صفحة الكاتب : الشيخ مازن المطوري

الحسن والقبح بين السيد المرتضى والعلامة الحلي وتأثيرهما على مدرسة كربلاء الأصولية (2)
الشيخ مازن المطوري

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 

المحور الأوّل: الحسن والقبح فـي كلمات المرتضى والحلّي
هل يدرك العقل الإنساني حسناً وقبحاً في الأفعال أم لا؟, وهل أن ما يدركه العقل من قبح وحسن في الأفعال - لو أمكنه ذلك- هو حكم الشارع أيضاً أم لا؟.
تنوعت مواقف أرباب الفكر في العالم ككل والعالم الإسلامي خاصّة تجاه مسألة الحسن والقبح أو (العقل العملي) وطبيعة مدركاته. فهناك من ذهب صوب القول بأن الأفعال في ذاتها خلوّ من أي وصف, فليست هي حسنة ولا هي قبيحة, وإنما الحسن والقبح وصفان يكونان في طول الأمر والنهي والفعل الإلهي, فكلّ ما أمر به الشارع فهو حسن وكلّ ما نهى عنه فهو قبيح, وكلّ ما فعله فهو حسن وهكذا على هذا المنوال. وقد تبنّى هذا الموقف من قبل الأشاعرة نسبة إلى أبي الحسن الأشعري (260- 324 هـ). أي أنهم قالوا: إن الحسن والقبح أمران شرعيان, يؤخذان من الشارع فهو مصدرهما الوتر.
في قبال ذلك ذهبت طائفة كبيرة من متكلّمي المسلمين إلى القول أن الحسن والقبح مدركان بالعقل, فالحسن ما حسّنه العقل والقبيح ما أشار إليه العقل, ومن ثمَّ فالأفعال ليست غرثى لا هي بالحُبلى لتلد, وإنما هي ولودٌ تحمل في ذاتها وصف الحسن والقبح, فهناك من الأفعال ما هو حسن بذاته وهناك ما هو قبيح بماهيته, ولا يتوقّف إدراك ذلك على بيان الشرع. وقد تمثّل هذا الموقف بالمدرسة العدليّة (الإماميّة- المعتزلة), حيث قالوا: إن الحسن والقبح مدركان عقليان, حالهما حال قضايا المعرفة النظريّة الأولى من استحالة التناقض وأعظميّة الكلّ من جزئه.
على أن لا ننسى أن حكماء المسلمين (الفلاسفة) قد عدّوا هذه القضايا من الأمور الاعتباريّة التي يتوافق عليها العقلاء لأجل صلاح الاجتماع الانساني, ومن ثمّ فهي من جملة القضايا المشهورة حسب تصنيف القضايا في علم الميزان.
ما يهمّنا في هذا المحور من البحث هو التعرّض لموقف السيّد المرتضى والعلامة الحلّي من هذه المسألة ونمط استدلالهما. ولكن قبل ذلك لا بدَّ لنا من تحرير محلّ النزاع وبيان المراد من الحسن والقبح في المقام:
ذكر المتكلّمون ثلاثة اصطلاحات للحسن والقبح:
الأوّل: يطلق هذا الوصف ويراد الإشارة به إلى صفتي الكمال والنقص كقولنا: العلم حسن والجهل قبيح.
الثاني: يطلق الحسن والقبح ويراد منه الملائمة للغرض وعدم الملائمة (المنافرة), وذلك كقولنا: قتلُ زيدٍ حسنٌ لأعدائه, قبيحٌ لأصدقائه, أي أن قتله موافق لأغراض الأعداء ولا يوافق أغراض المحبيّن له.
الثالث: يطلق الحسن والقبح ويراد الإشارة به إلى ما يستحق فاعله المدح وما يستحق به الذم والثواب والعقاب. كما نقول العدل حسن أي يستحق فاعله المدح والثواب, والظلم قبيح أي يستحق فاعله الذم والعقاب(1).
وهناك اصلاح رابع يطلق ويراد منه الملائمة للطبع وعدم الملائمة له, فالمنظر الجميل بما أنه يلائم طبع الإنسان فهو حسن, كما أن المشهد المخيف المهول بما أنه ينافر طبع الإنسان فهو قبيح.
