صفحة الكاتب : صالح الطائي

امتحان الأمة في يوم الغدير
صالح الطائي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 التفتُ في كتابي "جزئيات في السيرة النبوية" إلى قضية في غاية الأهمية وهي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) غزا اثني عشر غزوة، لم يترك المدينة المنورة في أي غزوة منها دون أن يولي عليها شخصا يدير شؤونها، بل إنه حينما انشغل بترتيب الجبهة في غزوة الخندق، وهي على حدود المدينة وليست بعيدة عنها، ترك على المدينة أميرا يدير شؤونها بالرغم من قربه منها، أما حينما سار لفتح مكة المكرمة فقد ترك واليا على المدينة يديرها، فلما دخل مكة فاتحا منتصرا وصلت إليه أخبار غطفان وهي تعد العدة في الطائف لتسير إليه، قرر المسير إليهم، وحينما هم بالخروج من مكة التي دخلت الإسلام حديثا، لم يتركها على حالها وإنما عين عليها واليا من أهلها هو عتاب بن أسيد وهو شاب عشريني ليدير شؤونها. ثم تساءلت: فهل من المعقول أن يترك أمته هملا دون أن يولي عليهم واليا يدير شؤونهم؟ وإذا ما كان في غزواته التي كان يعرف بأمر الله أنه سيعود منها سالما، قد عين الولاة،فهل يعقل أن يترك الأمة بلا وال وخليفة وهو يستعد إلى الرحيل الأبدي؟
إن الإنسان إذا نظر إلى هذه الوقائع بعين الإنصاف والعقل يتأكد أنه يستحيل أن يموت النبي (صلى الله عليه وآله) دون أن يعين واليا وخليفة على أمته؛ وهو الذي خبرهم طوال عمره الشريف، وعرف نوع تفكيرهم ودرجة إيمانهم وقربهم أو بعدهم من أصول العقيدة وسرهم وعلنهم.!
إن إخبار الله تعالى نبيه بدنو أجله له حكمة كبيرة، فمن خلال المقدمات التي ساقها الله تعالى إليه رحمة به، أدرك رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يوم رحيله قد قرب، وأنه يجب أن يختزل الرسالة التي صرف عليها من عمرة ثلاثة وعشرين عاما بعدة كلمات يستوعبها ويحفظها ويدرك مغزاها الجميع، والجميع هنا غريبة جدا إذ أمر النبي بحجة عظمى يسهم بها جميع المسلمين، وقد ورد في الروايات أن عددهم زاد على مائة وعشرين ألفا.
أمام هذا الجمع الكبير، وقف رسول الله ليلقي على أسماعهم خلاصة العقيدة، وبذلك سلم الأمانة إلى ضمير ووجدان الأمة، وشخص اسم من سوف ينوب عنه في قيادتهم إلى بر الأمان، فأدى رسالته كاملة.

اختار النبي يوم الأحد الموافق (18) من سنة عشر للهجرة المباركة، فأوقف هذا الجمع في مكان مفترق طرق اسمه "غدير خم" كانت السبل تفترق فيه ذاهبة إلى الأمصار والبلدان، وكأنه يقول لهم إن من لم يلتزم منكم بما سألقي إليه، سيتبع لا محالة طريقا يبعده عن المركز وقد يضل. ولم يكن المكان مهيئا لاستقبال وحشد مثل هذا العدد العظيم، ولاسيما وان المسير أنهكهم، والتعب أخذ منهم حصة، فضلا عن تعب الحج ومناسكه، ولم تكن هناك ربوة ليرتقي إليها فيسمع صوته، ولا ظلا يتفيأ به الناس من قيض الحر وشدته، فلماذا الإصرار الشديد على أن تكون غدير غم موعد الأمة مع القدر؟
ببساطة كان الذين قد رافقوا النبي في هذه الحجة قد جاءوا من كل أنحاء الجزيرة، وقد تضاربت الأقوال في عددهم، ومن هذا المكان تحديدا تتفرق الطرق التي يسلكونها ليعود كل منهم إلى دياره، ولكي لا تبقى حجة لأحد ممن يدعون أنهم لم يسمعوا تبليغ النبي، ولكي يكون كل واحد منهم شاهدا على الآخر، أمر (صلى الله عليه وآله) بجمعهم في هذا المكان ليُحَمِلّهم الأمانة قبل أن ينصرفوا.! وهنا خطبهم خطبة من خمس محاور مترابطة مع بعضها:
المحور الأول:
أخبرهم فيه أنه سينتقل قريبا إلى الرفيق الأعلى. كما في قوله (صلى الله عليه وآله): "أيها الناس ألا تسمعون"؟ قالوا: نعم. قال: "فإني فرط على الحوض". وقوله: "أما بعد أيها الناس اسمعوا مني أبين لكم فإني لا أدري لعلى لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا"
المحور الثاني:
أخبرهم أنهم مسؤولون عن الحفاظ على روح العقيدة وجوهر الإسلام. كما في قوله: "أوصيكم عباد الله بتقوى الله وأحثكم على طاعته وأستفتح بالذي هو خير".. ثم أبان لهم باختصار جوهر العقيدة الصحيحة لدرجة أنه أوصاهم بالنساء، وشرح لهم تقسيم الإرث، وحثهم على الإخاء، ولم يترك شيئا إلا ذكره.
المحور الثالث:
أخبرهم أن كل الرسالة تتلخص بثقلين اثنين؛ هما الكتاب والعترة؛ آل النبي. كما في قوله: "فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين"، فنادى منادٍ: وما الثقلان يا رسول الله؟ قال: "الثقل الأكبر كتاب الله طرف بيد الله عز وجل وطرف بأيديكم، فتمسكوا به لا تضلوا، والآخر الأصغر عِترَتي، وإن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يتفرقا حتى يردا على الحوض، فسألت ذلك لهما ربي، فلا تقدموهما فتهلكوا، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا".
المحور الرابع:
أوضح لهم أنه كما أن القرآن الكريم يعني ديمومة واستمرار العقيدة، فإن ولاية علي (عليه السلام) تعني استمرار القرآن. وهذا أبانه بعدما أخذ بيد عليٍ (عليه السلام) فرفعها حتى رؤيَ بياض آباطهما، وعرفه القوم أجمعون، فقال (صلى الله عليه وآله): "أيها الناس من أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم"؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "إن الله مولاي وأنا مولى المؤمنين وأنا أولى بهم من أنفسهم فمن كنت مولاه فعلي مولاه"، يقولها ثلاث مرات، ثم قال: "اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وأحبَّ من أحبّه، وأبغض من أبغضه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيث دار، ألا فليبلغ الشاهد الغائب"
المحور الخامس:
تبليغهم بنص الآية التي نزلت في المكان نفسه تبشره بإتمام الدين وإكمال العقيدة ووضوح المنهج، في الروايت: ثم لم يتفرقوا حتى نزل أمين وحي الله، بقوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا}. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "الله أكبر على إكمال الدين، وإتمام النعمة، ورضا الرب برسالتي، والولاية لعلي من بعدي"

