صفحة الكاتب : حسين جويد الكندي

البعد الفلسفي في صناعة التاريخ عند محمد باقر الصدر ـ قد -
حسين جويد الكندي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
مقدمة
   في البداية لابد ان نوضح دور البعد الفلسفي في انضاج الملامح التاريخية لأي امة , فقد حاول الفكر الإسلامي ابتداء من القرن التاسع عشر، وعن طريق نقد فكر عهد الانحطاط ، أن يتكيف مع متطلبات المرحلة التاريخية الجديدة ، وقد استخدم المفكّرون المسلمون بعض المفاهيم في مجابهتهم للفكر الغربي الجديدة [1]، وقد استخدم الصدر الفلسفة في عمية نقد التاريخ , لأن الفلسفة بإمكانها ان تفهم كنه الحياة وتعقيداتها المؤثرة على صياغة الحدث التاريخي بصفة عامة وعلى حركة الانسان باعتباره صانعا للتاريخ بصفة خاصة  ، وأن تُفَسِر الكثير من تعقيدات الحياة المجتمعية ، التي يسعى المؤرخون من خلال دراستها الى تحليل طبيعة التحولات التاريخية , ومن هنا كانت الحاجة ملحة لأن تكون قراءة التاريخ في المشروع التجديدي على يد فيلسوف , وفي المقابل يتميز الدين بقدرته الفائقة على خلق مجتمعات متجانسة تتوفر لأفرادها العادات والتقاليد والقيم والمعتقدات الكفيلة بتوحيد تاريخهم الخاص ، إلا أنه ليس من السهل على المسلم أن يفهم تعقيدات الحياة وأن يتعامل مع ما تعيشه المجتمعات الإنسانية من تطورات لا تتوقف عن التغير والتبدل , فتكون الحاجة هذه المرة لان يقرا التاريخ مجتهد ( مجدد ) .
   وقد طرح الصدر، انطلاقاً من هذه المفاهيم، مسألة علاقة الفلسفة بالتاريخ وبالمجتمع، ومشكلة الميتافيزيقيا ونقد العقل، كما طرح في هذا السياق مسألة العلوم الإنسانية في العالم الإسلامي , فقد ايقن الصدر ان اي عقيدة اجتماعية أو سياسية لا بد وأن تخضع لمنطق التاريخ او مايعبر عنه السيد الشهيد محمد باقر الصدر ـ قد ـ سنن التاريخ او قوانين التاريخ , الذي لا يتوقف أبدا عن التطور , وهذا يجعل دعوات الحفاظ على الأصالة والتمسك بالقديم من أفكار وقيم وتقاليد هي دعوات غير واعية ، هدفها التهرب الواعي من المسؤولية الاجتماعية التي تفرضها تعقيدات الحياة ومنطق التاريخ الذي يحكم عملية التطور المجتمعي والإنساني بوجه عام , ومن هنا لايمكن للفيلسوف والمجتهد من اعادة صياغة التاريخ من دون وضع مجموعة من القوانين والسنن المستمدة من حركة المجتمع الانساني والتي تجد لها وجود في المنظومة التشريعية , وفي كلا الحالين ـ باعتبار اتحادهما ـ لايمكن الا للفقيه الفيلسوف ان يعيد قراءة التاريخ على ضوء تلك القوانين .
