صفحة الكاتب : حيدر الحد راوي

تاملات في القران الكريم ح209 سورة مريم الشريفة
حيدر الحد راوي

بسم الله الرحمن الرحيم

 

كهيعص{1} 

مرّ الكلام مسبقا في الحروف المقطعة ( النورانية ) , ولا بأس بالإشارة الى ان لها خصوصية في كل سورة , لذا  فأن (  كهيعص ) لها خصوصية مع زكريا (ع) .   

لا يعلم او يطلع على هذه الاسرار الا الله تعالى والراسخون في العلم , وايضا من طالت صحبته مع القرآن الكريم , فالقرآن مثل الصديق , كلما طالت معه الصحبة حبى صاحبه بالمزيد من اسراره . 

 

ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا{2} 

تشير الآية الكريمة الى (  ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ ) , اي هذا ذكر رحمة ربك , (  عَبْدَهُ زَكَرِيَّا ) , يصف الباري عز وجل زكريا (ع) بالعبد , وينسبه لنفسه , لما عرف عنه (ع) من تعبداته وطاعاته خالصة لله عز وجل  .     

 

إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيّاً{3} 

الآية الكريمة فيها بيان وكشف : 

1- البيان : من لوازم العبودية لله تعالى , ان ينادي العبد مولاه , وهذا ما حصل من زكريا (ع) , فيما يبدو ان لهذه خصوصية , يطرح اصحاب الرأي فيها عدة اراء منها : 

أ‌) لعل ذلك لأنه أشد إخباتا وأكثر إخلاصا . "تفسير الصافي ج3 للفيض الكاشاني" . 

ب‌) دعائه (ع) كان ليلا , وفي وقت السحر , وهو أرجى للإجابة , فلعل الخصوصية للوقت . 

ت‌) تضمنت الدعوة امرا يعجز عنه البشر , فكانت الاجابة لتكون آية من آيات قدرته جل وعلا بولادة يحيى (ع) . 

2- الكشف : ان الرسل والانبياء (ع) لهم حالات خاصة مع الله جل وعلا , مثل هذه الامور لا تكشف بالعادة , الا ان يكشفها الله تعالى وفقا لما تقتضيه المصلحة والحكمة , فجاءت الآية الكريمة لتكشف عن لحظة من هذه اللحظات السرية بين العبد زكريا (ع) والمولى جل وعلا , فذكرت انه (ع) (  إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيّاً ) سرا , دعوة لم تطرق اسماع السامعين الا السميع العليم .   

 

قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً{4} 

تروي الآية الكريمة بلسان زكريا (ع) مضمون دعواه تلك , جاء فيها :

1- (  قَالَ رَبِّ ) : يستهل دعائه "ع" بــ ( رب ) , لقد تناولنا هذا الموضوع من مسبقا , وروي عن عائشة رضى الله تعالى عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال العبد يا رب يا رب يا رب قال الله لبيك عبدي سل تعط . " الترغيب والترهيب - (ج 1 / ص 256) , الا ان الالباني ضعفه " . 

2- (  إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي ) : من علامات الشيخوخة . 

3- (  وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً ) : انتشار الشعر الابيض في رأسه (ع) . 

4- (  وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً ) : يبين زكريا (ع) اني كلما دعوتك يا ربي استجبت لي , فقد عودتني استجابة دعائي , لم اكن خائبا في دعواتي السابقة , فلن يخيب املي بإجابة دعوتي هذه ) .    

كل تلك كانت مقدمات , بين فيها زكريا (ع) عدة امور , نذكر منها : 

1- التوجه لله تعالى . 

2- بين ضعفه (ع) وعجزه واستكانته وخضوعه لله تعالى ذكره ومجده . 

3- الامل بالإجابة , فمن لوازم وآداب الدعاء ان ييقن العبد بالإجابة . 

4- يبين (ع) وضعه الراهن وحالته , مشيرا فيها الى كل مستلزمات الضعف وعلاماته من جانبه , مهاجرا حوله وقوته الى حول الى الله تعالى وقوته .   

 

وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً{5}

تستمر الآية الكريمة بنقل كلامه (ع) , يضيف فيه مقدمتين تقفان خلف المطلب الرئيسي , فيذكر (ع) : 

1- (  وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي ) : من حيث النسب والوراثة والخلف في امته بعد موته (ع) , حيث كان (ع) يخشى من امته ان لا يقوموا بالدين الصحيح , فيضيعوه او يبدلوه او حتى يحرفوه , فلابد من خلف له (ع) يقيم الدين الصحيح , يقوّم العوج ويرأب الصدع , عبر (ع) عن خشيته بعد ان علم ان زوجته كانت عاقرا . 

(  لم يكن يومئذ لزكريا ولد يقوم مقامه ويرثه وكانت هدايا بني اسرائيل ونذورهم للأحبار وكان زكريا رئيس الاحبار , وكانت امرأة زكريا اخت مريم بنت عمران بن ماثان ويعقوب بن ماثان وبنو ماثان اذ ذاك رؤساء بني اسرائيل وبنو ملوكهم وهم من ولد سليمان بن داود ) . "تفسير البرهان ج4 السيد هاشم الحسيني البحراني , تفسير القمي" . 

هذه المقدمة يبين فيها (ع) السبب لطلبه القادم .   

2- (  وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً ) : لا تلد , يبين (ع) العجز التام عن الوصول لطلبه , عجزه وعجز زوجته من الانجاب , وكذلك عجز حكماء ذلك الزمان وعجز الناس كافة عن تقديم العون بالنصح او الاشارة او العلاج . 

