صفحة الكاتب : الشيخ عقيل الحمداني

بعض المفاهيم الخاطئة السائدة بين الشبان
الشيخ عقيل الحمداني

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 

ايها الشاب إليك بعضاً من المفاهيم الخاطئة السائدة التي ربّما يتداولها بعض الشبان والفتيات من باب المسلّمات أو البديهيات وكأنّها قرآن منزل ، أو قول معصوم ، والغاية من مناقشتها هي التعريف بوجه الخطأ فيها ، وأن نعرف ـ من خلال ذلك ـ ما هو الصحيح أيضاً ، حتى نعتمد الثاني ونتبنّاه ، وننبذ الأوّل وننأى عنه ، لتستقيم ثقافتنا الاسلامية على المنهج الصحيح ، وأن يكون شبابنا هم الدعاة إلى ذلك والعاملون به .
1 ـ الدنيا مظاهر :
يهتمّ الشبّان بمظاهرهم ، وتولي الفتيات مظاهرهنّ عناية فائقة كجزء من لفت أنظار بعضهم لبعض . وقد يأتي الاهتمام بالمظهر الخارجي كصورة من التفاخر والتباهي على الأقران أصدقاء أو صديقات .
وإذا سألت أحدهم ، أو إحداهنّ عن السبب في المبالغة بالاهتمام بالمظهر ، يأتيك الردّ : «الدنيا مظاهر» .
والقرآن قد وصف الدنيا بأنّها دار لهو وغرور وزينة وتفاخر وتكاثر ، لكنّه أراد بهذا الوصف أن يذمّ هذا الوجه منها ، وإلاّ فهو قد دعا إلى الأخذ بنصيب الدنيا (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنسَ نصيبك من الدنيا )(1) أي التمتع بملذاتها في غير محرّم ، واغتنامها كفرصة للطاعة وللابداع الانساني الذي يخدم الانسانية ويعمر الأرض بالحق والخير والجمال والعدل .
إنّ تعبير (الدنيا مظاهر) ينمّ عن حالة ثقافية واجتماعية تولي العناية بالمظهر اهتمامها الأوّل بحيث يصبح مظهر الانسان لا جوهره هو القيمة .
فذو الملابس الفاخرة ، والسيارة الفارهة والقصر المنيف .. إنسان فاخر ، وذات الملابس الزاهية الغالية ، والزينة المترفة الباذخة من أساور وأقراط وقلائد ، إنسانة من الطبقة الراقية .
ولا بدّ من التنبّه إلى أنّ (الفخر) هناك و (الرقيّ) هنا ليسا حقيقيين وإنّما اعتباريان ، أي أنّ الناس وبسبب التخلّف الثقافي يعتبرون المظاهر فخراً ورقيّاً .
وقصّة ذلك الرجل الذي دخل إلى مأدبة فلم يأبه به أحد لأنّ الدعوة كانت مخصّصة لذوي المظاهر ، وحين ارتدى ملابس فاخرة لفت الأنظار وجذب الاهتمام ، معروفة ، حتى أ نّه حينما جيء له بالطعام لم يتناول منه شيئاً ، بل قدّمه إلى ملابسه ، وقال لها : كلي ، فهذا لك ! فتعجّب الحاضرون من هذا المشهد الذي يكشف عن أنّ الاهتمام كان منصباً على المظهر وليس على صاحب المظهر .
ولو أردنا أن نعرف حقيقة (الفخر) لقلنا أنّ من حقّ الانسان أن يفخر بقدراته ومواهبه وأفكاره وإبداعاته ومساهماته في خدمة المجتمع .
وأنّ (الرقيّ) الحقيقي هو في النمو المطرد الذي نلحظه على تفكير الانسان وتعامله أو تعاطيه مع الأشياء والأشخاص والأحداث .