والذي وقع محلاً للنزاع من بين هذه الاصطلاحات هو الثالث, أي ما يستحق فاعله المدح والذم والثواب والعقاب. وذلك بأن يلاحظ الفعل من حيث نفسه بما هو من دون ضمّ شيء إليه, ومن دون ملاحظة كونه مشتملاً على نفع شخصي أو نوعي, فهل يستقلّ العقل بحسنه ووجوب فعله واستحقاق فاعله المدح والثواب, وكذا بقبحه وعدم انبغاء فعله واستحقاق فاعله للذم والعقاب أو لا؟.
ذهب الأشاعرة كما تقدّم إلى أن العقل ليس له حظ في هكذا إدراك وإنما هو متوقّف على السمع وأن يَرد الأمرُ به من الشريعة, فما أمرت به الشريعة علمنا أنه حسن, وما نهت عنه علمنا أنه قبيح. ومن ثم قالوا إن الحسن والقبح شرعيان, أي أن مصدرهما الوحيد هو الشرع.
أما العدليّة وهم المعتزلة والإماميّة, فقالوا إن للعقل هكذا إدراك ويستقلّ بذلك من دون توقّف على السمع, بل إن العقل يجد من صميم ذاته حسن بعض الأفعال وقبح بعض آخر, وأن هذا الحكم نابع من صميم القوة العاقلة والهويّة الإنسانيّة.
وقد كان الغرض من طرح هذا البحث هو الركون إلى معيار يمكن من خلاله التعرّف على أفعال الواجب تعالى, وأن العقل هل يستطيع أن يكتشف وصف أفعاله سبحانه أم لا؟ وأن ما هو حسن عند العقل أو قبيح هل هو كذلك عند الواجب أم لا؟, حيث قالت العدليّة أن هذا الاستكشاف متوقّف على القول بالحسن والقبح العقليّين.
وبهذه النكتة يمكننا فهم خروج الاصطلاحات الأخرى عن حريم البحث, كما أنه لم يقع نزاع في إدراك العقل للحسن والقبح وفق الاصطلاحين الأوّل والثاني وكذا الرابع. وإذا اتضح محلّ البحث عرفنا وجه الإشكال في قول القائل: (فمعنى كون حسن العدل وقبح الظلم أمراً عقلياً، أن العدل يلائم القوّة العقلية والظلم ينافرها، فالتحسين والتقبيح يرجعان إلى ملائمة القوة العاقلة ومنافرتها. فكما أن الانتقام يلائم القوة الغضبية فالعدل يلائم القوة العقلية)(2).
من الواضح أن الحسن والقبح بهذا المعنى أي المنافرة والملائمة لم يقع الخلاف فيه بين الأشاعرة وغيرهم, إذ لا نزاع في إدراك العقل لهذا النوع من الحسن والقبح وفق هذا الاصطلاح. وإنّما النزاع في الحسن والقبح بحسب الاصطلاح الثالث, أي بمعنى ما يستحق الفاعل عليه المدح والثواب وما يستحق عليه الذمّ والعقاب, فهل يدرك العقل ذلك أم لا؟.
فمن قال بأن للعقل هكذا إدراك إذا نظر للفعل بما هو هو, فقد قال بالتحسين والتقبيح العقليّين (العدليّة), وأمّا من قال بعجز العقل عن مثل هذا الإدراك وأنه لابدَّ من الاستعانة بالشرع, فقد قال بالتحسين والتقبيح الشرعيّين (الأشاعرة).
ذهب السيّد المرتضى والعلامة الحلّي تبعاً للعدليّة إلى القول أن الحسن والقبح أمران عقليان, أي أنها مدركان بالعقل.. والعقل يستقلّ بهذا الإدراك.
ويمكننا بيان الوجوه التي استدل بها الرجلان من خلال عدّة نقاط:
1) إن الانسان بالضرورة يعلم حسن بعض الأشياء وقبح بعضها من دون أن يستند في ذلك الى الشرع, بل إن كلّ عاقل يجزم بحسن الإحسان ويمدح فاعله, وكل عاقل كذلك يقبّح الظلم والإساءة ويذمّ فاعله. وهذا الإدراك لا يختص بأهل ملّة دون غيرهم, بل يشترك فيه جميع أصحاب الملل وجميع البشر حتّى غير المتديّنين منهم, فحتى البراهمة الذين لا يدينون بدين يؤمنون بذلك كلّه. والمراد من الضرورة هنا هو البداهة الأوليّة.
وهذا الدليل هو (للرد على سائر منكري عقليّة مبادئ الحكمة العملية والحسن والقبح, سواء أكانوا على مذهب الحكماء في أن أحكام العقل العملي وحسن الأفعال وقبحها أحكام تنشأ جرّاء التدبير العملي للمدينة, وما هي إلا آراء تتّفق عليها الجماعة البشريّة وتتلقّاها الأجيال عبر التدريب والتربية, أم كانوا على مذهب الأشعريّة الكلاميّة)(3).
