صفحة الكاتب : صالح الطائي

الاستغراب رحلة مع رؤى الدكتور طالب محيبس الوائلي في كتابه "توظيف الاستغراب في الدراسات التاريخية العربية"
صالح الطائي

لا زالت الوافدات الفكرية الغربية تثير نقاشا محتدما بين المؤيدين والرافضين من العرب، ولازال هناك عرب يتهيبون من هذه الوافدات فيعدوها مرة غزوا فكريا، ومرة أخرى تقليدا قاتلا للإبداع، وثالثة تشبها بالغرب الكافر، ورابعة تجاوزا للموروث،وخامسة خنوعا لليهود.! ومن هذه الوافدات التي نالت نصيبها كان "الاستغراب" فالاستغراب الذي يقابل الاستشراق أخذ بدوره حيزا من هذا الخلاف والنقاش ربما بسبب اختلاف التعريفات التي وضعوها له، إذ عرفه الدكتور "الشارف" أنه: "ظاهرة نفسية واجتماعية وثقافية معاصرة، يتميز الأفراد الذين يجسدونها بالميل نحو الغرب والتعلق به ومحاكاته. نشأت في المجتمعات غير الغربية ـ سواء أكانت إسلامية أم لا- على إثر الصدمة الحضارية التي أصابتها قبيل الاستعمار وخلاله"

وعرفه الشيخ "عبد العظيم نصر المشيخص" أنه: "يعني التغريب وهو: عملية التهويد الفكرية التي يمارسها المثقف العربي إزاء ثقافته وقضايا أمته، بحيث يكون الغرب بمحاسنه ومساوئه قدوة له في كل شيء! وهذا النمط من التهويد الذي سار علية( الحداثيون) ما هو إلا نقلة نوعية وكمية في العقلية العربية نحو ما نسميه بالتقدم والتطور العلمي والثقافي الذي يتبجح به الغرب، ويفتخر به على العرب والمسلمين"

أما الدكتور "طالب محيبس الوائلي" فيعرفه بأنه: "العلم الذي يختص بدراسة الغرب (أوربا الغربية والشرقية والولايات المتحدة وروسيا) من جميع النواحي الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية.. وطلب علومه".

 

ما لمسته من الاختلاف في التعريف أنه كان السبب في اختلاف النظرة للاستغراب ذاته؛ واختلاف المواقف منه بين مؤيدة ورافضة، فمن يراه تجربة معرفية تسهم في تنمية الوعي العربي يراه جميلا مفيدا نافعا، أما من يراه تبعية وتخاذلا واستسهالا للحصول على المعرفة من خلال التقليد لا من خلال الاكتساب والفهم يراه سيئا.

وما لحظته على اختلاف التعريفات أيضا أن بعض الباحثين يفرقون بينه وبين التغريب (westernization) الذي يعني محاولة فرض الفكر والمناهج الغربية في مجالات الحياة على الشعوب الشرقية ومحاولة سلخ تلك الشعوب من هويتها الأصلية، وبعضهم الآخر لا يفرق بينه وبين التغريب إلا من حيث التسمية، أما المضمون برأي هؤلاء فواحد والهدف واحد، حيث يرى الدكتور "عبد الله الشارف" في موضوعه المعنون (الاستغراب في مناهج العلوم الاجتماعية) المنشور في موقعه على شبكة الانترنيت: إن الاستعمار السياسي والعسكري للبلاد الإسلامية، كان عاملا في تحريك عجلة الاستغراب والدفع بها إلى الأمام. فما أن انتصف القرن التاسع عشر الميلادي، حتى غدت معظم الأمم المسلمة عبيدا للغرب الأوربي وخولا له. فلما استيقظ المسلمون على إثر ضربات العدو المتوالية وصحوا من سكرهم، شرعوا في البحث عن الأسباب التي مكنت العدو من رقابهم وغلبت عليهم الأوربيين. غير أن ميزان الفكر كان مختلا أشد ما يكون الاختلال، وقد تجلى هذا الاختلال في أن شعورهم وإحساسهم بالذلة والهوان كان يحثهم على تبديل حالتهم المزرية، لكن رغبتهم في الراحة وإيثارهم الدعة والارتخاء - من جانب آخر- حملهم على التماس أقرب الطرق والوسائل وأسهلها لتغيير تلك الوضعية. وهكذا مال أولوا الأمر من الحكام ومن في حاشيتهم وعلى شاكلتهم، وكذا كثير ممن حمل راية الإصلاح من المفكرين والمثقفين إلى محاكاة الغربيين في مظاهر تمدنهم وحضارتهم. ومن ثم لم تكن المحاكاة إلا الوسيلة الوحيدة التي تستطيع أن ترقى إلى استعمالها كل عقلية مرضية ومختلة.

