صفحة الكاتب : صالح الطائي

إشكالية دفن الإمام الحسن (ع) مع جده النبي (ص)
صالح الطائي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 في الوصية التي أوردها الشيخ الطوسي في أماليه عن ابن عباس، قال: قال الإمام الحسن (عليه السلام) : "فإني أوصيك يا حسين بمن خلفت من أهلي وولدي وأهل بيتك أن تصفح عن مسيئهم وتقبل من محسنهم، وتكون لهم خلفا ووالدا، وأن تدفنني مع رسول الله (صلى الله عليه‏ وآله) فإني أحق به وببيته. فإن أبوا عليك فأنشدك الله بالقرابة التي قرب الله عز وجل منك والرحم الماسة من رسول الله أن لا تهريق في أمري محجمة من دم حتى نلقى رسول الله فنختصم إليه ونخبره بما كان من الناس إلينا"(1) ومما جاء فيها ممكن أن نحدد الملامح الآتية:

•    الأول: أن الإمام الحسن كان يرغب بأن يدفن مع جده النبي.
•    الثاني: انه كان يعرف أن السياسيين سوف يمنعون دفنه مع جده حتى ولو بالقوة وسفك الدماء.
•    الثالث: انه أراد توضيح منهجه السلمي في حياته وبعد مماته ليكون درسا للعالمين.
•    أنه وضع الخطة البديلة في حال الرفض.