إنّ واحدةً من أبلغ رسائل الحجّ التي يقدّمها الاسلام لأتباعه هي أنّ الله لا يعبأ بأشكال الناس وملابسهم ، بل بما انطوت عليه قلوبهم وسرائرهم ، ورسالة ثوبي الأحرام شبيهة إلى حدّ كبير بالكفن الذي يلفّ به جثمان الانسان في آخر المطاف .
إنّها رسالة تقول للانسان أنّ ما يميِّزك عن أخيك الانسان الآخر هو عملك وعلمك وتقواك ، وما عدا ذلك فلا قيمة له ولا اعتبار سواء لبست الحرير أو ارتديت الأسمال .
وهذا هو أحد جوانب الصورة .
أمّا الجانب الثاني ، فإنّنا لا نريد من الحديث عن المظاهر أن نهمل مظاهرنا وأن نرتدي الثياب المرقعة البالية ، فالزيّ الجميل والنظيف يضيف على حسن الانسان حسناً آخر ، لكنّنا نؤكد ونركز على الجوهر والمضمون أكثر من التركيز على المظهر والشكل .
فالثياب والزينة ـ حتى الفاخر والغالي منها ـ تبلى وتتغيّر ألوانها وتهبط أسعارها وربّما تسقط موديلاتها ـ إذا جارينا النظرة إلى الموضة ـ لكنّ أخلاق الانسان وفكره واسلوب تعامله وشمائله لا تبلى ، بل يمكن أن تتجدّد وتزداد قيمتها مع الأيام ، فالله لا ينظر إلى أجسامنا وأشكالنا وأزيائنا وإنّما ينظر إلى قلوبنا ، أي المحتوى الداخلي لكلّ منّا ، وفي ذلك يقول الشاعر :
إذا المرءُ لم يدنس من اللؤم عرضه***فكلّ رداء يرتديه جميلُ
2 ـ شرف البنت :
ومن المفاهيم المغلوطة الشائعة التي لا تستند على دليل قرآنيّ ولا على حكم شرعيّ ولا على قيمة اسلامية ، بل هي تتناقض مع المفاهيم الاسلامية ، هو التركيز على (شرف البنت) دون (شرف الابن) .
فالشرف واحد ، شرف البنت كشرف الابن ، وشرف الشاب كشرف الفتاة ، ولا ميزة للذكور في ذلك على الإناث ، وأي منتهك لحرمة شرفه ـ رجلاً كان أو إمرأة ـ مدان ومحاسب ، فإذا أهدرت الفتاة شرفها ، وأساءت لسمعتها ، وانحدرت في المباذل الرخيصة ، فإنّها تكون مساوية في التردّي الأخلاقي لذاك الشاب الذي ينغمس في الفواحش والمجون ويسكن المواخير والملاهي وبيوت الدعارة .
لماذا إذن التركيز على شرف البنت ؟
هي نظرة جاهلية لا تزال تعشش في عقول وأذهان الكثير من المسلمين ، أي أنّ رواسب الجاهلية التي كانت تئد البنات مخافة أن يتلوّث شرف القبيلة إن هي هزمت وسبيت نساؤها واعتدي على شرفهنّ ، ما زالت قائمة إلى اليوم .
فالنظرة العشائرية القبلية تعتبر الإساءة إلى شرف البنت إساءةً إلى شرف العشيرة أو القبيلة كلّها ، ولذا ـ فمن وجهة نظر عشائرية جاهلية ـ لا بدّ من (غسل العار) بقتل الفتاة التي استهانت بشرفها ، وبالتالي بشرف قبيلتها ، أو دفنها وهي حيّة ، أي وأدها تماماً كما كان يفعل الجاهليون مع الفرق في أنّ الأب في الجاهلية كان يئد ابنته وهي بعد طفلة صغيرة لا تعي من الحياة شيئاً ، والأب في الفهم العشائري للشرف يئد ابنته وهي في ريعان صباها وشبابها .
ولا بدّ من الالتفات إلى أنّ الفارق الوحيد بين الفتاة والشاب في مسألة الشرف ، هو فارق في النتيجة الظاهرة ، أي في الحمل .