والشارف يبدو هنا وكأنه وضع محورين للإستغراب يقوم عليهما كيانه، وهما: 

الأول: حالة الذل والهوان التي شعر بها العرب وهي التي دفعتهم إلى البحث عن خروج من هذه الورطة والحالة المزرية. 

الثاني: إيثار العرب للدعة وطلبهم للراحة وكرههم للسعي الجاد حال دون بحثهم عن حل من داخل موروثهم فسعوا إلى تقليد الغرب ومحاكاتهم.

وقد عزا ذلك إلى العقلية العربية المرضية والمختلة الخاملة التي عجزت عن مسايرة التقدم فلجأت إلى ثقافة الآخرين وفكرهم واستوردتهما ليقودا الحراك الفكري في المجتمع العربي تقليدا واستنساخا؛ بعيدا عن الخصوصية والموروث، وفي السياق نفسه يرى "أبو الأعلى المودودي" في كتابه (الحجاب) الذي ألفه في أربعينات القرن الماضي وصدرت طبعته الثانية عام 1964 إن المستغربين هم: "المائلون إلى الغرب المفتتنون بحضارتـه" 

 

ولقد وجدت هناك من كان يسعى إلى تعميم حالة الاستغراب كرد فعل على التمسك بالموروث الذي يراه السبب في تأخرنا فالدكتور "محمد عابد الجابري" يرى في كتابه (نحن والتراث) "إن على العرب أن يتحرروا من سلطة التراث عليهم، وأن يمارسوا سلطتهم عليه".

وتكاد نظرة الدكتور "طالب الوائلي" أن تتواءم كليا مع نظرة الدكتور العابدي فضلا عن كونها وضعت الأسس العلمية الدقيقة التي تحول النظرة السالبة للاستغراب إلى نظرة موجبة تحقق الإفادة للنشاط الفكري العربي، فهو يرى أن تطوير منهج الاستغراب واستخدامه ـ في الأقل ـ في الدراسات التاريخية العربية لا يقل أهمية عما حققه الاستشراق من فائدة للغربيين، ويقول بهذا المعنى: "كان الاستشراق من بين المؤسسات التي سخرها الغرب لاكتشاف عبقرية الآخر وأسباب هيمنته، فتمكن من استعادة وديعته التي استودعها الشرق، ونقصد به تراثه الفكري اليوناني والروماني... فحين سبر مفكرو الغرب أغوار الحضارة العربية الإسلامية تداعوا لبناء مشروعهم الحضاري الخاص مع الحفاظ على خصوصيتهم وثوابتهم" وكأن الدكتور الوائلي يريد القول إن منهج الاستغراب ممكن أن يقدم لنا دعما كبيرا في بناء مشروعنا الحضاري، دون أن يؤثر على ثوابتنا وخصوصيتنا. ولذا يضع شروطا يتوجب توفرها لمن يريد الاستعانة بالاستغراب: "فمفهوم الاستغراب يقتضي فهم الغرب بعيون الشرق بمنهجية خاصة به يجدر بنا بناءها انطلاقا من واقعنا وثقافتنا العربية الإسلامية ومفاهيمنا الشرقية قبل ولوج حضارة الغرب ودراستها".

