صفحة الكاتب : عماد يونس فغالي

سياحةٌ نحو العلى!
عماد يونس فغالي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

ركِبَ الدكتور لويس صليبا متنَ نفسه في سياحةٍ، حسْبه خلالها اكتشاف ذاته، وهو يتنقّل في حالاته المختلفة، مارًّا على ضفافها علّها تخرج إليه. يلامسها غير محجمٍ عن دخول حرمها، آملاً ولوجَ أعماقٍ غير مدّعٍ استنارةً صوفيّةً بليغة ينكشف له فيها جلاءُ صورته البهيّة!

"سائحٌ على ضفاف الذات"، بحثٌ يروح في الداخل، دؤوبٌ في سبر أغوارٍ عاصيةٍ على سطحيّةٍ في الرؤية، تبغي المزيد من الرجوع إلى أصالة النفس في الماضي الدفين، لتبرز صورة الحاضر في تطلّعٍ إلى المستقبل الذي يتوق إلى الارتفاع سعيًّا وراء البلوغ!

سائحٌ على ضفاف ذاتٍ تُنشد المقدّس لتتزيّى بثوبه، في مقاماتٍ روحيّة لأجل عيش تصوّفاتٍ تهدي الوحدة مع الكائن الأسمى، "تبدأ سياحتي وفيها هنا محجّتان: الغانج ودير للمتوحّدين في الثلوج"، مع الإله الذي يتعالى في مختلف التجلّيات، فيجذب إليه كلَّ واحد!

سائحٌ على ضفاف ذاتٍ تلاقيها في قولاتٍ تفكّريّة، جادت بها انكشافاتٌ نورانيّة لأئمّة المعرفة الإنسانيّة الذين تأمّلهم المؤلِّف عبر محطّات نزل بها خلال سياحةٍ في قراراته! قولاتٌ لجبران ونعيمة ومفكِّرين عرب وأعاجم، وقف في حضرتهم هائمًا في سرّ توصّلاتهم، محدِّدًا وجهته الأدبيّة، منطلقًا في تعبيراته الخاصّة عن الحالة التي يحياها.

وفي كلّ مقامٍ مقال، صورةٌ تنقل إليكَ زيارتَه ذاته في اللقاء الذي يقيمه مع المكان أو الكائن الحاضر فيه ومعه. مقالٌ هو، صورةٌ شعريّة، وضع لها إطارًا تعريفيًّا بعد بحثٍ عميق في مفهوم الشعر عند كبار الشعراء المحدثين وآرائهم فيه، كالريحاني وعبد القادر الجنابيّ وميشال عاصي. وخلُص إلى قول الأب يوسف سعيد: "حقيقة الشاعر لا تكمن في الأسماء والنوعيّة، وإنّما في الأصالة الشعريّة".

قصد كاتبنا المقامات الروحيّة فزار نهر الغانج المقدّس وأديار التوحيديّين المسيحيّين والمقامات الإسلاميّة، في سياحةٍ قدُسيّة على ضفاف مساكن الله، اختبارًا للقداسة: 

"فأيًّا تكن هويّة القداسة

فاستشعارها وتأثيرها...

والتأثّر بها يبقى عينه...

لكنّ النعمةَ تبقى هي عينها

مصدرُها أنتَ 

فلا تختلف ولا تتغيّر

باختلاف الأمكنة والأزمنة

والثقافات والديانات. 

وفي سياحته عبر الأيّام على ضفاف العمر، التقى لويس صليبا ذاته بين شكٍّ ويقين. يشكّ في نفسه، يهتزّ وجودُ الله في اعتباراته، يضيع في "متاهاتٍ" دُعيت معتقدات ادّعت امتلاك حقيقة الله، وجدها

"حواجز بين الناس

تفصلهم بعضهم عن بعض

أكثر مّما هي معابر

نحو الحقّ والتحقّق..."

ولم تهدِ 

"سوى تفريق عَمْرٍ عن زيد

وجعلِهما يتناحران... ويتقاتلان

أيّهما على حقّ". 