أمّا ما عدا ذلك فالشاب مرتكب الفاحشة والمستجيبة له بإرادتها كلاهما على درجة سواء فيما يتحمّلان من وزر عملهما المشين .
اُنظروا إلى التسوية في العقوبة الإلهية النازلة بالزاني وبالزانية : (الزانية والزاني فاجلدوا كلّ واحد منهما مائة جلدة )(2) ، فالقرآن لا يميِّز في عقوبة الزنا تمييزاً جنسياً ، بل يوقع العقوبة على كلّ من مرتكبَي الفحشاء ويحمّل الطرفين المسؤولية فيها ، ولم يسقط أو يخفف العقوبة عن أحدهما تحيّزاً أو محاباة .
فشرف الرجل أو الشاب هنا قد انتهك وسقط وتمرّغ بالوحل بممارسة الزنا ، مثلما سقط شرف الفتاة وانتهك وتمرّغ بالوحل ، ولكنّ المجتمع الذكوري الذي تقدّم ويفضّل الذكر على الأنثى يتخذ موقفاً أشد من موقف الشريعة ، فهو يجلد المرأة أو الفتاة المرتكبة للفحشاء وحدها بسياطه ، ويلقي باللوم والتبعة والمسؤولية على الفتاة أو المرأة دون الشاب أو الرجل .
أمّا القول بأنّ شرف الفتاة من شرف أسرتها أو قبيلتها ، وإنّه إذا تعرّض إلى الأذى فكأ نّما تعرّضت الأسرة والعشيرة كلّها للنيل من شرفها ، مفهوم غير إسلامي ولا يقرّه القرآن البتة . فالله تعالى يقول : (ولا تزِرُ وازرة وزر أخرى )(3) أي لا يصحّ أن يؤخذ البريء بجريرة المسيء ، ولذا فما ذنب الأب أو الاُم إذا كانت البنت لم تحفظ شرفها وسمعتها ولوثتهما بالفاحشة ؟
إنّها وحدها التي تتحمّل ما جنته يداها من سوء وإثم ، ولا يتحمّل أهلها إثم ما فعلت إلاّ بقدر ما يساهمون في دفعها إلى ذلك . وإذا رجعنا مرة أخرى للعقوبة الإلهية المنزلة بالزانية والزاني ، فإنّنا لا نجد أيّ أثر لعقوبة ثالثة تنزل أو تترتب على المتعلقين بهما من ذويهما أو أهلهما سواء الأبوين أو الأقرباء أو العشيرة .
ومرّة أخرى نقول : إنّ النظر إلى مسألة الشرف هي نظرة اجتماعية أكثر منها نظرة إسلامية ، فمن الأمثلة الدارجة في مجتمعاتنا الشرقية قول بعضهم : «إنّ شرف البنت كعود الكبريت» يريدون بذلك أنّها إذا أباحت جسدها ـ في غير الطريق الشرعيّ ـ فإنّها تكون قد انتهت كإنسانة شريفة وعفيفة ، حتى أنّ قسوة بعض المجتمعات تصل إلى درجة أنّها لا تسامح حتى الفتاة أو المرأة (المغتصبة) علماً أنّها لم تقدم على العمل المشين طائعة مختارة ، وإنّما مورس معها تحت الضغط والعنف والإكراه .
ولا ينبغي التقليل من تأثير ذلك على سمعة الفتاة وكرامتها وصحّتها النفسية وعلاقاتها الاجتماعية ، سواء في نظرة الجنس الآخر لها ، أو حتى في ابتعاد بنات جنسها عنها . ولعلّ فيما يعرضه القرآن الكريم من قلق مريم (عليها السلام) وخوفها من اتهام قومها لها حينما حملت بعيسى (عليه السلام) وهي الطاهرة العفيفة النجيبة يدلّل على مدى حسّاسية هذا الأمر (يا ليتني متّ قبل هذا وكنت نسياً منسيّاً )(4) .
