديث .
 
وأما أنه مع بدايه تدوين الحديث وارتفاع المنع عن ذلك بدأ الكذب والوضع والدس فهذا أيضا في معزل عن روايات وتراث أهل البيت ، لأنه قد سبق ذلك الزمان بفترة طويلة أن رسخ الأئمة في نفوس أصحابهم عمن يأخذون الحديث وما هو الذي يؤخذ وما الذي لا يؤخذ ، وإنما ابتلي الحيدري بمتابعة طرابيشي في كتابه هذا وفي دعواه ابتداء التدوين وفي دعوى توأمية الكذب والوضع مع ابتداءه ، وكلام طرابيشي صحيح وتام في الحديث والموروث الروائي السني لا الشيعي ، ثم إنه لا ملازمة بين ابتداء التدوين متأخراً أي بعد 130 سنة كما يدعي بين دخول الكذب والدس والوضع في الحديث فإن النسبة بينهما عموم وخصوص من وجه ، ولو كان السيد الحيدري يعرف هذه النسبة بينهما وما تعنيه لما تفوه بما قال ؛ لأن نتيجتها عدم إنتاج تلك المقدمة لما استنتجه منها إذ بها يثبت أن الدليل أخص من المدعى .
 
وأما المرحلة الثانية : فقد التزم بأن كل ثقافة تلتقي بثقافة أخرى فلا بد وأن تؤثر فيها وتتأثر بها ، وهنا فقد تأثر الموروث الروائي السني بالثقافات الاسرائيلية واليهودية والنصرانية ومن جهة أخرى تأثر الموروث الروائي الشيعي بمثله السني فأثر فيه ونتج عن ذلك عملية اختراق كبيرة بدخول الكثير من تلك الاسرائيليات في الموروث الروائي الشيعي .
 
ونعلق على هذا :
 
إن ما ذكره من لابديَّة التأثير والتأثر حتى لو سلمت لكنها تتم في الموروث الروائي السني وليس في الموروث الروائي الشيعي إلا أن السيد الحيدري كان ناقلاً ومقلداً فقط لما في كتاب جورج طرابيشي فقد قال في ص 492 :
 
وإذا نحَّينا أهل الذمة جانباً لنبقى داخل الاسلام فلنا أن نلاحظ أن عملية التسنين أي تقديم الاسلام الحديثي على الاسلام القرآني لم تقتصر على أهل السنة وحدهم بل شارك فيها أيضاً الشيعة الذين أعاد فقهاؤهم ومتكلموهم بدورهم تأسيس الاسلام في مدونة حديثية إمامية . انتهى .
 
ولم يأت طرابيشي بمثال أصلاً على تحقق مثل تلك الدعاوى في الموروث الحديثي الشيعي الامامي أصلاً في كل كتابه . إلا أن الحيدري قام بمحاولة لإكمال ما بدأه ذلك الكاتب فأخذ في سوق الأمثلة التي يعتقد أنها تمثل تلك الظاهرة ، ولم يوفق في شيء منها إطلاقاً كما قدمنا هذا في الحلقة السابقة فكانت مجرد فرقعات ودعاوى جوفاء لا شاهد لها .
 
المرحلة الثالثة : هل أن الموروث الروائي السني استطاع اختراق الموروث الروائي الشيعي أم لا ؟ قال : كل شيء قابل للاختراق ، فقط القرآن والنبي والمعصوم لا يُختَرَقُون ، وفي هذه المرحلة أشار إلى روايتين أو ثلاث في امتناع بعض الرواة الشيعة من مجالسة العامة خوف أخذهم الروايات منهم لما رأوا أن بعض الرواة من الشيعة قد خلطوا روايات من السنة بروايات الشيعة.
 
ونعلق على هذه المرحلة : بأن الكبرى الكلية بأن كل شي قابل للاختراق ما عدا النبي والقرآن والمعصوم صحيحة وتامة ، إلا أن تطبيقها على دعاوه لم يكن صحيحاً ، وذلك لأنه يتم لو كان الحديث متروكاً للناس وأما مع التشديد والرقابة الكبيرة والشديدة من الأئمة عبر سنوات متمادية منذ زمن أمير المؤمنين إلى زمان الامام الامام العسكري بل إلى فترة الغيبة الصغرى بكاملها فلا ينطبق على الموروث الروائي الشيعي ما ذكره فيما يرتبط بالموروث السني ، وقد صرح الحيدري نفسه بهذا المفاد من خلال بعض الروايات إلا أنه أصر على أنه رغم ذلك كله قد تم اختراق موروثنا الروائي ، وهو غريب منه. وهاك نموذجاً من تلك الكتب التي تدل على رقابة الأئمة عليهم السلام للروايات الصادرة عنهم :
 