فضلا عن ذلك يرى الدكتور الوائلي أن استخدام منهج الاستغراب في دراساتنا المعاصرة سوف يوفر فرصة معرفية غاية في الأهمية لأنه بعد تطويره واستكمال أطره وأدواته سوف يُحَولْ الغرب من ذات (دارس) مهيمن بأنموذجه الحضاري وإمكاناته العلمية والاقتصادية؛ إلى ذات (مدروس) للتعرف على أسباب تفوقه الحالي وبالتالي خلق أنموذج نهضوي افتراضي عربي مع الإفادة من التجربة الغربية دون اقتباسها تماما.

وإتماما للتخطيط العلمي لمشروع الإفادة من الاستغراب يرى الدكتور الوائلي وجوب توافر الإمكانات المادية والعلمية  لخلق حركة استغراب ممنهجة تسير على وفق مخطط صحيح متسلسل تضم مجاميع بحثية في مراكز دراسات متخصصة لها رؤى وأهداف طموحة وإمكانات ووسائل ناجحة إلى الحد الذي يؤسس لبنية تحتية تمكن من تدشين نهضة خاصة تراعي الخصوصية والإمكانات وتعطي العرب دورا عالميا كمحور شريك للغرب.  

 

والذي أراه أننا يجب أن نرفض التطرف في مواقفنا فالعقلانية مطلوبة ومفيدة ورأي بعض الداعين إلى الأخذ بالاستغراب دون ضوابط لا يقل تشددا عن رأي القائلين بوجوب رفضه جملة وتفصيلا، فكلا الرأيين متطرفان، وما دام الجانب الفكري هو الذي يتحكم في تنظيم العلاقة التي يتخوف منها البعض لا تعد من ضرورة للخوف أصلا لأن المثاقفة والتبادل الثقافي أمر يفرض نفسه عادة على الواقع بما له من قدرة على التغلغل بالرغم من كل الموانع الموجودة، وهو كالخلية السرطانية ما إن يجد له موضعا حتى يصبح قادرا على النمو والتوسع، ولكنك متى ما وضعت الجسم تحت السيطرة يمكن أن توقف النمو أو توجهه إلى الجهة التي تريدها وممكن أن تحوله إلى ورم حميد. ففي زمن الحدود الثقافية والعلمية المفتوحة ليس هناك ما يمنع أحداً من دراسة أي شيء في أي مكان. كما أن ذات الزمن يوفر فرصاً هائلة لتعميق المعرفة بالذات وبالآخر, ويرى البعض أنه لا يمكن توجيه اللوم لمن يفيد من تلك الفرص بأقصى ما يمكن, لكن اللوم يوجه لم يضيعها ولا يستثمرها.

هذا فضلا عن الإفادة التي يحققها النظر في علوم الغير والإفادة من تجاربهم وهو أمر أقره الإسلام أو في الأقل أقره المجتمع المسلم فالشاعر الذي قال:

وأضمم مصابيح عقول الرجال إلى         مصباح عقلك تزدد ضوء مصباح

مع أنه لم يحدد جهة مصابيح عقول الرجال الآخرين إلا أن دعوة حقيقية للأخذ من المصابيح شرقيها وغربيها تتضح من شعره. 

كما أن ترجمة كتب القدماء أي كتب الفلسفة الإغريقية والرومانية هي التي فتحت الباب واسعا ليتحول بعض العرب إلى فلاسفة يشار إليهم بالبنان، ولا اعتقد أنهم كانوا قادرين على الوصول إلى هذه المنزلة لولا الإفادة من تلك المؤلفات. اللغة نفسها بوصفها كائن حي متجدد تأخذ عادة من اللغات الأخرى وتعطيها، وقد تسللت إلى لغتنا العربية آلاف الكلمات من اللغات الأخرى بما فيها اللغات الغربية فاحتضنتها لغتنا وتفاعلت معها وأضفت عليها أو على بعضها صبغة عروبية خالصة؛ كما احتفظت الأخرى بأصلها دون أن تخدش لغتنا. وهذا ما أشار إليه الدكتور "محمد عمارة" بقوله: وإن عاقلا من العقلاء لا ينكر أن (القاموس) في أي فن من الفنون أو علم من العلوم، قد غدا في واقعنا الفكري أداة شديدة الفعل والتأثير في تلوين الفكر والمذهب والرؤية والهوية، ومن ثم تلوين الاتجاه الحضاري لمن يستخدم هذا القاموس بالفلسفة الحضارية لواضعيه ومنشئيه".