إنّ شرف البنت حسّاس ، لكنّ شرف الابن حسّاس أيضاً ، وقد لا يكون كعود الكبريت ، لكن ارتياد الأماكن الموبوءة ، ومعاشرة العاهرات والمتخذات أخداناً ، يجب أن يجعل من نظرة المجتمع إليه أن تكون من خلال شرفه أيضاً ، لا من خلال رجولته أو ذكورته أو فحولته ، وهذا ما تتناساه الكثير من المجتمعات الذكورية ذات النظرة المجاملة والمنحازة للرجل حتى ولو أهدر دماء شرفه .
3 ـ الإتكاء على السلالة أو (اللقب العائلي) :
لا زالت النظرة إلى اسم العائلة والشهرة واللقب والسمعة والصيت تلعب دورها في التأثير على هذا الشاب أو تلك الفتاة كونهما منحدرين من أسرة ذات بريق اجتماعي أخّاذ .
فكما أنّهما يتكئان على مجد الأسرة واسمها وسمعتها وبريقها الوهّاج ، فكذلك نظرة بعض الناس إليهم على أ نّهم من أبناء السادة النبلاء والأشراف أو الأسر العريقة مما يعكس عليهم بريقاً لم يشاركوا في صناعته .
وربّما لعب اسم الأسرة دوراً آخر في التغطية على العيوب والمثالب والأخطاء ، فابن الأسرة المعروفة المشهورة لا يُحاسب ـ اجتماعياً ـ كما يحاسب ابن الأسرة المجهولة المغمورة ، الأمر الذي نهى عنه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله : «إنّما أهلك مَنْ كان قبلكم أنّهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحدّ» .
والشريف هنا هو المتحدّر من أسرة أو سلالة معروفة في أوساط الناس ، إمّا لاشتهارها بالتجارة أو العلم أو الأدب أو السياسة أو الدين .
وهذا أيضاً من المفاهيم المغلوطة ، فإنّ ما ينبغي التركيز عليه هو : ماذا قدّم أو يقدّم هذا الشاب أو هذه الفتاة من أعمال تشير إلى قدراتهما ومهاراتهما وإنجازاتهما ، وذلك هو قول الشاعر :
ليس الفتى مَنْ قال : كان أبي***إنّ الفتى مَنْ قال : ها أنذا
فربّ (دكّة) يصنعها الشاب بجهده الشخصيّ خيرٌ له من (منبر) كان يتربّع عليه (أبوه) أو (جدّه) أو أحد أعمامه أو أخواله . أمّا إذا أراد الجلوس على ذات المنبر فليقدم من خلاله ما قدّم أبوه أو جدّه أو أكثر من ذلك ، حتى يليق باسمه هو لا بأسمائهم هم ، وإلاّ فالألقاب لا تُتوارث ، أي أنّني قد أحمل اسم العائلة واللقب الذي تتلقب به لكنني لا أحمل غير الاسم ، ولا أرث العلم أو السمعة التي اكتسبوها بجهدهم وجهادهم وطول صبرهم وأناتهم ، خاصّة إذا كنت قصير الهمّة فارغ المحتوى لا أعيش إلاّ على أمجاد الماضي .
وربّما يقع بعض الآباء أو الاُمّهات في الخطأ عندما يزوّجون ابنتهم من ابن العائلة الفلانية لمجرد الاسم الرنّان دون النظر إلى مزايا وخصال وخصائص شخصية المتقدم لطلب يد ابنتهم ، وقد يسعى بعض الآباء والاُمّهات في تزويج ابنهم من ابنة العائلة الفلانية للأسباب ذاتها ، في حين أنّ اسم العائلة لا دخل له في سعادة الزوجين ، وربّما إذا تمّ التركيز على الاسم فقط بقطع النظر عن المواصفات الأخرى ، فقد لا يحصد العريسان إلاّ الندم .
