صفحة الكاتب : د . سليم الجصاني

لغة النص في قصيدة المتنبي "على قدر أهل العزم"
د . سليم الجصاني

    توسل الشاعر باللغة وأشكالها الظاهرة ومستوياتها للوصول إلى هدفه الكامن في إنتاج نصه الشعري, واللغة هي الصورة الكبرى للعقل وأوضحها في فهم المعنى, وقد أمسك الشاعر بقواعد إنتاج الجملة لينتقل بها إلى قواعد إنتاج النص في ظل علاقات التماسك النحوي النصي المتسقة في التراكيب المحورية وتنويعات بنية التتالي الجملية, فاللغة كائن حي يضم في داخله الروح المتمثلة بالمعنى, وقد وظفت قصدية المتلقي في تحولات النحو التوليدي, ولم يدخر المنتج استرجاعاته اللغوية في توفير مستوياتها الصوتية والصرفية والتركيبية والدلالية, وتسخيرها لخدمة النص وقدرات المتلقي, والمتنبي قد أدرك أن الكلمة المستثمرة بشكلها الدقيق في حقل التركيب من شأنها أن تنهض بواجباتها تجاه النص, وهذا ما يبدو جليا في القصيدة بكاملها, ابتداء من أولها حتى آخرها, وهي بشكل يسير تفهم من :

أولا ــ المستوى الصوتي: الذي اكتنز في داخله إيقاع الحرب الحماسي في أبياتها واستثماره للأصوات الصامتة والصائتة في نسق صوتي نسج بعناية فائقة ومهنية جادة استثمرت الإيقاع الصوتي الذي يولد النغم المناسب للمعنى العام والمعاني الثانوية ومن ذلك استثماره لصوت القاف في قوله: (بناها فأعلى والقنا يقرع القنا) والقاف صوت انفجاري وضعنا أمام صورة ضجيج القنا في حرب صاخبة, وتتجدد الصورة الصوتية في :

طريدة دهر ساقها فرددتها                     على الدين بالخطي والدهر راغم

فالدال ترددت بشكل مطرد في (طريدة – دهر – رددتها – الدين – الدهر) ومساوقة الراء لها في (طريدة – دهر – رددتها – الدهر – راغم), والراء صوت استمراري متكرر يشير مع الدال إلى استمرار مطاردة الممدوح لمن يعاديه فيسومهم الذل كلما فكروا بمخالفته, وكلما جددوا العداء له, ولا تقل الصوائت عن الصوامت في الاستنفار الصوتي الذي وظّفه الشاعر في استنهاض الدلالات, ومن بعض ذلك قوله:

وقفت وما في الموت شك لواقف              كأنك في جفن الردى وهو نائم

ويظهر جليا في البيت توزع الصوائت الطويلة والقصيرة وإنصافها في قمم صوتية تتكئ على قواعد تساقيها لتسجل مساحة زمنية أطول مما يدله الصامت في تناسق صوري مع الوقفة الشجاعة التي امتدت حيث امتداد الزمان وغطت بظلها مساحات المكان, وهو ما أشار إليه الدرس الصوتي الحديث من توفير مساحة زمنية تناغم متطلبات الدلالة.

ثانيا ــ المستوى الصرفي: الكلمة تؤلف الكلام وهي جرح الصمت الذي استنطقه الشاعر فأودعه احتياجات النص وتوقف المتلقي لأنه أدرك ما للكلمة من تأثير عندما يحسن استعمالها في حقل الجملة ومن ذلك حقل التقابل الذي ركن إليه بشكل ملحوظ في نصه الشعري ليجيء بنتائجه بأول بيت قاله:

على قدر أهل العزم تأتي العزائم                وتأتي على قدر الكرام المكارم

فجاء بعزم ليقابلها بعزائم, وكرام ومكارم, واستعمل المصدر ودلالته التي لا تتوافر في الفعل وباقي الاشتقاقات بقوله (قدر أهل العزم- قدر الكرام) وكأنّ الشاعر حولهم إلى منبع للعزم ومصدر للكرم وكأنهم العزم بعينه والكرم بذاته, فضلا عن ركونه إلى دلالات جمع التكسير غير المنتظم بقاعدة الذي يتطلبه اختلاف الصور وتمزقها في ساحة الحرب وهي تلحظ في (الخضارم- الضراغم- القشاعم- القوائم- الغمائم- الجماجم...) وغيرها مما يكثر, ويقابله قلة الركون إلى جمع القلة في (أسيافه) وليست (سيوفه) ليدل على قلة هذه السيوف التي لا تضارعها سيوف ولا تضارعها مثيلات لها.