إن الحضارات الإنسانية التي تزامنت أو التي قامت على أنقاض ما سبقها أفادت بالتأكيد من خبرات السابقين وأسست عليها مناهج تطوير وبناء أبدعت فيها. الإسلام نفسه بالرغم من كونه دين سماوي إلا أنه جاء متمما للديانات التي سبقته والتي أنزلها الله سبحانه إلى أمم غربية وشرقية؛ فأخذ بما يتساوق مع منهجه ورفض الشاذ والحشو والمدسوس والمحرف.

إن التفاعل الإنساني كان ولا يزال قائما منذ أن وجد الإنسان في نفسه قدرة استخدام معطيات الآخر ليقدم لنفسه خدمات قد يعجز عن ابتكارها بنفسه، ومتى ما قننا الأخذ من الآخر بعلمية يمكن أن نحصن ثقافتنا من الانهيار وربما لهذا السبب دعا "إدوارد سعيد" إلى إنشاء مراكز للدراسات الغربية في الجامعات العربية, واقترح "حسن حنفي" في كتابه (علم الاستغراب) تأسيس علم الاستغراب في العالم العربي. فهما أدليا برأييهما كجزء من الحل لأن المعرفة والخبرة العلمية هي التي توفر البنية التحتية لأي تصور أو فكر جديد لاسيما أنهم يملكون العقلية النقدية ومناهج البحث العلمي التي هي خلاصة تجارب طويلة من التطور. واليوم تأتي دعوة الدكتور طالب الوائلي متممة لهاتين الدعوتين بل قد تسبقهما بالتنظيم والتنظير ولاسيما وأن الدكتور الوائلي حاول وضع خطوط لمسير حركة الاستغراب والتعامل معه. أقف هنا لأتحدث عن موقف للدكتور الوائلي أكد لي أن العلماء هم أكثر الناس تواضعا واجلهم لمن علمهم، ففي جلسة نقاش مع الدكتور الوائلي طرحت أمامه هذا الرأي بالذات وتحدثت عن سبقه تنظيميا وتنظيريا؛ فما كان منه إلا الاعتراض، والقول بكل تواضع: "الواقع إن دراسة د. حسن حنفي أكثر عمقا من ما قدمناه، وما زلنا نعد أنفسنا طلبة له".!

وفي العودة إلى الموضوع نجد على أرض الواقع أن الآخر لا يدعو إلى الاستعراب أو الاستشراق فقط بل يمارسه بشكل فعلي مباشر لأنه يجد فيه حلا وتوضيحا لكثير من الإشكالات والمخاطر التي تتهده ففي عام 2007 عقد في جامعة "نايميخن" الهولندية مؤتمر حول "صعود السلفية في العالم" أسهم فيه باحثون أوروبيون شباب من فرنسا والنرويج وهولندا وبريطانيا وغيرها في العشرينات من أعمارهم كلهم من (المستعرِبين) الذين يتقنون اللغة العربية، فتوصلوا إلى نتائج غاية في الروعة، فلماذا لا نخلق مستغربين يبحثون أمر الآخر في الأقل لكي نجنب أنفسنا بعض مخاطر مشاريع الغرب العدوانية. هكذا يفكر أدور سعيد وحسن حنفي وطالب الوائلي، والكثير من الباحثين العرب، بل إن الدكتور "خالد الحروب" يطالب في موضوعه (العرب بين الاستشراق والاستغراب) بإيجاد جيل من الشباب العرب يدرسون قضايا العالم ويستفيدون منها ويفيدون مجتمعاتهم بالخبرة التي هم في مقدمة من يمكنه التبحُّر فيها واستكشافها.