ولأن هذه المحاور لا تترك فرصة مهما صغرت للالتفاف على معانيها الواضحة، نجدهم يبرعون في التعليل والتأويل لحرف هذه المعاني الخالدة عن مقاصدها الحقيقية، ولاسيما في حديثه (صلى الله عليه وآله) عن الولاية، من خلال تهريجهم وتعللهم مرة في صحته، وأخرى في وجود زيادات فيه، وثالثة في إعراض البخاري عن ذكره، وفي رابعة أباحوا لأنفسهم مخالفة كل قواعد الجرح والتعديل لمجرد إسقاطه.!
هذا الحديث صححه الكثير من المهتمين، منهم: الحاكم في المستدرك ووافقه الألباني في السلسلة الصحيحة، والأرناؤوط والبيهقي ورواه الترمذي وقال: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه الإمام أحمد وابن ماجة، وكثيرون غيرهم. وقال الذهبي: "وأما حديث (من كنت مولاه) فله طرق جيدة" وقال ابن كثير في "البداية والنهاية": "قال شيخنا أبو عبد الله الذهبي: "وهذا حديث صحيح".
إن هذه الأقوال، وهذه الكثرة، وقفت أمام من يريد الطعن في الحديث وأعاقت عمله، وكشفت زيفه وطائفيته ونصبه وعدائه لأهل البيت، ولكنهم لم ييأسوا، وبحثوا عن تخريجات جديدة ما أنزل الله بها من سلطان، كما في قول الزيلعي في (تخريج الهداية): "وكم من حديث كثرت رواته، وتعددت طرقه، وهو حديث ضعيف، كحديث (من كنت مولاه)" ولا أدري بأي حديث يؤخذ إذا كان الحديث قد كثر رواته وتعددت طرقه.! وكما في قول ابن تيمية في منهاج السنة : "وأما قوله (من كنت مولاه فعلي مولاه) فليس هو في الصحاح، لكن هو مما رواه العلماء، وتنازع الناس في صحته، فنقل عن البخاري وإبراهيم الحربي وطائفة من أهل العلم بالحديث أنهم طعنوا فيه... وأما الزيادة وهي قوله اللهم وال من والاه وعاد من عاداه الخ فلا ريب انه كذب"
ومعنى هذا أنهم بحثوا عن أي منفذ ليلجوا من خلاله للطعن بالحديث، فانبرى بعضهم
لتفسير معنى "الولاية" ، فقالوا: فيقولون أنه قد بيّن فضائل علي للذين لم يعرفوا فضله، وحث على محبته وولايته لما ظهر من ميل المنافقين عليه وبغضهم له،ولم يقصد أن يوصي له ولا لغيره بالخلافة. طيب هناك من يقول: إن أبا بكر وعمر وعثمان أفضل من علي، فلماذا يبين النبي فضائل علي من دونهم، أليسوا مقدمون عليه بالفضل كما يدعون، ومن الأولى بالنبي أن يقدمهم أولا أو يقدمهم على علي ويذكره معهم، أو في الأقل يقدم أبا بكر الذي هو أفضل الجميع؛ كما يقولون؟!!
ولهذا السبب قال البيهقي: "والمراد به ولاء الإسلام ومودته وعلى المسلمين أن يوالي بعضهم بعضا ولا يعادي بعضهم بعضا". ولا أدري لماذا خص النبي عليا وحده دون غيره من المسلمين بهذا المعنى.! وقال مركز الفتوى السعودي: "المراد بذلك، المحبة والمودة وترك المعاداة، وهذا الذي فهمه الصحابة حتى قال عمر لعلي: "هنيئا يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة"