كذلك استعمل الشاعر الصيغة الدالة على الشيء وفاعله في اسم الفاعل في مواضع كثيرة ليدل بها على قوة الفعل للممدوح ومن ذلك ما ورد في البيتين الأخيرين (باسم- عالم):

تمر بك الأبطال كلمى هزيمة                             ووجهك وضّاح وثغرك باسم  

تجاوزت مقدار الشجاعة والنهى                          إلى قول قوم أنت بالغيب عالم  

ويضاف إلى ما ورد؛ ما حشده الشاعر من الضمائر الظاهرة والمستترة (وهي كلمات معارف) لإظهار الآخر بحلة الشجاعة وبزة الفروسية ومعاني المجد والقيم, مما جعل هذه الضمائر تتوزع في أحشاء القصيدة, وتتأجج في نهاياتها التي يأتلق فيها البطل بضمائر المخاطب التي تلحظ في (وقفت – كأنك- بك- وجهك – ثغرك – تجاوزت...) وغيرها.

وما ذكر في توظيف الكلمة في إبراز الدلالة أمر موجز, ومع إيجاز فهو يشير إلى التقنية العالية التي انتهجها الشاعر في تشييد معمار القصيدة.

ثالثا ــ المستوى التركيبي: لم يعنَ الشاعر ببناء نحو الجملة بمعزل عن البنية الكبرى للنص أو نحو النص, وهو قد أدخل الجملة في متتاليات تشكل التنظيم البنائي الأكبر للحصول على التحولات التي ينتجها النحو أو النحو التوليدي, وقد وظّف لذلك التغاير الجملي بغية التشويق وكسر الرتابة واعتماده كذلك على سمات أسلوبية تدل على أنه شاعر مرس الشعر وانماز بأسلوب لا يرقى إليه احد من الشعراء, فهو قد جاء بجمل خبرية غايرها بأخرى إنشائية, فضلا عن تنويعه للخبر بأقسامه وأنواعه, وكذلك الإنشاء بأقسامه وتفصيلاته, ومن جهة أخرى اعتمد تارة على الجمل الفعلية التي تنطوي على دلالات الحركة والزمن, وتارة ثانية اعتمد على الجمل الاسمية التي تدل على الثبات، وكل منها قد وظفه في موضعه فأحسن توظيفه، ومن ذلك استعمال الاستفهام في قوله:

هل الحدث الحمراء تعرف لونها                    وتعلم أي الساقيين الغمائم

وركونه إلى الجملة الفعلية الماضيوية في قوله:

أتوك يجرون الحديد كأنما                   سروا بجياد مالهن قوائم

ليدل بالماضي (أتوك) على أنهم قد حشدوا لقتاله العدد والعدة منذ وقت طويل مضى, وهم منذ ذلك الوقت والى مستقبل الوصول يسيرون بجيش ضخم لا طاقة لأحد به، وقبل هذا اعتماده على العطف التقابلي بين جملتين فعليتين سبقت كل واحدة منهما بنفي لتشير إلى الإخبار المحقق في قوله:

فما مات مظلوم ولا عاش ظالم     

وكذلك اعتماده على الشرط في أسلوب يظهر عنصر المفاجأة السريعة في قوله:

إذا برقوا لم تعرف البيض منهم                   ثيابهم من مثلها والعمائم

ولم يكن القصر غائبا عن استعمالات النص ومنه طريقة النفي والاستثناء في قوله:

فلم يبق إلا صارم أو ضارم

ليؤكد خلو الأرض من كل شيء خلا السيوف والمقاتلين الذين لا يعرفون سوى القتل والقتال.

ولم تكن هذه الشواهد الأسلوبية هي وحدها التي وردت في النص, بل ورد غيرها كثير من مستويات اللغة التي صيّرها الشاعر في إبراز الدلالات, وإظهار معالم المجد بتفاصيله التي تظهر الشجاعة والكرم والخلق والقيم, وما عرف عن الإنسان الممدوح ومجتمعه من معالم سامية انطوى عليها النص.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . سليم الجصاني
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2014/10/20



كتابة تعليق لموضوع : لغة النص في قصيدة المتنبي "على قدر أهل العزم"
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net