تجدر بنا الاشارة هنا الى ان امرأته كان اسمها " اليصابات " او " اليشبع" او "ايشاع" , يختلف المفسرون في علاقتها بمريم (ع) , فمما قيل عنها : 

أ‌) بعض الآراء تشير الى ان اسمها  ايشاع بنت فاقوذا بن قبيل , وبذا فهي اخت حنه بنت فاقوذا ام مريم (ع) , أي خالة مريم (ع) . 

ب‌) وفي رأي اخر انها ايشاع بنت عمران , أي انها اخت مريم (ع) .  

3- (  فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً ) : (  فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ) , من رحمتك , تحننا ومننا منك , فأنه ذلك لا ينال الا من فضلك وكمال قدرتك , (  وَلِيّاً ) , ولدا من صلبي .     

 

يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً{6} 

يستمر دعاء زكريا (ع) في الآية الكريمة مشيرا الى امرين , فيهما ختام المطلب :

1- (  يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) : يختلف المفسرون في النص المبارك , فمنهم من يقول : 

أ‌) ان يرث الوارث ما لدى ال يعقوب من العلم والنبوة , يذهب الى هذا الرأي عدة مفسرين , منهم السيوطي في تفسير الجلالين . 

ب‌) ان يكون الوارث ( المطلوب ) من ذرية ال يعقوب , يذهب الى هذا الرأي جملة من المفسرين منهم الفيض الكاشاني في تفسيره الصافي ج3 . 

2- (  وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً ) : مرضيا عندك , قولا وفعلا .         

 

يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً{7} 

حالما فرغ زكريا (ع) من دعائه جاءه النداء في الآية الكريمة مباشرة , يحمل بين طياته الاستجابة لدعائه (ع) , ونجد فيه : 

1- (  يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ  ) : خطاب مباشر لزكريا (ع) , يبشره باستجابة دعواه .  

2- (  بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى ) : الباري جل وعلا يسمي المولود الجديد بــ ( يحيى ) تشريفا له وتعظيما لإمره . 

3- (  لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً ) : يبين النص المبارك ان يحيى (ع) اول من سمي بهذا الاسم , لم يسبق وان تسمى به احد قبله .          

 

قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً{8}

الآية الكريمة تنقل كلامه (ع) جوابا للبشارة موضحا امرين : 

1- (  قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً ) : يقول (ع) كيف يكون الولد وقد كانت الزوجة عاقر , لا يمكنها الانجاب . 

2- (  وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً ) : وايضا قد اخذ منه الكبر مأخذه .   

الملاحظ في الآية الكريمة , ان زكريا (ع) كان يقصد شيئا اخر بكلامه , فهو (ع) من خيرة العارفين بقدرة الله تعالى , فما الداعي لذلك , هناك حادثة تشابه هذه الحادثة جرت مع موسى (ع) " وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى{17} قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى{18} " سورة طه الشريفة , كان بإمكان موسى (ع) ان يكتفي بالرد (  هِيَ عَصَايَ ) , والمعلوم ان العصا تستعمل لتلك الامور التي ذكرها (ع) , ولا حاجة للإطالة , لكن طالما وان الخطاب الالهي كان مباشرا في كلا الحالتين , أرادا عليهما السلام استمرار الكلام ما امكنهما مع الله عز وجل , وهذه من حالات الرسل والانبياء (ع) مع الله تعالى , كحالة العاشق مع المعشوق "الامثال تضرب ولا تقاس" .    

 

قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً{9} 

يأت الجواب الرباني (  قَالَ ) , يختلف المفسرون بمن القائل هنا , فمنهم من ذهب الى انه الله تعالى , وذهب اخرون الى انه الملك حامل البشارة , (  كَذَلِكَ ) , كذلك الامر , كما جاء في البشارة , (  قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ) , الامر هين ويسير عليه عز وجل , (  وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً ) , يذكر النص المبارك ما هو اعجب من هذا الامر . 

 

قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً{10}

يستمر الحوار في الآية الكريمة : 

1- (  قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً ) : يطلب زكريا (ع) علامة يعلم بها وقوع البشارة . 

2- (  قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً ) : جاء الجواب مباشرة  , العلامة ان لا تكلم الناس ثلاثة ايام بلياليها , الا بذكر الله تعالى , وانت سليم ومعافى , من غير مرض ولا علة . 

يرى بعض المفسرين ان العلامة هي عدم تمكن زكريا "ع" من النطق الا بذكر الله تعالى , مع سلامة مناطقه .   

 

فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّاً{11}

بعد ختام الحوار تبين الآية الكريمة ( فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ ) , خرج من المسجد او المصلى او غرفته (ع) , فيما يروى كان الناس ينتظرون فتح المسجد او المصلى كالعادة , ليؤدوا الصلاة , فقد حان وقتها , (  فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّاً ) , أومأ واشار زكريا (ع) للقوم , ان صلوا ونزهوا الله تعالى طرفي النهار , وهنا تختلف الآراء كالعادة :        

1- ولعله كان مأمورا بأن يسبح ويأمر قومه بأن يوافقوه . "تفسير الصافي ج3 للفيض الكاشاني" . 

2- علم (ع) بعلامة تحقق البشارة , فلم يتكلم الا بذكر الله تعالى , او انه "ع" لم يتمكن من النطق الا بذكر الله تعالى , فأستعمل الاشارة مع القوم . 

 

 

 

 

 

 

حيدر الحدراوي

 

 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


حيدر الحد راوي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2014/07/16



كتابة تعليق لموضوع : تاملات في القران الكريم ح209 سورة مريم الشريفة
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net