صفحة الكاتب : علي جابر الفتلاوي

سياحة فكرية ثقافية (5) الايمان والكفر
علي جابر الفتلاوي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
 الكفر لغة ضد الايمان ، والكفر ايضا جحود النعمة وهو ضد الشكر وقوله تعالى (( انا بكل كافرون )) أي جاحدون والجحود نكران الجميل والكفر بالفتح التغطية والكفر ايضا القرية ، والكافر الليل المظلم لانه ستر بظلمته كل شئ ، وكل شئ غطى شيئا فقد كفره . قال ابن السكيت ومنه سمي الكافر لانه يستر نعم الله عليه .والكافرالزارع لانه يغطي البذر بالتراب .والكفار الزراع . وأكفره دعاه كافرا يقال :لا تكفر احدا من اهل قبلتك أي لا تنسبه الى الكفر وياتي الشرك ايضا بمعنى الكفر وقد اشرك بالله فهو مشرك وقوله تعالى (( وأشركه في امري )) أي اجعله شريكي فيه هذا هو المعنى اللغوي للكفر المذكور في مختار الصحاح.
والكفر كأصطلاح يستوعب المعاني اللغوية السابقة ، فالكافر هو الجاحد والمنكر والساتر او المغطي لنعم الله ، وعندما يشرك الانسان موجودا آخر مع الله تعالى فهو ايضا كافر ، ولكن للشرك درجات منه ما هو المقبول ومنه ما هو غير مقبول ويدخل ضمن دائرة الكفر ولنية الانسان دور في تحديد درجة الشرك ، والكفر اصطلاح عقائدي يصاحب الايدولجيات الفكريه التي لها نظرة عن الكون والحياة والانسان ففي كل محيط ايدولوجي يوجد كافرون ومؤمنون بغض النظر عن القلة او الكثرة في عدد المؤمنين او الكافرين ، واكثر المجتمعات تداولا لكلمة الكفر هي المجتمعات الاسلاميه ، واليوم تستخدم كلمة الكفر او الكافر كمبرر لقتل الكثير من الناس الابرياء من قبل الحركات الاسلاميه المتطرفة ، وهناك من المذاهب الاسلاميه من يتهم المذاهب الاخرى بالكفر بل منها من يفتي بجواز قتل المسلم الاخر المتهم من قبلهم بالكفر ، فتهمة الكفر اليوم اصبحت جزءا من المنظومة الاسلاميه السياسية المتطرفة تلصق بأي طرف لا يوافق سياسات هذه المنظومات المتطرفة المنتسبة الى الاسلام شكلا لا حقيقة وواقعا ، وتلصق تهمة الكفر او الشرك ايضا بالطبقة المتنورة من المفكرين الاسلاميين المجددين ، الذين يفهمون الاسلام وفق التفكير والمنظور الاسلامي الذي يتلائم مع العصر ،فهؤلاء المفكرون يتكلمون بلغة العصر ويفكرون بعقل مفتوح غير منغلق ، ولا يرون انفسهم ملزمين بأتباع آراء وأفكار ومفاهيم من سبقهم من المفكرين التي اصبحت آراءهم لا تتوائم مع الوقت الحاضر ، ويرون ان معجزة القرآن الكريم انه يتناسب وعقول وافكار ومفاهيم كل عصر ، وليس بالضرورة من يفهم القرآن اليوم ان يفهمه بالطريقة التي كان يفهمها من سبق من المفكرين ممن عاشوا قبل مائة عام او اكثر او اقل ، هؤلاء المفكرون الاسلاميون العصريون يفهمون الكفر والشرك بصورة واقعية وعملية بحيث تتقبلها الاجيال الجديدة التي تؤمن بالتطور والحداثة وبالاسلوب العلمي في البحث ، وفي نفس الوقت تؤَمّن الحاجات الروحية الفطرية للانسان ، من الايمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح قال تعالى (( والعصر ان الانسان لفي خسر الا الذين آمنوا وعملوا الصالحات )) وقوله تعالى (( ان الله لا يكلف نفسا الا وسعها )) فالله وهو الرحيم لا يكلف عبده بما لا يستطيع ولا يلزم عبده بما هو غير موجود في عقله وفطرته ، ويلزمه بما يتناسب وقدراته العقليه والفكرية ، ويلزمه بما يعتقد العبد في نفسه ويتصور ان الله يريد منه ان يعبده بهذه الصورة ويتلفظ بهذه الكلمات ويفكر بهذه الطريقة . اذا اعتقد الانسان والله هو العالم بالظاهر والباطن انه سبحانه سيرضى عنه بهذا الفعل العبادي والقول العبادي ويلزم نفسه بذلك فان الله سيحاسبه وفق ما الزم نفسه به ،لان الله تعالى وهو العالم بكل شئ يعامل العبد وفق ما اعتقد ووفق مستواه العقلي والثقافي ووفق المنظومة الفكرية التي يراها العبد صحيحة والزم نفسه بها واقتنع انها هي التي تقربه الى الله تعالى ، يرى المفكر الاسلامي عبد الكريم سروش ان لكل انسان تجربته الدينيه مع الله تعالى ، ومن وظائف الدين تعليم الانسان التفسير الصحيح للتجربة الدينية ، ويضرب لذلك مثلا حكاية موسى (ع ) مع الراعي عندما يخاطب الله سبحانه حسب ما يرى الراعي انها الالفاظ المناسبة التي يخاطب بها الخالق فهي في نظر الراعي صحيحة سليمة تعبر عما يختلج في نفسه تجاه الله تعالى وتعبر عن مستواه العقلي والثقافي ومستوى ثقافة بيئته التي يعيش في اكنافها 