ليعود بعد ربع قرن، وعلى عتبة الخمسين يهتف ناظرًا فوق، في حالةٍ من استقرار:

"وسرتَ معي

وحملتَني عند الضرورة... كي لا أقع.

وها أنا اليوم أحتاجكَ أكثر ممّا مضى.

كلّما كبُرتُ يومًا... كبُرت حاجتي إليك".

هي في الواقع إقرارٌ باليقين ثابت. يقين لا بوجود الكائن المطلق الذي يصبو إليه، بل بحاجته الحقيقيّة والماسّة إلى حضوره الفاعل في حياته! في عمر الخمسين، بكاء الكاتب إقلاع المقلب الثاني من العمر.

"دمعةٌ على الأخطاء والخطايا

جواهر نفيسة"

"فاذرفي يا عينُ دمعاتكِ 

عساكِ تتعلّمين

أنّ الشكّ في الله خسارةٌ لي".

وكأنّي به يتابع قائلاً:

ابتعادي هو عن الحقّ وعن حقيقتي، وانغماسٌ في ما هو غير أنا. فها

"ما مضى حمل الكثير من الأسى والألم".

إدراكٌ صريح أنّه "ألمٌ يبني ويعلّم". 

وفي نهاية الكتاب لوحتان أنثويّتان مميّزتان، زيّنتا الكتاب بمشاعر الأمومة ومفاعيلها، وتأثّرات الحبيبة في عفّة النفس النبيلة. "دانا" صورةٌ ميثولوجيّة، تنسج خطوط عاشقٍ ولهان، نشوته راقية المزاج، ترفع إلى مراقٍ إنسانيّة تعانق الطبيعة في جمالاتها.

"... من صوتها أنا نشوان

أتاني كجرْس وحيٍ...

أسَرَ الأذُن والقلب... والوجدان".

وفي اللغة العاميّة يقول فيها:

"حكْيا زقزقة عْصافير...

بشْرِتا ملمس حرير

ونظرِتا للساهر سمير.

طلِّتا والفجر لمّا يلوح..."

أمّا أنثاه الثانية فحبيبة أعطته الحياة، طبعت وجودَه باسمها. أمُّه هي، منذ صرختها التي أطلقته إنسانًا يضيف على الدنيا وجودًا! أثار الكاتب في النصّ صيحةً خلال تهيُّئها لجراحةٍ أعادته إلى تصوّر صرخةٍ لم يعِها يومَها، يحاول أن يشعرَ ههنا بالقيمة التي كانت لها في أثناء وضعه، وتفاعلها الدائم في أمومتها. كما يعيش هذه القيمة الغالية في حياته، واغتذاءَه منها مرافقةً ودعاء!

"سائح على ضفاف الذات"، مزامير صلاة تغنّي الله في خلواتٍ توحّديّة في حضرة أولياءَ ونسّاكٍ عرفوا التقدّم في معارج الروح الصوفيّة، فبلغوا اطمئنان حالهم في فرح لقاء نفوسهم. مزامير استغفار على هفواتٍ تبدو للعامّة صغيرة، بدت للمؤلّف في سياحته تمزّقاتٍ عن نفسه، تبعده عن عالمٍ تاق إليه، بقضي سحابة العمر في محاولات ارتقاءٍ إليه! مزاميرُ حبٍّ، حيث اللقاء نموٌّ في معرفة الذات منذ لحظة الولادة حتى الاكتمال في الحبيب!

ختامًا، جديرٌ بنا التوجّه إلى "السائح على ضفاف الذات"، ناقلين إليه امتنانًا لاصطحابنا في سياحاته المختلفة الاتّجاهات، نحو هدفٍ واحد وعَينا عليه معه! أما يليق بكلّ واحدٍ منّا أن يقوم برحلته الحقيقيّة في معارج ذاته وولوج أعماق نفسه، فتنير دروبَ حياته في حقائقها السميا، فيلتقيها متوجّهةً نحو العلاء حيث يجد واقعَه ينتمي إلى فوق؟!


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


عماد يونس فغالي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2014/05/25



كتابة تعليق لموضوع : سياحةٌ نحو العلى!
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net