4 ـ الصداقة بين الجنسين :
وهذا مفهوم خاطئ آخر ، فليس هناك صداقة ـ بالمعنى الدارج للصداقة ـ بين الرجل والمرأة أو بين الشاب والفتاة ، فقد تتخذ العلاقة بين الجنسين صفة الصداقة في بادئ الأمر ، لكنها ـ ومن خلال تجارب كثيرة جداً ـ لا تبقى تراوح مكانها ، إذ سرعان ما تتطور إلى ما هو أكثر من ذلك ، أي إلى الحبّ والرغبة في الإقتران ، وحتى إذا لم تصل إلى هذا المستوى ، فإنّ حميمية العلاقة بين الجنسين لا تجعلها شبيهة بالعلاقة داخل الجنس الواحد إلاّ بين كبار السن ، فقد يعقد رجل متقدم في السنّ علاقة صداقة مع امرأة في مثل سنّه ، ولا يدخل (الجنس) كعامل حتمي فيها ، وحتى في هذه الحالة فإن هذه الصداقة ليست من لون وطبيعة الصداقة بين الجنس المتماثل .
فالحديث الشريف القائل : «ما اختلى رجل وامرأة إلاّ وكان الشيطان ثالثهما» لا يستثني عمراً معيّناً ، وإن كان ذلك في اللقاءات والعلاقات والخلوات التي بين الشبان والفتيات والرجال والنساء أوضح وأصرح ، ولا يخفى أن دخول الشيطان على خط العلاقة بين الجنسين هو ما يوحيه إليهما من انجذاب عاطفي وجنسي ، قد يبدأ وسوسة لكنه لا ينتهي بها .
إنّ الصداقة ـ سواء بين الشبّان أنفسهم أو بين الفتيات أنفسهنّ ـ كما هي الصداقة بين الرجال أنفسهم والنساء أنفسهنّ ، تعني الحاجة إلى علاقة اجتماعية يتم فيها التواصل والتباذل والتزاور والتفاني والتعاون والتشاور والمباثثة للهموم والآمال . وقد يكون ذلك أو بعضهُ موجوداً بين الجنسين ، لكنّ العلاقة هنا يدخل فيها عامل إضافي كشرط أساسي ـ وإن لم يكن شرطاً غير معلن ـ وهو عامل الجنس أو الحميمية الزائدة التي لا تسمّى صداقة ، وإنّما معاشرة من نوع آخر .
ولعلّ تجربة البلدان الغربية في إنشاء الصداقات كاشفة عن أنّ مصطلح الصديق الذكر (Boy Friend) والصديقة الأنثى (Girl Friend)ليس دقيقاً في التعبير عن طبيعة العلاقة الجارية بينهما ، فهي علاقة غرامية محمومة ، أو علاقة جنسية مباشرة ، وقد تؤجل ممارسة الجنس إلى سن معيّنة ولكنّه لا يسقط من الحساب في أيّة علاقة بين الجنسين .
وإذا أتيح لك أن تقرأ في صفحات التعارف في المجلاّت والصحف الغربية لرأيت أنّ طلبات الجنسين الراغبين في المعاشرة كأصدقاء تتحدّث أيضاً عن علاقة صداقة مرشحة للتطور إلى ما هو أكثر من ذلك .
5 ـ صداقات لتمضية الوقت :
وما دمنا في محيط الصداقة والأصدقاء ، فإن ثمة مفهوماً خاطئاً آخر يواجهنا في هذه الرابطة الانسانية التي يريد لها الاسلام أن تكون صحبة صالحة ، وعلاقة وطيدة تعين على الدنيا والآخرة .
فالصداقات اليوم ـ في العديد من نماذجها ـ هامشية سطحية تهدف إلى اللهو والثرثرة والسمر وتمضية الوقت ، إنّها أشبه شيء بالقميص الذي يملّ الشاب أو الفتاة من لبسه فيميلان إلى استبداله بآخر .
هذا اللون من الصداقات لا يقوم على أساس متين ، ولذلك فإن أركانه تنهار بسرعة سريعة ، فما أن يختلف الصديقان ، أو المتعارفان على أمر أو موقف أو حاجة معيّنة ، حتى يتحوّلا إلى عدوّين متصارعين لا يراعي أحدهما حقاً أو حرمة للآخر .