   ومن خلال ذلك فقط نستطيع الكشف عن غائية التاريخ العربي الإسلامي بواسطة الفلسفة هذه المرة , وذلك لأن الحضارة الاسلامية نشأت عن جملة من المعاني الصادرة عن دور تفكري وقولي يتردد بين العقل والنقل وبين الحكمة والشريعةوفك الارتباط المرهق هذا والذي اوقع الكثير ممن درسوا تلك العلاقة في مطبات تاريخية ومعرفية كبيرة لايمكن الا من خلال عمل بطولي يقوم به العقل ( الفلسفة ) ويرتكز على تأويل التاريخبتدبر الشريعة وقوانينها  , فنظرة الإنسان إلى الموضوع ( الواقع ) من خلال تعاليم الشريعة من جهة، ومن خلال علاقة الذات بالموضوع من جهة أخرى ( أي نظرة الإنسان إلى الشريعة حسب وضعية المرحلة التاريخية ) إنّ هذا الإطار من العلاقات تنتج عنه فلسفة لا تذيب الذات في الموضوع ، ولا تختزل كلا من الذات والموضوع في عملية تركيبية على الطريقة الهيجلية ، فلا وجود نهاية للفلسفة ولا وجود نهاية للتأريخ ، ذلك أنّ علاقة الإنسان مع القرآن الكريم او الشريعة  كما تتجلّى في التفسير الموضوعي ، ليست في حقيقتها إلا منهجاً لعلاقة الإنسان بالمثل الأعلى، وهذا ما لم يستوعبه الفلاسفة المسلمون قديماً حيث وضعوا هم كذلك نهاية للفلسفة بلجوئهم إلى التوفيق بين الإسلام والفلسفة اليونانية , بيد أن هذه الأزمة ناتجة من بعيد أو من قريب من أزمة صياغة وتلقين وكتابة وتدريس تاريخ الفلسفة ، وقد اظهرت الأحداث بواقعية واضحة مافعله التقليل من شان الموروث التاريخي الفلسفي في الصياغات المعاصرة  , كما أن فلسفة التاريخ هي وحدها القادرة على أن تفتح حوارا حرا وعميقا حول قضايا المستقبل على ضوء الإعادة المنهجية لتاويل النصوص التاريخية , وهي وحدها التي بإمكانها إبداع إمكانيات أرحب للوجود , هكذا يكون الحديث عن التاريخ تنبيهاعلى خطورة الموقف وبؤس الأوضاع في المجتمعات التي يكتسحها الطغيان والتزمت , ونحن فيما لو اردنا الاصلاح والتجديد فلابد لنا من ايجاد شروط إمكان تأسيس منهجية تاريخية ناجحة والعمل على جعل التجديد ممكن في ميدان التاويل التاريخي للنصوص ليتسنى إنجاح عملية منهجة التاريخ في مجتمعنا بالاعتماد على فلسفتنا الإسلامية وعندها تهون أي صعوبات يواجهها تغيير بعض المفاهيم الموروثة في المجتمع العربي وإلاسلامي , وهو مافعله الصدر  فقد أخضع التأريخ إلى الله، وأخضع نتيجة لذلك الفلسفة إلى القرآن الكريم ..
منهج الإمام الشهيد الصدر التاريخي
    ان المنهج العلمي والفلسفي الذي اعتمده السيد الشهيد محمد باقر الصدر ـ قد ـ  في اثبات ان للتاريخ سنن وقوانين حاكمة ، بعد ان تسرب فكر فلسفي إلحادي وسم نفسه بـ "العلمية" تارة ، و"الوضعية" تارة ثانيةً ، و "المنطقية" ثالثة و "التجريبية" باعتبارها محك امتحان الحقائق ، كرة رابعة ، وفي الوقت الذي كادت فيه الثقافة الإسلامية ان تخسر مواقعها لمصلحة تلك المناهج . وعلى الرغم من ان الصدر لم يرفض الفكر الغربي جملةً وتفصيلا، فقد أعاد صياغة كثير من مفاهيم الفلسفة الغربية، ويتجلّى ذلك في نقده ورفضه لكلّ من النزعة الاجتماعية والنزعة التاريخية .
    منهج الصدر في ردّ الشبهات التاريخية واثبات الحقائق ، هو ما نطمح لعرض مقدماته ، وتحليل نتائجه , ولابد من الاشارة في البداية الى مكانة هذا المنهج عند السيد الشهيد محمد باقر الصدر ـ قد ـ في النظر إلى الكون والإنسان من منطلق المصادر الإلهية والبشرية للإسلام التاريخي ، لأن "صحة الإستدلال ترتبط ارتباطاً أساسياً بصحة المنهج الذي يعتمد عليه ومن هنا أولى الصدر المنهج عناية خاصة ، انتهت به إلى توليد منهج في الاستدلال على آرائه وأطروحاته  .