(( ففي هذه الحكاية نرى الراعي يعيش التجربة الدينية الخام وقد تجلى له الباري تعالى ، ولكن عندما كان الراعي يريد الحديث عن هذا التجلي وبيان هذه التجربه فانه استخدم كلمات وعبارات ساذجة ومشوشة )) تنم عن فهم ومستوى هذا الراعي .والمغزى من القصة ان الله تعالى لا يطلب من العبد فوق طاقته ويراعي مستوى العبد الثقافي والفكري وامكاناته عندما يخاطب العبد ربه لان الله هو العالم بالسرائر وهو الحكيم العدل الرحيم ، لذا عندما يسمع موسى ( ع ) كلام الراعي الذي يخاطب به الله سبحانه لا يوافق على كلامه ويعتبره كفرا لانه لا يتناسب ومقام الحق المبين 
لكن الله تعالى يعترض على موسى ولا يوافق موسى على تأنيبه للراعي لان الله سبحانه يعلم ان الراعي غير متصنع في كلامه وهو يتكلم وفق ثقافته وامكاناته، وهنا يسأل المفكر الاسلامي سروش السؤال التالي : (( هل تتوقع ان يتحدث الناس جميعا مع الله تعالى بلسان واحد ، ويعيش كل واحد منهم تجارب عرفانيه ودينيه متشابهة ؟ ان هذا الراعي يمتلك الايمان المحض ومحض الايمان وهو حقيقة التجربة الدينية ، ولكن الخلل يكمن في بيانه وتفسيره لهذه التجربة بسبب انسه مع ثقافته واجواء ظروفه وبيئته ،وبذلك فقد فسرها بشكل خام وبدون رتوش فلا ينبغي ان نسميه كافرا ، انه يمتلك حقيقة الايمان ، فلماذا لا ترى هذه الحقيقة ؟ اليست ((الطرق الى الله بعدد انفس اوانفاس الخلائق ؟)).))
هنا لابد من الاشارة الى مسألة مهمة في باب الايمان وضده الكفر ، اننا عندما نؤمن بالله تعالى ، ونصبح متيقنين عقليا وذهنيا من وجوده من خلال امتلاكنا لكثير من الادلة على ذلك ، هذه المعلومات الذهنية عن الله تعالى وعن وجوده لا تكفي لبناء الايمان عند الانسان ان لم تكن مقترنة بالخضوع والخشوع القلبي لله تعالى ،وبالحب القلبي الخالص له ، فقوله تعالى ((واذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالاخرة واذا ذكر الذين من دونه اذا هم يستبشرون)) الزمر 45
فالاية الكريمة السابقة تتحدث عن فئة من الناس لا تنكر وجود الله كذلك لا تتحدث الاية عن علم هؤلاء بوجود الله تعالى او عدمه انما تتحدث عن فئة من الناس لا يحبون الله حتى وان كانوا يعتقدون بوجوده ، واذا ذكر اسم الله تعالى تشمئز قلوبهم لانهم لا يؤمنون بالاخرة واذا ذكر غير الله من شركائهم الذين يحبونهم (( يستبشرون))، (( فالايمان والكفر يرتبطان بعلاقة المحبة والكراهية)) فلو ان انسانايمتلك آلاف الادلة على وجود الله سبحانه لكنه لا يمتلك الحب في قلبه لله تعالى فان مثل هذا الانسان لا يعد مؤمنا ، (( لأنه لا يعيش الخشوع والعبودية والتوكل على الله تعالى )) عندما لا نحب شيئا او نتعامل معه من موقع الكراهية فنحن نقف امامه موقفين:الاول : ان نسعى لتغطية والغاء اسمه ورسمه ، فلا نكتفي بعدم التبليغ له بل نتحرك لاطفاء نوره واقصاء اسمه والغائه. وذكرنا ان من معاني الكفر التغطية أي ان الكافر يلجأ دائما الى ان يغطي نعم الله تعالى عليه ويحاول عدم تذكرها بل نكرانها وجحودها . اما الموقف الثاني : ان ننطلق في مواجهة من نكرهه من موقع الطغيان والرفض . الموقفان الاول والثاني تتحقق فيهما الارادة والفعل والعزم ،فالكافر يقف موقفا سلبيا وعمليا من الله تعالى وبذلك يعد كافرا ، فالكفر (( الواقعي عبارة عن اتخاذ موقف واع والتعامل السلبي مع الله ،ولو كان متيقنا من وجوده )) سروش 
