صفحة الكاتب : فالح حسون الدراجي

أمي و (كميت) وكوب الحليب..!
فالح حسون الدراجي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 أحب أمي جداً مثل حب ملايين الأبناء لأمهاتهم. لكني أختلف عن هذه الملايين بتفسير هذا الحب. فأنا أرى أن حبي المفرط لأمي لم يأت لأسباب تقليدية متوارثة علمياً واجتماعياً، كتطابق الجينات الوراثية، أو بسبب الروابط العائلية المنبثقة من وحدة الدم، والمصير، والحياة المشتركة، ولا حتى بسبب العاطفة المزروعة ربانياً في فؤادي وفؤادها مثل الناس الآخرين. إنما حبي لأمي يأتي لأسباب موجودة بالواقع، لكنها خارجة عن الفهم، والتفسير، والإدراك البشري، وخارجة عن المفاهيم المادية للتاريخ، ولنشوء وتطور الإنسان، أو العائلة، والنظريات السايكولوجية، مع جل احترامي لعبقريات انجلس، وفارباخ، ودارون، وفرويد، وعلي الوردي، وغيرهم. فأنا ما زلت أحس بوجودها، وألمس نور روحها الساطع كلما أزداد العالم ظلمة وسوادا، حولي، وأشعر بدفء أنفاسها الزكية في كل زاوية من زوايا البيت، لأني لم أنفصل عنها حتى وأنا أقيم في آخر قارات الأرض. فثمة خيط ذهبي يشد روحينا وقلبينا، ولم ينقطع الخيط حتى بعد رحيلها عن الدنيا. إن عطر حبها ينتشر في قلبي، كلما أقوم بعمل معين، او أنطق بكلمة، أو أبدي رأياً ما، لذلك أسمع بعدها من يقول لي: كأنك المرحومة أم خيون!! ولعل الأروع أنها علمتني أشياء عظيمة، لا أظن أن أماً غير أمي (الرسولة) كانت ستعلمها لابنها مطلقاً، حتى لو كنت أنا الإبن. ومن هذه الأشياء ما طبع بروحي وكياني، مثل التسامح مع الآخرين، فأمي تعتبر بشهادة الجميع (ملكة) التسامح مع المسيئين لها. وأمي أيضاً أرضعتني حب الشعر، والإخلاص له، فالوالدة كانت شاعرة دون أن تكتب بيت شعر واحد، لكنها مخلصة، وعاشقة للقصيدة حد الدهشة، بحيث حفظت مئات الأبيات، إن لم أقل الآلاف، فكانت تستخدم الشعر في كل صغيرة وكبيرة في حياتها. وأمي التي تعلمت القراءة وهي في السابعة من العمر في قرية لا يقرأ ولا يكتب فيها الذكور، فما بالك بالأناث، كانت أول بنت تقرأ في ناحية كميت عام 1937 وكانت أيضاً أجمل وأنقى فتاة في تلك البقعة الجنوبية البعيدة. والغريب في الأمر أني لم أكن أشبهها في شبابي كما أشبهها اليوم في كهولتي، فقد صرت أقترب من روعتها كلما شاخت سنين عمري!! وعلى ذكر ناحية (كميت)، أود أن أعترف، وأقول، بأن لا شريك لأمي في كنز الحب بقلبي غير هذه المدينة الوديعة والصغيرة كقلب طفل قروي. فحبي لهذه المدينة الميسانية البعيدة لم يأت بسبب سقوط رأسي وقلبي على بساطها الأخضر الجميل قبل ستة عقود، ولا لأنها وهبتني أمي وأبي الحبيبين فحسب، إنما لأن (كميت) أعطتني في طفولتي ما لم يقدر غيرها على أن يعطني إياه. فهي أعطتني آدميتي، وأرضعتني حليب عراقيتي، فصار ذلك الحليب زوادة عمري، ومعيني الوطني، وسلاحي الذي سأدافع به لاحقاً، عن وجودي وكينونتي واعتباري في الحياة. لقد علمتني كميت أن أكون (انساناً).. وأن أحب الناس جميعاً. فعندما فتحت عيني على الدنيا في ناحية كميت، كان (الكميتيون) عائلة واحدة، وبيوتهم الشريفة مفتوحة للجميع .. ويوم ذهبتُ الى الصف الأول في مدرستها الابتدائية، وجدت أمامي طلاباً مختلفين في الدين والقومية لكنهم موحدون بعراقيتهم وحب بعضهم. فكان معي في نفس الصف ابن الصابئي عمارة الصايغ، وابن اليهودي عزرا أبو البيض، وابن المعلمة المسيحية (ست سميرة) وغيرهم من الزملاء الآخرين الذين يمثلون فسيفساء العراق الجميل. فكنت أشرب الحليب الذي وفره لنا ولمدارسنا الزعيم الخالد عبد الكريم قاسم مجاناً، في كوب ابن عمارة (الصبي)، عندما أضيع كوبي. وكان ابن عزرا اليهودي يشاركني كوبي أيضاً عندما يفقد كوبه. وهكذا كنا نعيش في ذلك الزمان (المتخلف)، وفي تلك المدينة الصغيرة التي تقع في أقصى مدارات الجنوب العراقي، الذي يتهم أثيل النجيفي أهله بالسذاجة! واليوم، إذ تمضي سكاكين الإرهاب الحاقدة في أعناق العراقيين، فلا تفرِّق بين عنق المسلم الشيعي، والسني، ولا بين عنق المسيحي، والصابئي المندائي، ولا بين عنق الايزيدي، والشبكي. فتساوى العراقيون جميعاً في مواجهتهم مفخخات الموت، وكواتم الحقد الإرهابي، مثلما تساووا من قبل في نيل (حقهم) الوطني من (مشانق) صدام وأسلحته الكيمياوية في كردستان، والأهوار والنجف وكربلاء دون تمييز. فتبرز جلية أمامي دروس كميت الوطنية والإنسانية لتحصنني من فايروس الطائفية. ويتألق (كوب الحليب المشترك) بإعتباره أول درس وطني وإنساني تعلمته في حياتي..


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


فالح حسون الدراجي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2015/06/09



كتابة تعليق لموضوع : أمي و (كميت) وكوب الحليب..!
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net