 
   كان الاحتدام على اشده منذ عشرة قرون خلت حول دور العقل في ايجاد او اكتشاف سنن التاريخ , والقى الصراع بين الاشاعرة والمعتزلة بظله على الجانب التاريخي واليوم يتجدد الصراع مرة اخرى ، حيث يأتي الصدر ليثير المسألة عن طريق العقل ، لا ليثبت لنفسه بأدلة العلم والعقل حقائق التاريخ وصيرورة احداثه ، بل ليرفع الإسلام والمنهج الإسلامي إلى مصافّ النقاشات العالية مع اكتساح العقل البشري ، على المستوى الكوني، نزعتان في التفكير هما: المادية الجدلية والوضعية المنطقية ,  وكلتاهما لا تقرّ بحال حقيقة الإلهيات والماورائيات بأشكالها التي يشير اليها الدين في جميع المجالات الفكرية ومنها الجانب التاريخي , ومن الطبيعي بعد ذلك ان نستنتج بان تلك النزعتان ترفضان اي دور للوحي او النبوة في الصياغات التاريخية , ومن هنا يرى الصدر أن العوامل الاجتماعية والتاريخية لظهور النبوة هي شروط ضرورية، ولكنها ليست كافية، فالبعد الاجتماعي والتاريخي عنصر ضروري في نظرية المعرفة لتفسير النبوة، ولكن الدراسة الاجتماعية والتاريخية غير النزعة الاجتماعية والتاريخية، وهو يرى كذلك في هذا السياق أنّ القول بأنّ العوامل الاجتماعية والتاريخية في الحجاز وفي العالم كانت تتطلب ظهور النبوة، لا يعني أن النبوة قد فسّرت بصورة كلية وشاملة بحيث يمكن نفي المصدر الغيبي للرسالة على غرار ما تفعله نظرية المعرفة المتضمنة في النزعة الاجتماعية والتاريخية، فالعوامل الاجتماعية والتاريخية تفسر النبوة ولا تفسر مصدرها [2].
   أراد السيد الشهيد الصدر أن يخاطب العقول خطاباً عقلياً مقنعاً , فوضع منهجاً في الاستدلال على سنة التغيير في الوجودات ، مميزاً بين الدليل ومنهج الدليل ، عارضاً مراحل الإستدلال على الإيمان بالفطرة أو البداهة ، ثم إدراكه بالعلم , ويُظهر الصدر طول باع في تتبع مراحل المعرفة التاريخية , وبعد أن يتوقف عند رفض المادية الجدلية والوضعية المنطقية في قرائتيهما للتاريخ ، ينتهي إلى تركيب منهج يعتمد على استنطاق القرآن للسنن الحاكمة في حركة الانسان نحو التغيير ، وهذه طريق الفلسفة , إذاً يلجأ الصدر إلى العلم والفلسفة لإثبات الحقائق التاريخية الناتجة من الحركة الايجابية للانسان وإلى الفلسفة والعقل من خلال الدليل الفلسفي , وما دام همّنا أن نبحث في المنهج التاريخي نفسه لا في نتائجه , فالنظر الصدري ينطلق دوماً من الظواهر العيانية للواقعة التاريخية  وبعد أن يستعرض الصدر تلك الظواهر المستمرة في الزمان ينتقل إلى استكشاف الرابط بين الظواهر الطبيعية وحياة الإنسان، خالصاً إلى "فرضيتة التاريخية " التي تعتمد على البعدين الفوقي والتحتي للتاريخ .