فالانسان مثلا عندما يتيقن من وجود حكومة معينة ، لكنه يكره هذه الحكومة بل يقوم بالاعمال العملية الفعلية لتغطية مكتسبات وايجابيات هذه الحكومة ،  فمثل هذاالانسان لا يعتبر محبا للحكومة او مؤمنا بها ، وان كان متيقنا من وجودها لانها هي موجودة فعلا. لكنه يعمل على تشويه صورتها وسلب ايجابيتها بل يعتبر معاديا لها ويعمل بالضد منها كلما اتيحت له الفرصة المناسبة ، كذلك الكافر يعتبر كافرا عندما يقف موقفا عمليا بالضد من الله وارادته تعالى ، فيقوم بتغطية نعم الله سبحانه الظاهر منها والباطن ، وكذلك عندما يقوم بالاعمال والافعال التي تعرقل مسيرة الاسلام ويحاول تشويه صورة الدين وتزييفه وافراغه من محتواه الانساني والعملي لخدمة الانسان والحياة ،لهذا فالانسان الجاهل بوجود الله والنبي والقيامةعند بعض المفكرين لا يعد كافرا بالمعنى الواقعي ، لان الانسان الجاهل لا يمتلك موقفا من الله او النبي او اليوم الآخر ، (( فالشخص الذي لم يصل اليه خبر عن الله والاسلام وكان يعيش خالي الذهن من العقائد الآلهية لا يحسب كافرا )) حسب هذا المفهوم . لان الكفر هنا موقف وتصرف فعلي وعملي . وهذا الموقف يتعلق بالامور العقائدية ويختلف عن موقف المفكر او الفيلسوف او المحقق عندما يدقق ويحقق نظرية فلسفية او علمية لان موقف هذا المحقق او المفكر (( يتحرك لبيان نقائصها والكشف عن ثغراتها ونقاط ضعفها واخطائها المنطقية لا انه يتعامل معها من موقع الكراهية والنفور )) مثل ما يفعل الكافر حيث يبذل جهدا عمليا للتعبير عن كرهه وحقده على تعالى او النبي الاكرم ، فالكافر يزداد حقدا وطغيانا عندما يسمع بايات الله سبحانه على عكس المؤمن الذي يزداد ايمانا عندما يسمع آيات الله تعالى تتلى (( واذا تليت عليهم آياته زادتهم ايمانا))
اما الكاقرون (( وليزيدن كثيرا منهم ما انزل اليك من ربك طغيانا وكفرا )) فهنا عنصر الارادة مهم في دائرة الايمان والكفر (( ان عنصر الارادة هو الذي يحول الايمان والكفر من دائرة الانفعال الى دائرة الفعل )) والثواب والعقاب للفعل لا للانفعال . والنتيجة المنطقية لهذا الكلام في رأي الدكتور سروش (( هي ان مخالفة الدين الالهي والفكر الديني من موقع التحقيق والتدبر لا يدخل تحت عنوان الكفر ولا يستوجب العقاب . بل هو مقتضى حركة الذهن البشري المنطقية ، فالممنوع في المجتمع الديني هو ايجاد الكراهية للدين ولله تعالى عن طريق العلل اما البحث الاستدلالي بالتأييد او الانكار فلا محذور فيه )) وعلى ضوء هذا المفهوم عن الكفر نرى اليوم البعض من الاسلاميين ممن ينتمون الى مذهب اسلامي معين او ينتمون الى حركات سياسية اسلامية معينة يتهمون المسلمين الاخرين المختلفين معهم في المذهب بالكفر وحتى القسم منهم يفتي بجواز قتلهم ، وهذه دعوات وافكار لااساس ديني لها او علمي او عقلي ، انما هي دعوات عنصرية منحرفة تقوم على علل او مفاهيم افتراضية ، ولا نستبعد تزريق مثل هذه الدعوات التي تكفر المسلمين الاخرين من قبل الفكر المعادي للاسلام ومن معسكر الكفر الواقعي الذي يعادي الاسلام من موقع الانكار والجحود والكراهية ، والبست هذه الدعوات ثوبا اسلاميا كي يتقبلها هؤلاء الاسلاميون اصحاب الدعوات التكفيرية الذين يتميزون بالسطحية والقشرية والظاهرية ، وهم بعيدون عن الواقعية والعقلانية والفكر السليم ، وازاء هذا الواقع لابد من ثورة فكرية انقاذية عقلائية تعيد للاسلام رونقه وصورته الحقيقية الواقعية التي ارادها الله تعالى لهذا الدين القويم وارادها رسول الانسانية محمد (ص) ويقوم بهذه الثورة العلماء والمفكرون الاسلاميون المتنورون ، لغرض تصحيح بعض المفاهيم والافكار التي  حسبت على الدين من قبل رجال دين متطرفين منغلقين وبذلك شوهوا الصورة الحقيقية للاسلام ، اسلام المحبة والعدل والسلام واحترام الاخر المختلف ، لا اسلام الكراهية والجمود الفكري والعنف وقتل الابرياء وفرض الفكر والرأي بقوة السلاح .
 

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


علي جابر الفتلاوي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2011/03/18



كتابة تعليق لموضوع : سياحة فكرية ثقافية (5) الايمان والكفر
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net