إنّها صداقات وزمالات تجتمع بسرعة وتنفرط بسرعة .. قد يجمعها العمر .. أو المدرسة ، أو المحلّة ، أو النادي ، ويفرّقها : خلاف بسيط في الرأي ، أو مهاترة كلامية ، أو نزاع على فتاة ، أو سخرية لاذعة ، أو خديعة ، أو الخضوع لإيقاع طرف ثالث .. وهكذا .
إنّ حجر الأساس القويّ الذي تحتاجه الصداقات الحقيقية ، هو الإيمان بالله ، والأخلاق الكريمة ، والتقارب الثقافي ، والانسجام العاطفي ، والمواهب المشتركة ، ومعرفة حقوق الصديق ورعايتها .
وإلاّ فصداقة لاهية ، أو عابرة ، أو مجرد تمضية وقت ، ستنقلب على أطرافها وبالاً (يا ويلتا ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً * لقد أضلّني عن الذكر بعد إذ جاءني )(5) ، (الأخلاّء يومئذ بعضهم لبعض عدوٌّ إلاّ المتّقين )(6) .
إنّ اختيار الرفيق قبل الطريق قد يكون مهماً في السفر من مكان إلى آخر ، لكنّه أكثر أهمية في السفر الدنيويّ إلى الآخرة . فنحن بحاجة إلى الصديق الذي يقوّي إيماننا ، ويزيد في علمنا ، ويناصرنا على قول وفعل الخير والحقّ ، وينهانا عن قول وفعل الباطل والمنكر ، ويدافع عنّا في الحضور والغياب ، وليساعدنا وقت الضيق والشدّة ، ولذا قيل : «المرء على دين خليله فلينظر أحدكم مَنْ يخالل» .
الصداقة إذن عقد وميثاق أخوّة وتناصر وتباذل تزداد مع الأيام والتجارب وثاقة ، وليس لعبة نقبل عليها للتسلية ثمّ إذا مللناها تركناها .
6 ـ عصر السرعة :
ومن المفاهيم الخاطئة السائدة بين بعض شباب اليوم وفتياته هي أ نّنا في عصر السرعة .
والعصر ـ والحقّ يقال ـ عصر سرعة ، في النقل والمواصلات ، والتواصل والاتصالات ، والفضائيات والمعلومات .
ولكن .. ما دخلُ ذلك في عمل أقوم به ويراد منِّي أن أنجزه على خير وجه وكما يرام ؟!
قد يكون دخله في أ نّه يهيِّئ لي مستلزمات العمل بسرعة أكبر من السابق . فبالأمس كنتُ ـ مثلاً ـ أستعين بمكتبة المدينة حتى أنجز بحثاً أو أعدّ دراسة ، الأمر الذي يتطلب مراجعات عديدة وأوقاتاً كثيرة وجهوداً طائلة ، واليوم المكتبة تقف ماثلة بين يديّ وتنتظر إشارة منِّي ، أو الضغط على أزرار معيّنة مما يمكنني من التسريع في إعداد البحث وإنجاز الدراسة .
لكنّ البحث نفسه يحتاج إلى زمن كاف حتى ينضج ويأتي مقنعاً متكاملاً ، ولا يعفي الكاتب أن يتذرّع بالسرعة إن كان بحثه أو دراسته غير مستوفية للشروط ، بل إنّ الإمكانات المتاحة ـ والمشار إليها ـ تجعل الحساب عسيراً على الباحث الذي يقصّر في بحثه ، فالإنتاج السريع غير المتأنّي كثيراً ما يكون باهتاً وعرضة للنقد وللنسيان بسرعة .