2) إن الحسن والقبح لو كانا شرعيّين فإنهما سوف لن يثبتا لا من العقل ولا من الشرع, وهذا باطل. وذلك لأنهما لو كانا شرعيّين فهذا معناه أنا لا نعلم بقبح الكذب حتّى يخبرنا الله تعالى, فإذا أخبرنا بقبح شيء ما, لم يكن لنا تصديقه بذلك, لأنا لا نملك قاعدة نرجع إليها لنحكم بصدقه, وبالتالي سوف يبقى خبره محتملاً للكذب, وهذا باطل. لأنّ ما كان حسناً في عقولنا فهو عند الله حسن, وما كان قبيحاً فهو عند الله قبيح(4).
3) إن الحسن والقبح لو كانا غير عقليّين لجاز التعاكس فيهما, أي لجاز أن يكون الحسن الذي نتوهمه قبيحاً, وكذا القبيح الذي توهمنا حسناً. ولأمكن أن توجد أمم وشعوب تعتقد حسن مدح من أساء إليها, وحسن ذم من أحسن اليها, أو قبح مدح المحسن, وهذا باطل بالضرورة.
بل أكثر من ذلك, ليس هذا الحكم الضروري يشترك فيه جميع البشر, بل يرى السيّد المرتضى أن هذا الحكم بالحسن والقبح العقليّين لا يختص بالمحدَث (الإنسان) وإنما يتساوى فيه المحدث والقديم تعالى. يسجّل قائلاً: (إن العلم بحسن الحسن وقبح القبح لا يختلف بالإضافة إلى العالمين, ولا فرق في هذا العلم بين القديم تعالى والمحدَث)(5).
ومن الواضح أن من معطيات هذه المساواة بين القديم والمحدث في الحسن والقبح, هو فهم الفعل الإلهي على أساسها كما سوف نقف على ذلك في المحور الثاني من هذه الدراسة. إذ على أساس هذا التوظيف لقاعدة الحسن والقبح في بحث الفعل الإلهي تمَّ تنزيه فعل الواجب عن كثير من الأمور التي لا تناسب قاعدة الحسن والقبح, الذي هو معيار يحدد السلوك الأخلاقي لهما.
والنتيجة المتحصّلة من مجموع كلمات الرجلين:
إن الفعل يتصف عندهما وعند مدرسة العدليّة بصفة أخلاقيّة ذاتيّة خاصّة به, فهو إما حسن أو قبيح ولا منزلة بينهما. والمراد من هذا الفعل هو الفعل الإرادي الذي يمتلك صفة زائدة على حدوثه, في قبال فعل الساهي والنائم الذي لا يمتلك شرط الحريّة والاختيار, لأن الحريّة والاختيار هي قاعدة الإلزام الأخلاقي.
إذن فالفعل الحادث الصادر من الإنسان العاقل المختار الواعي القادر, إما حسن أو قبيح, ومصدر هذا الحكم ومعيار الفصل فيه هو العقل, فالحسن والقبح مدركان عقليان.
إذا اتضح ذلك يتّضح لنا حجم الاشتباه الذي وقع فيه الشيخ المظفّر رحمه الله حينما قرّر أن العدليّة لمّا يقولون بحسن العدل وقبح الظلم, أن مرادهم من ذلك كون الحسن والقبح من القضايا المشهورة التي ليس لها وراء تطابق العقلاء أيّة واقعيّة. قال: (ومن هنا يتّضح لكم جيّداً أن العدليّة - إذ يقولون بالحسن والقبح العقليّين- يريدون أن الحسن والقبح من الآراء المحمودة والقضايا المشهورة المعدودة من التأديبات الصلاحيّة, وهي التي تطابقت عليها آراء العقلاء بما هم عقلاء. والقضايا المشهورة ليس لها واقع وراء تطابق الآراء, أي أن واقعها ذلك..)(6).
من الواضح جداً مجانبة هذا النصّ للصواب, لأن العدليّة لما قرّرت الحسن والقبح العقليّين قالت بواقعيّة هذه القضايا وأن دور العقل هو الكشف عنها أيّا كان عالم تقرّرها. نعم ما ذكره الشيخ المظفر تبنّاه الحكماء (الفلاسفة) حيث قالوا باعتباريّة الحسن والقبح وأنهما من القضايا المشهورة التي لا واقع لها وراء تطابق العقلاء كما نصّ على ذلك العلامة الحلّي, ومن ثمّ فليس من الصحيح أن نسحب موقف الحكماء على جميع العدليّة إذ لا مبرّر لذلك, بل نصوص العدليّة تغاير هذا التحوير بوضوح. قال السيّد بحر العلوم: (أجمع الإماميّة والمعتزلة على أن للأفعال بالنظر إلى ذواتها حُسناً وقُبحاً مع قطع النظر عن ورود الشرع وحكمه وأمره ونهيه. وهذا المعنى ثابت للأفعال في نفس الأمر, ولم يثبت لها باعتبار معتبر ووضع واضع, فهي من قبيل لوازم الماهيات الثابتة لها لا بالجعل لعدم تعقّل وروده عليها ولا على لوازمها كما قُرِّر في محلّه...)(7).
ولكي يتّضح المطلب بصورة تجنّب الباحثين الخلط نقول: يوجد نزاعان في مسألة الحسن والقبح؛ الأوّل: النزاع التاريخي المعروف بين الأشاعرة وغيرهم في مصدر الحكم بالحسن والقبح وهل هما شرعيّان أو عقليّان؟. فقد قال الأشاعرة بأنهما شرعيّان والآخرون قالوا بالتحسين والتقبيح العقليّين.
الثاني: النزاع بين المتكلّمين القائلين بالتحسين والتقبيح العقليّين (العدليّة) وبين الحكماء في هويّة هذا الحكم العقلي وماهيته بعد الفراغ عن كونهما غير شرعيّين. فقال المتكلّمون أنها قضايا واقعيّة ودور العقل فيها دور المدرِك والكاشف عن تقرّرها وثبوتها على حدّ القضايا النظريّة الأخرى فكما أن العقل يدرك استحالة اجتماع النقيضين وأن هذه الاستحالة ثابتة في نفس الأمر والواقع كذلك يدرك حسن العدل وقبح الظلم وأن هذا الحسن والقبح ثابتان في نفس الأمر والواقع. بينما قال الحكماء أن الحسن والقبح من القضايا المشهورة الداخلة في صناعة الجدل لا القضايا البرهانيّة, ومن ثمَّ فهي قضايا اعتباريّة لم تشمّ رائحة الواقعيّة قط وإنما واقعيتها التوافقُ عليها. وبالتالي فالمتكلّمون من العدليّة قالوا بعقليتهما بمعنى إدراك العقل وكشفه عنهما, والحكماء قالوا بمعنى توافق المجتمع البشري عليهما ليقوم نظام الاجتماع الإنساني, وقبل هذا التوافق لا واقعية لها فالعقل منشأ لها وليس مدركاً.
وبهذا نعرف المفارقة في كلام الشيخ المظفّر رحمه الله عندما جرّ موقف العدليّة إلى ما يقوله الحكماء.. هذه المفارقة التي أضحت تتكرّر على لسان بعض أهل العلم دون إلتفات إلى محلّ النزاع ودون تمحيص.
ولكن السؤال الذي لا بدَّ لنا من التوقف عنده هو: أن هذا الحسن والقبح الذي يدركه العقل في الأفعال, هل هو ذاتي لهذه الأفعال, أو هو يلحق الأفعال لبعض الوجوه والاعتبارات؟. والفرق بين الأمرين: أنه بناءً على الحسن والقبح الذاتيّين سيكون الفعل بذاته علّة تامة للحكم بالحسن والقبح, وهذا الحكم لا يتغيّر ولا يتبدّل مهما تغيّرت الظروف وتبدلت الأحوال. فلو صار الصدق سبباً في الفتنة فإن العقل وإن حكم بلزوم تركه تجنّباً للفتنة, إلا أن ذلك ليس معناه زوال الحسن عنه, بل الصدق باق على حسنه. وكذا الحال في الكذب, فلو أنه صار سبباً للصلاح فإن العقل يحكم بلزوم فعله, إلا أنه مع ذلك يبقى قبيحاً ولا يزول وصف القبح عنه, ولكنّه إنما يرجح فعله باعتباره أقل القبيحين ويكون به دفع ما هو أكثر قبحاً.
أما بناءً على القول بأن الحسن والقبح يلحق الأفعال للوجوه والاعتبارات, فنتيجة ذلك هو زوال وصف الحسن عن الصدق إذا صار سبباً للفتنة والاقتتال أو قتل النبي, وكذا زوال وصف القبح عن الكذب إذا صار سبباً للإصلاح, وبالتالي انقلاب الوصف تبعاً لتبدّل الوجوه والاعتبارات. أي لا تكون الأفعال علّة تامة للحسن والقبح بل جزء علّة متوقف على عدم مانع وتوفّر الشروط.