فضلا عن ما ورد في الوصية هناك رواية لسبط ابن الجوزي عن ابن سعد عن الواقدي تؤكد رغبة الدفن مع النبي، جاء فيها: "لما احتضر الحسن قال: أدفنوني عند أبي يعني رسول الله (ص) فأراد الحسين أن يدفنه في حجرة رسول الله فقامت بنو أمية ومروان بن الحكم وسعيد بن العاص وكان واليا على المدينة فمنعوه وقامت بنو هاشم لتقاتلهم، فقال أبو هريرة أرأيتم لو مات ابن لموسى، أما كان يدفن مع أبيه؟ قال ابن سعد: ومنهم أيضا عائشة وقالت لا يدفن مع رسول الله أحد".(2)
وفعلا حالت ظروف خاصة بالحقبة دون دفنه مع جده وقاربت أن تثير فتنة جديدة في المجتمع بين الهاشميين والأمويين، ولأن المؤرخين يسعون إلى مواطن الفتن سعيا نجدهم ماثلين في هذا الحدث، لكل منهم قول ولكل منهم رأي وقصة. فهناك من يدعي أن أم المؤمنين عائشة وافقت على دفن الحسن مع جده ولم تعترض، ونقل الأصفهاني في مقاتل الطالبيين عنها قولها: "نعم، ما كان بقي إلا موضع قبر واحد" (3) ويسكت عما حال دون دفن الحسن مع جده. فجاء ابن الأثير وذكر السبب، بقوله: "فاستأذن الحسين عائشة فأذنت له، فقام مروان بن الحكم وجمع بني أميّة وشيعتهم ومنع من ذلك"(4) حيث يتبين من هذا النص أن الأمويين وكبيرهم مروان حالوا دون دفنه مع جده.
ولدرء الفتنة تدخل الصحابة وكل منهم يرى انه هو الذي أقنع الحسين فمرة نجد جابر الأنصاري كما في نص ابن كثير: "قال الواقدي: حدثنا إبراهيم بن الفضل، عن أبي عتيق قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: شهدنا حسن بن علي يوم مات، فكادت الفتنة تقع بين الحسين بن علي ومروان بن الحكم، وكان الحسن قد عهد إلى أخيه أن يدفن مع رسول الله (ص)، فإن خاف أن يكون في ذلك قتال أو شر فليدفن بالبقيع. فأبى مروان أن يدعه، ومروان يومئذ معزول يريد أن يرضي معاوية بذلك، فلم يزل مروان عدوا لبني هاشم حتى مات. قال جابر: فكلمت يومئذ حسين بن علي فقلت: يا أبا عبد الله، اتق الله؛ فإن أخاك كان لا يحب ما ترى، فادفنه بالبقيع مع أمه. ففعل.
وأخرى نجد عبد الله بن عمر هو الفاعل كما أورد الواقدي: "حدثني عبد الله بن نافع، عن أبيه، عن ابن عمر قال: حضرت موت الحسن بن علي، فقلت للحسين: اتق الله، ولا تثر فتنة، ولا تسفك الدماء، وادفن أخاك إلى جنب أمه; فإن أخاك قد عهد بذلك إليك. قال: ففعل الحسين. وقد روى الواقدي عن أبي هريرة نحوا من هذا". (5)
ومرة ثالثة نجد جمعا منهم يشترك في المفاوضات ففي رواية أن الحسن بعث يستأذن عائشة في ذلك، فأذنت له ، فلما مات لبس الحسين السلاح وتسلح بنو أمية، وقالوا: لا ندعه يدفن مع رسول الله (ص)، أيدفن عثمان بالبقيع، ويدفن الحسن بن علي في الحجرة؟ فلما خاف الناس وقوع الفتنة؛ أشار سعد بن أبي وقاص وأبو هريرة وجابر وابن عمر على الحسين أن لا يقاتل؛ فامتثل ودفن أخاه قريبا من قبر أمه بالبيع". (6)
إلى هنا لا نجد من يشر إلى وجود معارضة لدى السيدة عائشة على الدفن، ولكن روايات أخرى لم ترغب أن تبقى الصورة ناصعة ولابد وأن تظهر وجه الممانعة لدى السيدة ولذا أعطتها دورين:
الأول: بطولة الحدث المطلقة، بما يظهرها وكأنها المعترض الوحيد على الدفن، يقول الأصبهاني: إن أم المؤمنين عائشة هي التي كانت مصرة على المنع؛ وهي التي حرضت الأمويين لنصرتها، ولم يوغر قلبها أحد منهم، بل هي التي أثارت قلوب الأمويين واستنفرتهم لنصرتها: "قال يحيى بن الحسن: وسمعت علي بن طاهر بن زيد يقول: لما أرادوا دفنه؛ ركبت عائشة بغلا واستنفرت بني أمية مروان بن الحكم ومن كان هناك منهم ومن حشمهم"(7)
ويرى الأصبهاني أن موقفها هذا هو الذي هيج الأمويين فتحركوا: "فمنع مروان بن الحكم من ذلك، وركبت بنو أميّة في السلاح، وجعل مروان يقول: يا ربّ هيجًا هي خير من دعة، أيدفن عثمان في أقصى البقيع ويدفن الحسن في بيت رسول الله؟ والله لا يكون ذلك أبدًا؛ وأنا أحمل السيف، فكادت الفتنة أن تقع" (8)
وفي رواية اليعقوبي: "فركب مروان بن الحكم وسعيد بن العاص فمنعا من ذلك حتى كادت تقع فتنة"(9)أي أن تحرك الأمويين جاء متمما لتحرك السيدة عائشة.
الثاني: بطولة بالشراكة مع الأمويين، ففي روايات أخرى تبين أن محاولة دفن الحسن مع جده استفزت الأمويين فثارت ثائرتهم ولما خرجوا أيدتهم السيدة عائشة في اعتراضهم على الدفن، وهناك في أكثر من مصدر رواية فيها: "فلمّا مضى لسبيله وغسّله الحسين (عليه السلام) وكفّنه وحمله على سريره لم يشكّ مروان وبنو اُميّة أنّهم سيدفنونه عند رسول اللهّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فتجمّعوا ولبسوا السلاح، فلمّا توجّه به الحسين (عليه السلام) إلى قبر جدّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ليجدّد به عهداً أقبلوا في جمعهم؛ ولحقتهم عائشة على بغل وهي تقول: نحوا ابنكم عن بيتي، فإنّه لا يدفن فيه ويهتك عليه حجابه"(10)
ومهما كانت أسباب المنع فإنها لم ترق لكثير من الصحابة والتابعين وأزعجتهم، وكان أبو هريرة احد أكبر المعترضين على منع الدفن، في المستدرك: "عن سالم بن أبي حفصة قال: سمعت أبا حازم يقول: إني لشاهد يوم مات الحسن بن علي؛ فرأيت الحسين يقول لسعيد بن العاص ويطعن في عنقه: تقدم فلولا أنها سنة ما قدمتك وكان بينهم شيء فقال أبو هريرة: أتنفسون على ابن نبيكم (ص) بتربة تدفنونه فيها وقد سمعت رسول الله يقول: من أحبهما فقد أحبني ومن أبغضهما فقد أبغضني" (11ولكن المعترضين لم ينجحوا في شيء مما يثبت أن في ذلك المجتمع كانت توجد تكتلات سياسية قوية جدا هي التي تتحكم بالأحداث وتقود الجماهير قطيعيا ولا تستمع لاعتراض أحد منهم.!