1 ـ كتاب الحلبي الذي عرض على الإمام الصادق عليه السلام وصححه.
2ـ كتاب الصحيفة السجادية نسخة السيد يحيى التي عرضها المتوكل بن عمير وقابلها بنسخة الإمام الصادق عليه السلام التي هي بخط الإمام الباقر عليه السلام. 
3 ـ كتاب محمد بن قيس الذي عُرض على الإمام الباقر عليه السلام.
4ـ كتاب اختيارات الأيام للديلمي الذي عُرض على الإمام الهادي عليه السلام. 
5 ـ كتاب ابن خانبة الذي قوبل مع كتاب أخرجه الإمام العسكري عليه السلام. 
 
6 ـ كتاب يوم وليلة ليونس بن عبد الرحمن الذي عرضه أبو هاشم الجعفري على الإمام العسكري عليه السلام.
 
7 ـ كتاب عبد الله بن الجبر المعروف بديات ظريف بن ناصح عرضه عبد الله بن الجبر على الإمام الصادق (عليه السلام) فقال: نعم هو حق. و عرضه ظريف ويونس بن عبد الرحمن. وعرضه الحسن بن الجهم الثقة على الإمام الرضا (عليه السلام) فقال: ارووه فانه صحيح. 
8 ـ كتب بني فضال التي أجاز الإمام العسكري العمل بها. 
9 ـ الكتب التي أجازها الإمام الجواد عليه السلام.
 
المرحلة الرابعة : هل أثر الموروث الروائي الشيعي المتقدم في الموروث الروائي المتأخر أم لا ؟ وقد أصر في هذه المرحلة من خلال ما طرحه على تأثر الموروث المتأخر من الموروث الروائي المتقدم ، واستشهد بما في البحار من الروايات وأنها من تأثير ذلك الموروث المتقدم .
 
والتعليق على هذه المرحلة سهل جداً :
 
فإنا إذا منعنا من أصل تحقق الإختراق للموروث الروائي الشيعي كما أشرنا له في التعليق على المرحلة الثالثة ، فلا أثر سلبي من ذلك التأثير من المتقدم في المتأخر ، ثم إن العلامة المجلسي قد أشار في مقدمة بحاره أنه اجتمع عنده من كتب المتقدمين ومن الأصول الأربعمائة ما لم يجتمع لغيره ممن تقدمه ، وهو شاهد على أنه حضرت عنده من الروايات ما لا تجده في غيره من كتب المتقدمين عليه .وهكذا العلامة حصلت عنده من كتب المتقدمين ما لم يحصل عند غيره .
 
المرحلة الخامسة : عرض نتيجة تلك المراحل و هي : هل يمكن اعتماد مثل هذا الموروث الروائي السني والشيعي أم لا ؟ ومن باب المثال قال : المنطق القرآني يدعو للحوار والمنطق الروائي يدعو للإرهاب أم لا ؟
 
والتعليق عليها واضح جلي بعدما قدمنا من ضعف وتهالك تلك المراحل السابقة ، فإنه إذا لم يثبت انقطاع كتابة الحديث عند الشيعة ولم يثبت تأثرهم بالموروث الروائي السني وثبتت الرقابة الشديدة على الأحاديث الصادرة عنهم عليهم السلام من قبلهم صلوات الله عليهم ، فأي اختراق حصل للموروث الروائي الشيعي أنتج هذه النتيجة ؟؟ ((فمالكم كيف تحكمون )) .
 
خلاصة الدراسة حول منهجي الحيدري وطرابيشي :
 
النتيجة الأولى : يشير كتاب طرابيشي إلى أنه كانت بداية «الانقلاب السني» أو التحول الخطير من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث مع مالك ابن انس، ثم اكتملت أبعاده مع الشافعي، واستأنفه ابن حزم، فيما يكاد أن يكون انقلاباً على الانقلاب في «نشأة ثانية». وكان الشافعي أول من نظر لتحويل الرسول صلوات الله عليه وآله من مشرَّع له إلى مشرِّع .
 