الذي يبدو من كلمات العلامة أن الحسن والقبح ذاتيان للأفعال ولا يلحقان الفعل للوجود والاعتبارات. وهذا واضح في كلام العلامة عند اجابته على شهبة الأشعري القائلة أنه بناءً على الحسن والقبح العقليّين يكون الكذب المقتضي لتخليص النبي من يد ظالم قبيحاً. حيث سجّل رحمه الله قائلاً:
(.. إنّ تخليص النبي أرجح من الصدق فيكون تركه أقبح من الكذب, فيجب ارتكاب أدنى القبيحين وهو الكذب لإشتماله على المصلحة العظيمة الراجحة على الصدق... ولأن جهة الحسن هي التخلص وهي غير منفكّة عنه, وجهة القبيح هي الكذب وهي غير منفكة عنه, فما هو حسن لم ينقلب قبيحاً وكذا ما هو قبيح لم ينقلب حسناً)(8).
ولكنّه في مناهج اليقين عاد ليقرّر الحسن والقبح تبعاً للوجوه والاعتبارات حيث سجّل: (...والدليل عليه أن العقلاء بأسرهم يمدحون رادَّ الوديعة, ويذمّون الظالم, فإذا طلب منهم العلّة بذلك رجعوا إلى أن الردّ حسن يستحق فاعله المدح, والظلم قبيح يستحق الذم, ولولا علمهم بإسناد الحسن والقبح إلى الوجوه والاعتبارات التي تقع عليها الأفعال لما صحَّ لهم اسنادهما اليه)(9).
ونفس هذا التشويش والاضطراب نجده في كلمات السيّد المرتضى, فيظهر منه القول بذاتية الحسن والقبح في إجابته عن إشكاليّة قتل الخضر عليه السلام للغلام واستقباح موسى عليه السلام لذلك مع أن الله تعالى قد أمر بهذا القتل, في الوقت الذي يقرِّرون فيه أن الحسن والقبح لدى القديم والمحدث لا يختلفان(10).
ولكنه في الذخيرة يسجّل - وكما سوف نشير لذلك في مسألة الآلام والأعواض- أن قبح الفعل إنما يكون بسبب من العبث أو الظلم أو المفسدة, فإذا وجد أحد هذه الثلاثة في فعل من الأفعال كان قبيحاً, وإذا تعرّى منها وجب حسنه. وهذا معناه أن قبح الأفعال وحسنها راجع إلى الوجوه والاعتبارات التي يقع عليها, وهو بذلك يتوافق مع القاضي عبد الجبار حيث أنه تبنّى نفس هذا المعنى, مع كلّ الاختلاف بين رجال الإعتزال حول المحدّد للحسن والقبح.
أيّاً كان رأي المرتضى في ذلك فإذا قلنا بالحسن والقبح الذاتي للأفعال كما هو رأي كثير رجال العدلية, فهذا معناه أن التزاحم والتعارض بين الأفعال في الخارج وترجيح أحدها على الآخر لا يسلب وصف الحسن والقبح منها, وهذا ينسجم مع كون الوصفين ذاتيين للأفعال. ولكن السؤال الذي يطرح هنا هو: أن هذه الذاتيّة هل هي ذاتيّة باب الكليّات الخمس (الإيساغوجي) أو المراد من الذاتي هو ذاتي باب البرهان أو ذاتي من اصطلاح آخر. والجواب عن هذا السؤال يترك لدراسة أخرى أعمق إذ لا يتعلّق غرض دراستنا بالجواب عنه.
والذي يتحصّل من مجموع كلمات الرجلين في المقام أمور:
أوّلاً: إنّ الحسن والقبح أمران واقعيان, والعقل مدرك لهما وليس له دور إلا الادراك خلافاً للحكماء الذين جعلوا الحسن والقبح في جملة القضايا الاعتبارية وعدوهما من المشهورات, وهو الموقف الذي تبنّاه المحقق الإصفهاني (ت 1361هـ) من الأصوليّين وتلاميذه, خلافاً لبقية الأصوليين الذين تبنّوا موقف المتكلّمين العدليّة.
ثانياً: إنهما ضروريان بمعنى أن إدراكهما بديهي أولي.