 ويرى هؤلاء أن المعرفة والخبرة العلمية هي التي توفر البنية التحتية لأي تصور أو فكر جديد, كما توفر الأساس لأي توجه سياسي أو اقتصادي، ولأن هذه البنية التحتية الرصينة والممتدة والعميقة غائبة بشكل كبير في مجتمعاتنا فمن الضروري الإفادة من تجارب الآخر عن طريق الاستغراب.

إن البحث العلمي بصيغته المعروفة اليوم إنما هو نشاط إنساني تأثر في نشأته وتطوره وصورته الحالية بالظروف التاريخية والاختيارات الثقافية والقيمية الخاصة بالمجتمعات الغربية، وأنه بهذا يحتمل ظهور توجهات أخرى منبثقة من نظرات أخرى للكون والحياة… نظرات قد تتطلب إدخال تعديلات جوهرية على تلك النظرة التقليدية ولاسيما عند التعرض بالدراسة للظواهر الإنسانية، ونحن حينما نفهم البحث العلمي بهذا المعنى نكون على تمام الثقة أن ما نخاف التعامل معه وفق مناهجنا التخطيطية المدروسة بدقة يمكن أن يخترق حواجزنا ويفرض نفسه علينا ليثير الفوضى في منظوماتنا الفكرية.

إن دعاة الأخذ بمنهج الاستغراب لهم رؤاهم الفكرية العميقة التي تجعل النفس تطمئن إلى الإفادة التي يمكن لهذا المنهج أن يحققها لنا، ولغرض الاطلاع على بعض هذه الرؤى لا بأس أن نشير إلى المقاربة الموجودة لدى اثنين من كبار الدعاة إلى هذا المنهج وهما الدكتور الجبري والدكتور الوائلي:ـ  

حيث يرى الدكتور الجابري في كتابه (إشكاليات الفكر العربي المعاصر، إنه: "ينبغي إعادة كتابة تاريخنا الثقافي بصورة عقلانية وبروح نقدية… والتعامل العقلاني النقدي مع تراثنا يتوقف على مدى ما نوظفه بنجاح من المفاهيم والمناهج العلمية المعاصرة".أما الدكتور الوائلي فلا يرى ضرورة إعادة كتابة التاريخ؛ وإنما يدعو إلى توظيف منهج الاستغراب في الدراسات التاريخية العربية.

كذلك يرى الدكتور الجابري: "إن تاريخنا الثقافي لم يكتب بعد، وبتعبير آخر لم يدون بطريقة مفيدة وايجابية أي نقدية وعقلانية". ومن هنا فهو يرى أنه إذا أردنا أن نعيد كتابة تاريخنا الثقافي بصورة عقلانية وبروح نقدية، فلا سبيل إلى ذلك سوى استعمال وتوظيف المناهج والمفاهيم العلمية المعاصرة ومنها منهج الاستغراب. معنى ذلك أنه وفق نظرة الدكتور الجابري يستحيل علينا فهم ذاتيتنا وتراثنا ما لم نراه من خلال غيرنا.

بيــد أنـه يرى في كتابه الآخر (الاستغراب في الفكر المغربي المعاصر): إنه إذا كانـت الحضــارة الغـربـية قـد أفرزت الـمناهـج الـعـلمـية المعاصرة لتتخـذها ـ بالأساس ـ أداة لفهم وتحليل ثقافاتها الأوربية، أي أن هذه المناهج تم وضع هندستها وشكلها ليتناسب مع تلك الثقافات، فكيف يتأتى لنا استعمالها لتحليل ثقافتنا الذاتية؟

وهو الإشكال الذي أجاب عليه في كتاب آخر له بعنوان (التراث والحداثة) بقوله: "إن مفاهيم العلوم الإنسانية في الغرب ترتبط بالمرجعيات التي تـؤسس الثقافة الغربية والفكر الغربي، ولكنها في ذات الوقت تعبر عن واقع إنساني عام. فإذا استطعنا أن نربط هذه المفاهيم بمرجعياتنا أي أن نبيئها (من البيئة) في محيطنا وثقافتنا فإنها ستصبح ملكا لنا.