وكان أصل القصد من الدراسة الطرابيشية في مشروعه لنقد نقد العقل العربي هو بيان أسباب تخلف المسلمين عن اللحوق بركب التطور وتقبل المفاهيم الحداثية ، ولذا فقد ذكر أكثر من مرة في كتابه التنظير بالانتقال من مسيحية الكنيسة إلى مسيحية الانجيل ، وأن الذي تحرك للانتقال بها هو مارتن لوثر ، وأن المسلمين يحتاجون إلى مارتن لوثر آخر لتحرير المسلمين من صنمية الحديث للرجوع إلى فضاء القرآن .
 
قال في ص 493 : ذلك أن السلطة الدينية عند أنصار السنَّة الذين هم أهل الحديث كما هي عند أحمد بن حنبل سلطة نقلية وبتعبير أدق سلطة سنية ، وبالتالي لا ترى في الجديد أي جديد إلا بدعة ولا تعترف بأي استقلالية ذاتية للعقل ونجعله في تبعية مطلقة للنقل .
 
ذكر هذا بعد أن أشار إلى أن المعتزلة قبل وأد حركتهم كانوا قد قالوا بوجوب التوافق بين النقل والعقل واستبعاد كل ما يتعارض من النص مع العقل أو إعادة تأويله ولكن تسليم سلطة الدين لأهل الحديث قد وأد هذه الحركة . انتهى موضع الشاهد .
 
أرجو أن تكون صورة المقاربة بين ما يرنو له جورج طرابيشي والسيد الحيدري الآن قد اتضحت للقارىء جيداً ولا شك أنها ستتضح أكثر فيما لو أعاد قراءة طرح لحيدري مع تطبيقه الأمثلة التي ذكرها .
 
النتيجة الثانية : أن غرض السيد الحيدري ليس السعي للاقتراب من قمة الهرم في المرجعية ، وليس هذا سوء ظن منا فيه ، وإنما هو قراءة متأنية لعدة أمور :
 
1ـ تسلسل الخروقات الأدبية منه اتجاه المرجعية الدينية المختلفة معه .
 
2ـ ملاحظة حالات التباهي بالجاذبية الخاصة التي يمتلكها (الكاريزما) والمتكررة في كل أطروحة ومحاضرة تارة بتعداد المؤلفات وأخرى ببيان الصفات الشخصية وثالثة بعرض كثرة الطلاب والأتباع ورابعة بعرض تنوع المطالب وخامسة بادعاء التجديد في الطرح ، وكلها لا تغني ولا تسمن من جوع في الميزان الإلهي للمستحق للمرجعية .
 
3 ـ كثرة البالونات الهوائية التي ينفخها بين الحين والآخر في الطعن والتسخيف والتجهيل والرمي بالتخلف للمرجعيات الأخرى تارة بلسانه وأخرى بنسبة ذلك لغيره .
 
4 ـ النظرة الاستعلائية على سائر العلماء وعلى بقية المطالب العلمية المطروحة من قبل غيره متشبثاً بالظهور الاعلامي الكثيف 
 
النتيجة الثالثة : ظهور الضعف العلمي الواضح جداً من خلال المادة المطروحة من قبله ، هذا مع تضخيمها لها وإعطاءها زخماً جماهيراً وبعداً لوجيستياً ليكوِّن له حصانة دبلوماسية تمنع من الرد عليه أو دحض ما يطرحه ، ففي أغلب ما طرحه إن لم يكن كل ما طرحه لم يوفق ولو في مسألة واحدة لإصابة الصواب فيها ، بل كان مجانباً للصواب وقد أوضح الفضلاء الذين تصدوا للرد عليه كل ذلك الضعف عبر مختلف وسائل التواصل الاجتماعي . وكان المفترض من مثله أنه كلما ازداد في الطرح قويت شوكته واشتد عوده إلا أن الملحوظ بالعكس فقد انطبقت عليه مقولة (( من كثر لغوه كثر غلطه)) .
 
وإلى هنا ونكتفي بيان أبعاد المقاربة بين كتاب جورج طرابيشي صاحب الفضل على السيد الحيدري في سبقه في اطرح والاصطلاح والمادة المطروحة ، وإن كنت هناك جهات من الإشكالات والملاحظات والتأملات في منهجيتهما يتوصل لها القارىء بذكاءه ونباهته ، والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين .
 
 

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


سماحة الشيخ حلمي السنان القطيفي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2013/08/28



كتابة تعليق لموضوع : من إسلام الحديث إلى إسلام القرآن بين الحيدري وطرابيشي الحلقة الخامسة
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net