كان الصدر واعياً بأنّ المشاكل والتحديات، التي تطرحها الفلسفة الغربية على الفكر الإسلامي، لا يمكن التغلب عليها بمجرّد تفسير الإسلام وتأويله تأويلا عقلياً على غرار الفلسفة الإسلامية , إن نقد الصدر لعقلانية الفلسفة الإسلامية ولعقلانية الفلسفة الغربية تمَّ من موقع عقلانية نوعية تستمد وجودها من ربط العقل بمتطلبات الدين، فالعقلانية تتحدّد في إطار علاقتها بالغيب، وبما أنّ الغيب يتجاوز العقل مهما كانت مفاهيمه وتصوراته، فإنّ العقلانية كما تتجلى في فلسفة الصدر هي عقلانية تستمد قوتها من نسبيتها ومن تواضعها أمام الغيب لذلك يمكن القول: بأن فلسفة الصدر يتحدّد موقعها خارج الصراع بين الواقعية والمثالية، فالغيب يتطلب البيان، أي يتطلب الدين الذي يساعد الإنسان في تطلعه نحو المطلق، هذا التطلع لا ينفي العقل،حجية العقل ثابتة شرعاً ولكنها حجية لها حدودها في الميدان الميتافيزيقي. إنّ قوة عقلانية الفلسفة الصدرية تكمن في وعيها وعياً تعبدياً بنسبيتها أمام إطلاقية الدين. فلسفة الصدر تتحدّد معالمها في تحديد العلاقة بين التساؤلات الميتافيزيقية والأجوبة الدينية، فالصدر حاول في كلّ كتاباته، وحتى في الأسس المنطقية للاستقراء، الذي اعتمد فيه على المنهج التجريبي، حاول أن يبين عن طريق التحليل الفلسفي والعملي، قدرة الإنسان على تقبّل الغيب وتجاوز نسبية عقله.
إنّ الجديد في فلسفة الصدر يكمن في توسيعه للنقاش في الميدان الميتافيزيقي، ونتيجة لذلك فإنّ الصدر قد طرح مشكلة العلاقة بين العقل والدين على العموم، والرؤية الإسلامية إلى الغيب على وجه الخصوص، خارج إطار كلّ من علم الكلام والفلسفة الإسلامية، فالصدر قد طرح هذه المشكلة في أفق نظرة تركيبية لكلّ من علم الكلام والفلسفة والتصوّف [3] , وهكذا يأتي الصدر بنظرية جديدة في مجال المعرفة تعتبر نقيضاً لنظرية المعرفة في الفلسفة الوضعية، التي تسيطر على الفكر منذ القرن الثامن عشر والتي تنفي الغيب باسم العلم، فالتفسير العلمي للنبوة عند الصدر لا ينفي الغيب، ويتجاوز الصدر التفسير العلمي، كما يتمثل في الدراسات الاجتماعية والتأريخية، ليعتمد على المنهج التجريبي ليفسر عن طريق الاستقراء النبوة كظاهرة تاريخية واجتماعية ذات مصدر غيبي , نلاحظ أنّ الصدر أعطى لمشكلة العلاقة بين العقل والدين صورة جديدة، فهو لم يحلل هذه العلاقة خارج أبعادها الاجتماعية والسياسية والفلسفية، فتجاوز الفقه في صورته القديمة عندما بحث عن المفاهيم المتضمنة في الاحكام الشرعية من أجل صياغة المذهب الاجتماعي الإسلامي، هذا الموقف يعتبر قطيعة إبستمولوجية[4]مع كلّ من الفلسفة الإسلامية ومع الفقه كما طُرح قديماً.