والظاهر أن الدكتور الوائلي كان ملتفتا ومهتما بهذه الجنبة منذ البداية؛ ومؤشرا وجود الارتباط الفعلي بين المفاهيم والمرجعيات الذي دعا إليه الجابري على أرض الواقع، فهو في مقدمة كتابة الذي بين أيدينا يرى أن الكتابات  والدراسات الخالية من الحيوية والبعيدة عن مواكبة هموم المجتمع التي شاع ذكرها مؤخرا تأثرت غالبا برغبة الباحثين في كسب رضا المرجعيات الاجتماعية والسياسية المستفيدة من الأوضاع الراهنة، وقد أسهم في تدني مستوياتها تملق الباحثين تلك المرجعيات، وانجاز بحوث ودراسات تتلاءم مع المستوى المتدني لوعي المرجعيات الثقافية المهيمنة على المؤسسات الثقافية والعلمية. وبناء عليه اتخذ الدكتور الوائلي من ثورة المعلومات والإعلام وسقوط فكرة العقائد الشمولية أساسا ليدعو المرجعيات تلك إلى ضرورة الاستجابة لحاجة المجتمعات وتحسين اختيار الموضوعات. نعم قد يكون الدكتور الوائلي متأثرا بالبيئة العراقية المعاصرة ولكن مع ذلك يمكن أن نسجل هذا السبق كواحد من حسناته.

 

وأنا من خلال هذه القراءة البسيطة لا أدعو إلى رفض الاستغراب كمورد ولكني أرفض أن يكون موردا ومنهجا وحيدا دون باقي المناهج بحجة التجديد والتحديث؛ وهو ما يتخوف منه المعترضون على استخدام منهج الاستغراب، فالإنسان يملك قدرة تطوير الذات والتقدم في العلوم ولو في حدود بيئته ومجتمعه ومتى ما تحول الاستغراب والانبهار بحضارة الغرب ومدنيته ومباهجه وطرائق عيشه وتعامله إلى هدف بحد ذاته فإنه سوف يمنع إيجاد المناخ العلمي والفكري الذي تتبلور في إطاره المعارف والنظريات والعلوم الضرورية لتطور وتقدم مجتمعنا. وربما لهذا السبب لم يدعو الدكتور الوائلي إلى اعتماد الاستغراب في كل ما يخص حياتنا؛ وإنما دعا إلى توظيف علم الاستغراب في دراسة الكيفية المناسبة لخوض ما خاضه الغربيون ليكون منطلقا لإشغال حيز في عالم اليوم، بعد أن انتهى الاستشراق بمراحله المختلفة ومدارسه المتعددة بالنتائج المعروفة والانجازات الباهرة حين سخرته المؤسسات الغربية لخدمة مصالحها.

 

صدر كتاب الدكتور الوائلي بعنوان (توظيف الاستغراب في الدراسات التاريخية العربية) عن دار تموز للنشر والتوزيع السورية عام 2013 بواقع 191 صفحة، وهو دراسة جادة مثمرة توفر الكثير من الإفادة للباحثين والدارسين والمتخصصين بدراسة التاريخ والقراء الآخرين، أوصي بقراءته، وأتمنى لو يقوم الدكتور بنشره الكترونيا ليصل إلى كل المهتمين بهذه الجنبة المهمة والخطيرة؟


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


صالح الطائي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2013/08/31



كتابة تعليق لموضوع : الاستغراب رحلة مع رؤى الدكتور طالب محيبس الوائلي في كتابه "توظيف الاستغراب في الدراسات التاريخية العربية"
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net