بعد كل هذه الفذلكة تطالعنا مصادر التاريخ بقصص أخرى نستشف منها أن الحسن لم يوصي بأن يدفن مع جده وإنما طلب منهم أخذه إلى هناك ليجدد العهد مع جده فظن الأمويون سوءا فثاروا "عن عبد الله بن إبراهيم، عن زياد المحاربي، قال: لمّا حضرت الحسن (عليه السلام) الوفاة استدعى الحسين (عليه السلام)، وقال له : يا أخي إنّني مفارقك ولاحق بربّي ، وقد سقيت السمّ ورميت بكبدي في الطست ، وإنّي لعارف بمن سقاني ومن أين دهيت، وأنا أخاصمه إلى الله عزّ وجلّ، فبحقّي عليك إن تكلّمت في ذلك بشيء، وانتظر ما يحدث الله تبارك وتعالى فيّ، فإذا قضيت فغسّلني وكفّنّي واحملني على سريري إلى قبر جدّي رسول الله (صلّى الله عليه واله وسلّم) لأجدد به عهداً، ثمّ ردّني إلى قبر جدّتي فاطمة فادفنّي هناك ، وستعلم يا ابن أم أنّ القوم يظنّون أنّكم تريدون دفني عند رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فيجلبون في منعكم من ذلك، وباللهّ اُقسم عليكم أن تهريق في أمري محجمة من دم. ثمّ وصّى إليه بأهله وولده وتركاته وما كان وصّى أمير المؤمنين (عليه السلام) حين استخلفه"(12)
وفي رواية ثانية: "روي عن زياد المخارقي قال: لمّا حضرت الحسن (عليه السلام) الوفاة، استدعى الحسين بن علي (عليهما السلام) فقال: فإذا قضيت نحبي فغمّضني، وغسّلني وكفّني، واحملني على سريري إلى قبر جدّي رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأجدّد به عهداً، ثمّ ردّني إلى قبر جدّتي فاطمة بنت أسد (رضي الله عنها) فادفني هناك.  وستعلم يا بن أُم، أنّ القوم يظنّون أنّكم تريدون دفني عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيجلبون في منعكم عن ذلك، وبالله أقسم عليك أن لا تهريق في أمري محجمة دم. ".(13)    
وفي رواية ثالثة: قال الشيخ المفيد : لما مضى لسبيله غسله الحسين (عليه ‏السلام) وكفنه وحمله على سريره، ولم يشك مروان ومن معه من بني أمية أنهم سيدفنونه عند رسول الله (صلى‏الله‏عليه ‏وآله) فتجمعوا لذلك؛ ولبسوا السلاح، فلما توجه به الحسين (عليه‏ السلام) إلى قبر جده رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليجدد به عهدا؛ أقبلوا إليهم في جمعهم ولحقتهم عائشة على بغل وهي تقول: ما لي ولكم تريدون أن تدخلوا بيتي من لا أحب! وجعل مروان يقول: يا رب هيجا هي خير من دعة. أيدفن عثمان في أقصى المدينة ويدفن الحسن مع النبي، لا يكون ذلك أبدا وأنا أحمل السيف، وكادت الفتنة أن تقع بين بني هاشم وبني أمية.  فبادر ابن عباس إلى مروان فقال له: ارجع يا مروان من حيث جئت، ما نريد دفن صاحبنا عند رسول الله (صلى‏الله‏عليه ‏وآله) لكنا نريد أن نجدد به عهدا بزيارته ثم نرده إلى جدته فاطمة بنت أسد فندفنه عندها بوصيته بذلك، وقال حسين (عليه ‏السلام): والله لو لا عهد الحسن بحقن الدماء وإن لا أهريق في أمره محجمة دم لعلمتم كيف تأخذ سيوف الله منكم مأخذها وقد نقضتم العهد بيننا وبينكم وأبطلتم ما اشترطنا عليكم لأنفسنا. ومضوا بالحسن فدفنوه بالبقيع عند جدته فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف".
ومما تقدم أجد أننا بحاجة ماسة إلى إعادة قراءة تاريخنا بعقلية القرن الحادي والعشرين بعد أن فشلت عقليات القرون الماضية في معرفته على حقيقته وفهم أصغر أسراره مثل موضوعة الدفن هذه التي كادت تتسبب بفجيعة جديدة تضاف إلى فجائعنا التاريخية.


الهوامش
1.    أمالي الشيخ الطوسي
2.    تذكرة خواص الأمة في خصائص الأئمة، الحافظ ابو الفرج سبط ابن الجوزي، قدم له: السيد محمد صادق بحر العلوم، مكتبة نينوى
3.    مقاتل الطالبيين،أبي الفرج الأصبهاني، ص 82 
4.    الكامل في التأريخ، مجلد3،ص 402
5.    البداية والنهاية،إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي، ج8، ص 211 
6.    البداية والنهاية، مصدر سابق، ج8، ص211
7.    مقاتل الطالبيين، مصدر سابق، ص 82
8.    المصدر نفسه، مقاتل الطالبيين، ص 81
9.    تأريخ اليعقوبي، جزء2، ص 225
10.    إرشاد المفيد،ج 2 ،ص 17، كشف الغمة،ج1 ،ص585، ونحوه في: مقاتل الطالبيين،ص 74، ودلائل الإمامة،ص 61 ، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد،م4، ج 16 ،ص 49
11.    المستدرك، الحاكم،ج3،ص187ـ188، حديث4799/397
12.    موسوعة الأسـئلة العقائدية، مركز الأبحاث العقائدية،ج2، ص 163
13.    المصدر نفسه، موسوعة الأسئلة، ص 65



 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


صالح الطائي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2013/12/17



كتابة تعليق لموضوع : إشكالية دفن الإمام الحسن (ع) مع جده النبي (ص)
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net