نظر الصدر ينظر إلى العقل كمفهوم، أي انه ينظر اليه داخل إشكالية العقل النقدي، وانطلاقاً من هذا الموقف اعتنق الصدر نظرة جديدة إلى كلّ من الفلسفة الإسلامية القديمة وعلم الكلام وأصول الفقه. وهكذا كانت مقاربته للفكر الإسلامي في كلّ جوانبه، أصبحت مقاربة نقدية ، فمعالم الفلسفة الإسلامية المعاصرة التي صاغها تحدّدت خارج كلّ من الفلسفة الإسلامية واتجاهات علم الكلام، فمسار فلسفة الصدر تم انطلاقاً من موقف نقدي تجاه الفكر الإسلامي القديم والمعاصر، أي انطلاقاً من قطيعة إبستمولوجية وجّهت الفكر الإسلامي توجيهاً جديدا , لقد تجاوز الصدر الاختلاف بين ابن رشد والغزالي فيما يخصّ علاقة العقل بالدين، فطرح الصدر لهذه المشكلة يعتبر نقداً جذرياً لفلسفة ابن رشد، كما يعتبر، من الناحية المنهجية، نقداً لفلسفة الغزالي على اعتبار أنّ هذا الأخير قد انتقد محتوى الفلسفة اليونانية، ولم ينتقد المنهج الذي كانت تقوم عليه هذه الفلسفة , حاول البعض ان يقول بان الفلسفة الإسلامية إلى منتهاها عند ابن رشد في خضوعها للفلسفة اليونانية , على الرغم من تناقض فلسفة ابن رشد الواضح مع ثوابت شرعية كنفيه للبعث وخلق العالم , ومن الواضح ان تناقضا جوهريا حدث عند ابن رشد بين الفلسفة والغيب , في حين أنّ الفلسفة الإسلامية التي صاغها الصدر قد كسرت هذه الثنائية: ثنائية العقل والغيب ,وإذا كانت فلسفة ابن رشد قد أحدثت قطيعة بين الفلسفة والحياة، بين العقل والغيب إلى درجة أن ابن رشد جعل الفلسفة للخاصة والشريعة للعامة، فإن فلسفة الصدر تجاوزت هذه الثنائية عندما ربطت الفلسفة بالحياة، فالصدر صاغ فلسفة اجتماعية وسياسية لتغيير الواقع ولاعادة بناء الحضارة الإسلامية وجعل معنى الوجود أساساً لعملية التغيير، كما أنه أعاد صياغة العلاقة بين العقل والدين من موقع إطلاقية الدين ونسبية العقل ونسبية الفلسفة، وأعاد، تبعاً لذلك، صياغة مفهوم الخاصة ومفهوم العامة حيث جعل الجماهير عاملا رئيسياً وحاسماً في عملية التغيير، فالصدر هنا انطلق من مفهوم قرآني هو مفهوم المستضعفين، الذي يستقطب عملية التغيير وعملية إعادة بناء الحضارة الإسلامية، وإضافة إلى هذا فإن الصدر عكس كلا من الفلسفة اليونانية والفلسفة الإسلامية، صاغ فلسفة جديدة للإنسان انطلاقاً من مفهوم الخلافة، وهو مفهوم يكاد يكون لا وجود له لدى الفلاسفة المسلمين المتأثرين بالفلسفة اليونانية المحتقرة للشعوب، لذلك قسم هؤلاء الفلاسفة الناس إلى خاصة وعامة ورعاع وأوباش وغوغاء[5] , إنّ الرجوع النقدي إلى التراث وتفسير القرآن الكريم في أفق إجتماعي وتأريخي، كما يتجلى في كتابات الصدر، فتح مجالا فلسفياً جديداً وواسعاً أمام الفكر الإسلامي المعاصر، ويتجلّى ذلك فيما يلي:
1 ـ محاولة الصدر إعادة صياغة الفكر الإسلامي ورفعه إلى مستوى التحديات، أي مستوى مجابهة الفكر الغربي بكلّ تياراته، وطرح البديل الإسلامي في المجال المعرفي والمنهجي والاجتماعي والحضاري.
2 ـ إعادة صياغة الفكر الإسلامي صياغة جديدة كما حاولها الغزالي ، قد وصلت إلى صورتها القصوى على يد الصدر , من خلال رفضه التوفيق بين الإسلام والفلسفة الغربية , ومحاولات البعض لايجاد نوع من التبعية الغير ميررة والمرفوضة ,ويتجلّى هذا العطاء الجديد لفلسفة الصدر في محاولته لاكتشاف الرؤية الإسلامية للإنسان والمجتمع.
3 ـ تأثر الصدر في تنظيره للرