دماء في ذمة إعلامنا!
عباس البغدادي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
من يدرك ان معركتنا ضد الإرهاب التكفيري (ومن يقف وراءه) هي معركة شاملة، متشعبة ومنفتحة على كل الجبهات بأبعادها المادية والمعنوية، يدرك ايضاً بأن سلاح الإعلام فاعل وفتاك، تبدأ به الحروب الحديثة، وبه تستمر. وكباقي الأسلحة إما يكون خلّبياً و(خردة) لا يرعب عدواً ولا يحمي ضحية ولا يكسب جولة، أو أن يكون فاعلاً ويصيب العدو في مقتل ما دامت الحرب لم تضع أوزارها بعد!
وبما انه لا يمكن منطقياً أن نطلق على الإعلام القائم بمؤسساته شبه الرسمية والأخرى "المستقلة" على أرض العراق بـ"الإعلام العراقي"، بواقع ان الكثير من هذه المؤسسات تعمل جهاراً -بكل حرية- بالضدّ من مصلحة العراق والعراقيين في هذه الأوقات العصيبة؛ بل ويمكن تصنيف بعضها (جهاراً أيضاً) بالمساند لداعش أو متواطئ معه! لذلك سأختصر ملاحظتي وأعتبرها موجهة الى الإعلام المعادي للإرهاب التكفيري، المجنّد والمتخندق في صفّ الحق العراقي، المستنفر لتطهير الوطن من رجس داعش ونظائره. فالملاحظ ان هذا الإعلام لم يرتقِ -للأسف- بعد الى مستوى المسؤولية في كسب "الجولات الإعلامية"، وذلك لأسباب كثيرة لا طاقة لهذه السطور بإحصائها، ولكن أبرزها يدور في فلك غياب الأسس المهنية وروح الإبداع في المنجز الإعلامي، وواضح جداً افتقار هذه المؤسسات الى الكوادر المهنية المؤهلة، وتغليب المحسوبيات و"المحاصصات" في توظيف المنتسبين، دون الالتفات الى ان الساحة العراقية (بامتدادها في ساحات المهجر) تزخر بكوادر متمرسة وأكاديمية لها باع طويل في المجال الإعلامي، وقد اكتسبت خبرات عملية مميزة طوال سنوات الغربة (خصوصاً في الغرب وما يشهده من طفرات في المجال الإعلامي)، ولكن لم يلتفت اليها أحد؛ بل ولا توجد نوايا حقيقية وآلية واقعية لاستثمار هذه الخبرات طيلة 12 عاماً بعد التغيير، وهذا بدوره يمثل مؤشراً إضافياً على الفساد الإداري الذي ساهم (بجدارة) في الوصول الى ما نحن فيه! وإلاّ كيف يمكن السكوت -مثلاً- على اقترافات يمارسها "الإعلاميون" في مؤسسة شبه رسمية كقناة "العراقية" وبعد 11 شهراً من الحرب الدائرة، فيجهل "خبراؤها" كيفية توظيف "الصورة" بغية استخدامها كسلاح ضد العدو، وهي عنصر وصل ذروة خطورته ضمن الإعلام الحديث في عصر العولمة، في الوقت الذي نلمس بأن داعش (وباعتراف الخبراء الإعلاميين) استثمر الى أقصى مدى الصورة كسلاح في حربه الإرهابية، وهو التنظيم الذي يوصم بالهمجية وانه يُدار من زمر الأوباش والمسوخ والمضَللين؟! بيد ان العجب يتبخر لو أدركنا بأن ثلة من قيادات التنظيم، أو قُل من يدعمونهم من وراء سِتار، قد أدركوا ضعف إعلامنا وجهله إدارة سلاح الصورة وخطورة تصويبه، فاستثمره داعش وفق الأسس المهنية (بغض النظر من يرفده بالخبرات الإعلامية)، مقابل الارتجالية المقيتة التي تُدار بموجبها لدينا -للأسف الشديد- أغلب وسائل الإعلام المنخرطة في الحرب على الإرهاب!
لقد هالني أن أشاهد وسائل الإعلام تلك وهي تستخدم (وبتكرار مفزع) صوراً حول تنظيم داعش تصاحب الأخبار والتقارير والريبورتاجات، وهي ذات الصور التي يبثها التنظيم عبر وسائل إعلامه ويروّج لها، والتي تُظهر مقاتليه في أوضاع استعراضية مصطنعة بدقة وهم مدججين بالسلاح، ويستنسخ فنيوها (مشهدية هوليودية) لتبرز قوة أولئك المقاتلين وصلابتهم وتأهبهم! نعم شاهدتها تتكرر مراث كثيرة تعرضها القنوات التي ترفد جهود الحرب على الإرهاب، فتجعلها أحياناً كخلفية للحديث عن "أكذوبة انتصارات" داعش التي يزعمها، وأحياناً أخرى لتبيان "الخسائر" التي تكبّدها التنظيم والهزائم التي لحقت به هنا أو هناك..!
فأية سذاجة مهنية تلك التي تدفع أي "إعلامي" أن يخدم عدوه من حيث يريد "دحره" وهو يقدم مادة إعلامية تستهدف النيل منه بأدوات يسعى ذات العدو أن يروجها في وسائلة الإعلامية! وهذا يحصل طوال 11 شهراً من عمر الحرب القائمة (هذا اذا لم نحتسب السنوات التي قبلها من المعركة المستمرة ضد الإرهاب)؟! ولو حصل ذلك فقط في الأسبوع الأول من الحرب لاحتسبنا الأمر بمثابة هفوة أو كبوة فارس! أما بعد كل هذه الشهور الطويلة، وبعد كل صرخات الاستغاثة المستمرة من خطورة الضعف الإعلامي الواضح في حربنا على الإرهاب، فالمصيبة أعظم!
والأفظع من ذلك أن يُعين المرء عدوه على نفسه، ويروّج لـ"قوة وصلابة" هذا العدو عبر الصور "المستعارة" منه وبمجانية مفرطة.. فهذه والله الطامة الكبرى، والأنكى أن من يقترف ذلك لا يجني على بديهيات الأسس المهنية فقط؛ بل ويجني على من يعقدون الأمل على إعلام كهذا يحارب الإرهاب وينشد "دحره"! وفي الحقيقة انه يستخف بدماء مقاتلينا المضحين في سوح القتال، شاء المرء أم أبى، مع كل محاولاتنا للتخفيف من صدمتنا بإعلامٍ لا يتقن استخدام أسلحته، كالمقاتل الذي يصوّب فوهة بندقيته الى صدره بدلاً من صدر عدوه، ولا يتقن أيضاً أن يلتفت لمكامن ضعفه المهني حينما يشير إليه بإخلاص وتجرّد من يصطف معه في جبهة واحدة، ويشاركه ذات الاستهداف من تربص عدو همجي يستفيد من الثغرات والإخفاقات، أمنية كانت أم إعلامية.. والى الله المشتكى!