وقد تكون السيارة اختصرت لي الكثير من الوقت الذي كنت أضيّعه في الطريق إلى زيارة قريب أو صديق ، لكن طبيعة الزيارة ينبغي أن لا تقع تحت طائلة المقولة الشائعة (نحن في عصر السرعة) خاصّة إذا كانت الزيارة مما يوطّد العلاقات الاخوانية ، أو مما يعزّز صلة الرحم ، ويرطب الأجواء ويعيد ما تكدّر من مياه إلى صفائها ، أو حتى في دفع الهموم والغموم المتراكمة جرّاء اللهاث اليوميّ ، أو كانت مما يساعد في زيادة العلم والمعرفة .
لقد طالب الاسلام باختصار زيارتنا للمريض لأنّ المريض بطبيعة وضعه الصحّي والنفسي لا يتحمّل الإطالة في الحديث والإنفعال والمشاركة ، ولكنّه ـ أي الاسلام ـ لم يطالبنا باختصار زياراتنا لإخواننا وأصدقائنا الأصحّاء . نعم ، نهانا عن الإثقال عليهم واضطهادهم في البقاء لساعة متأخرة . أو البقاء عندهم رغم انشغالهم بأمور أهم .
السرعة مطلوبة في جوانب ومرفوضة في جوانب .
ففي أعمال البرّ والخير والإصلاح والإحسان ، العجلة مطلوبة ومحبوبة ولذا جاء في الحديث الشريف : «خير البرّ عاجله» .
وفي الأعمال التي تتطلب دقّة ومهارة وصبراً طويلاً وإتقاناً كبيراً ، تغدو السرعة كمن يضع المواد الغذائية في قدر يعمل بالضغط البخاريّ لأجل أن ينضج الطعام بسرعة قياسية ، والمتمتعون بذائقة جيِّدة للأطعمة يقولون إنّ الطعام حتى يكون لذيذاً شهياً فلا بدّ من أن يُطهى على مهل وليس على عجل .
لقد أصبحت السرعة طابعاً للعلاقات والصداقات والانتماءات السريعة ، وللزيجات السريعة ، والمعاملات السريعة ، والقراءات السريعة ، والمتابعات السريعة والوجبات السريعة ، ولذلك كثيراً ما انقلبت السرعة إلى ردّ فعل عكسيّ ، فالصداقة السريعة تتحول إلى عداوة مقيتة ، والزواج السريع إلى محاكم الطلاق ، والقراءة السريعة إلى الإستنتاجات الخاطئة ، والوجبات السريعة إلى المصحّات وعيادات الأطباء والصيدليات .
نعم ، لقد وصف الله تعالى الانسان بالعجلة في قوله : (خلق الانسان من عَجَل )(7) .
فهو يتعجّل الخير ، ويتعجّل النتائج ، ويتعجّل الصعود إلى القمّة ، ويتعجّل الوصول بسيارته إلى مقصده ، ويتعجّل قطف ثمار ما يزرع وهي فجّة ، ونسي أنّ «في العجلة الندامة وفي التأنّي السلامة» . ونسي في ظلّ عجلته وتسرّعه أنّ «من صبر ظفر ومن لجّ كفر» مثلما نسي أيضاً أنّ «مجتني الثمرة لغير وقت إيناعها كالزارع بغير أرضه» .
جميلٌ أن لا نضيّع أوقاتنا هدراً .
وجميلٌ أن نوظّف كل دقيقة من دقائق حياتنا ، بل وكلّ لحظة فيما ينفع الناس وينفعنا .
جميلٌ أن لا نؤجّل عمل اليوم إلى غد .
جميلٌ أن نعجّل بالبرّ .
ولكن الأجمل :
أن لا نضحي بالجودة والإتقان والدقّة والكفاءة العالية ..
وبدلاً من أن يكون شعارنا (اسرع .. فأنت في عصر السرعة) .. ليكن شعارنا «رحم الله امرأً عمل عملاً فأتمّه وأتقنه» .
للزيادة والتفصيل ارجع الى كتب تهمك مثل دنيا الشباب وغيرها وبعض مطبوعات مؤسسه البلاغ


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


الشيخ عقيل الحمداني
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2014/02/16



كتابة تعليق لموضوع : بعض المفاهيم الخاطئة السائدة بين الشبان
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net