وانبرى آخرون للتحدث عن أماكن أخرى غير الغدير، فادعوا أن النبي ألقى خطبته تلك يوم عرفة من جبل الرحمة، وليس في غدير خم، وقد نزل فيه الوحي مبشراً أنه "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً" في عرفة لا في غدير خم.!
وقد أثبت الكثير من هؤلاء المتعللين أنفسهم خطل هذه الأقوال وتهافتها ولاسيما أن هناك الكثير من الأقوال التي تثبت أن النبي طالما كرر الحديث نفسه في عدة مناسبات لكي يرسخ في أذهانهم، فقوله لعلي عند عودته من اليمن، إن صح، لا يمنع أن يذكرهم به في غدير خم، ولاسيما وأنه ذكرهم بكل ما علمهم به من قبل، فلماذا يأخذون بتلك ويعترضون على هذه؟
ومن الذين صححوا الحديث وأثبتوا أنه قيل في منطقة غدير خم كان الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، الذي أخرج: "عن أبي الطفيل عن زيد بن أرقم، قال: لما رجع رسول الله من حجة الوداع، ونزل غدير خُـم، أمر بدوحاتٍ فقُمِمْن، ثم قال: "كأني قد دُعيت فأجبت، وأني تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، فانظروا كيف تخلفوني فيهما، فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض". ثم قال: "إن الله مولاي، وأنا ولي كل مؤمن". ثم أخذ بيد علي (رضي الله عنه)، فقال: "من كنت وليه، فهذا وليه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه".
كما انبرى قسم منهم للحديث عن سبب قول هذا الحديث، ومن هؤلاء قناة وصال الهمجية الطائفية الكذابة، التي قالت في معرض تعليقها: "حدث شجار بين علي وبين الصحابي زيد بن حارثة فقال علي لزيد: "إنما أنا مولاك! فقال زيد: لست بمولاي! إنما مولاي رسول الله. فاحتكما إلى النبي (ص) فقال: "من كنت مولاه فهذا علي مولاه".!
وحينما تعلم أن زيد بن حارثة استشهد في معركة مؤتة التي وقعت في جمادي الأول من سنة ثمان للهجرة، أي قبل سنتين من واقعة الغدير، تعرف الورطة التي يعيشها القوم.
أما البيهقي فقد تناوله في كتابه "الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد". فذكر أنه لما بعث النبي علياً إلى اليمن كثرت الشكاة عنه، وأظهروا بغضه فأراد النبي أن يذكر اختصاصه به ومحبته إياه، ويحثهم بذلك على محبته وموالاته وترك معاداته، فقال: "ومن كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه".
إن مجرد وجود هذا الكم الكبير من الاختلاف في أقوالهم القديمة والحديثة يثبت بما لا يقبل الشك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قصد كل كلمة قالها في هذا الجمع معناها الحقيقي وليس التأويلي، وأنه نص فعلا وصدقا على خلافة وصيه الإمام علي (عليه السلام) وأن السياسيين الذين سيطروا على مقاليد حكم الأمة عنوة بعد موت النبي هم الذين حثوا أعوانهم للتحرك  في كل الاتجاهات للطعن والتشكيك بهذا الحديث الصحيح.
وأرى أن الأمة التي فشلت من قبل في تجاوز محنها بسبب عدم التزامها بالمعنى الحرفي لهذا الحديث، مما أدى إلى مقتل ثلاثة من الخلفاء الراشدين بيد المسلمين أنفسهم، وأدى إلى مقتل مئات الصحابة بيد الصحابة أنفسهم في الجمل وصفين والنهروان، ثم أدى إلى قتل الإمام الحسن والإمام الحسين، وحرق بيت الله مرتين متتاليتين، واستباحة مدينة النبي المنورة؛ ونساء وبنات الصحابة الكرام، قد آن لها أن تترك تلك المهاترات، وتعيد قراءة ما ورثته من نصوص سياسية محرفة، كما تعيد قراءة تاريخها المغتصب المستباح، وان تبدأ في ترميم البيت المسلم من خلال تصحيح كل الهفوات التي أدت بنا إلى ما نحن عليه، وأولها الاعتراف بصحة وصدق واقعة غدير خم.






 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


صالح الطائي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2014/10/13



كتابة تعليق لموضوع : امتحان الأمة في يوم الغدير
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net