ثالثاً: إن الحسن ما يستحق فاعله المدح والثواب, والقبيح ما يستحق فاعله الذم والعقاب(11).
وهذا المعنى يثير الإشكالية التالية وهي: السؤال عن مصدر هذا الحكم باستحقاق الثواب والعقاب فهل هو العقل أو السمع؟ ومن يختار السمع سوف يقع في تناقض حينما يقرّر أن الحسن والقبح مدركان عقليان لا شرعيان؛ اذ كيف يكون ما يستحق الثواب والعقاب مدركاً عقلياً, ونحن نقرر أن استحقاق الثواب والعقاب لا يدرك إلا في ضوء الشرع؟!.
على أن الإشكالية الأهم هي أن المدح والذم أفعال توصف بالحسن والقبح فكيف يجوز لنا أن نعرف الحسن بأنه ما استحق فاعله المدح والقبيح ما استحق فاعله الذم.. هذا معناه أنّا قد عرفنا الحسن بما يحسن المدح عليه(12).
أما النتائج المترتبة على القول بالحسن والقبح العقليين, فقد قلنا سابقاً أنهما مفتاح فهم الفعل الإلهي, ومن المسائل التي تترتب على ذلك: معرفة الله تعالى عقلاً؛ وصفه بالعدل والحكمة؛ لزوم اللطف على الله تعالى؛ لزوم بعثة الأنبياء والرسل عليهم السلام؛ حسن التكليف؛ ثبات الأخلاق, وغيرها من المسائل.
وسوف نلاحظ في المحور الثاني من دراستنا بعض تطبيقات هذا المعيار في عيّنة من هذه المسائل.
يتبع..
الهوامش:
(1) انظر: المواقف في علم الكلام, الايجي: 323- 324. 
(2) منتقى الأصول.. تقرير بحث السيد محمد الروحاني, بقلم: السيد عبد الصاحب الحكيم 4: 25- 26, الطبعة الثانية 1416هـ, وكذا ذكر نفس المعنى الشيخ جعفر السبحاني, انظر: رسالة في التحسين والتقبيح العقليين: 17, 18, الطبعة الأولى 1420هـ.
(3) الحكمة العملية.. دراسات في النظرية وآثارها التطبيقية, السيد عمار أبو رغيف: 60, دار الفقه للطباعة والنشر - قم, الطبعة الثانية 1426هـ .
(4) رسائل المرتضى- مسألة في الحسن والقبح العقلي, السيد المرتضى 3: 177, اعداد: السيد مهدي الرجائي, تقديم: السيد أحمد الحسيني, دار القرآن الكريم- قم 1405هـ.
(5) رسائل المرتضى- مسألة في الحسن والقبح العقلي 3: 179. 
(6) أصول الفقه, الشيخ محمد رضا المظفر: 166, تحقيق: صادق حسن زادة المراغي, مكتبة العزيزي- قم, الطبعة الأولى 1427هـ. قد ذكر هذا المعنى كذلك في المنطق 3: 343, تعليق: الشيخ غلام رضا فياضي.
(7) الفوائد الأصولية, السيّد محمد مهدي بحر العلوم: 207, تحقيق: الشيخ هادي قبيس العاملي, تقديم: السيد فاضل بحر العلوم, مركز تراث السيد بحر العلوم- النجف, الطبعة الأولى 1432هـ. 
(8) كشف المراد, العلامة الحلي: 420, صحّحه وقدّم له وعلّق عليه: الشيخ حسن حسن زادة الآملي, مؤسسة النشر الإسلامي- قم, الطبعة الثالثة عشر 1432هـ.
(9) مناهج اليقين, العلامة الحلي: 230, تحقيق: محمد رضا الأنصاري. 
(10) رسائل المرتضى- مسألة في الحسن والقبح العقلي 3: 177. 
(11) الذريعة إلى أصول الشيعة, السيّد المرتضى 2: 563, تصحيح ومقدمة وتعليقات: د. أبو القاسم كَرجي, دانشكَاه تهران 1348هـ. ش ؛ الرسالة السعدية, العلامة الحلّي: 53, اخراج وتعليق وتحقيق: عبد الحسين محمد علي بقال, الطبعة الأولى 1410هـ.
(12) الحكمة العملية, مصدر متقدم: 59. 
 

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


الشيخ مازن المطوري
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2013/10/03



كتابة تعليق لموضوع : الحسن والقبح بين السيد المرتضى والعلامة الحلي وتأثيرهما على مدرسة كربلاء الأصولية (2)
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net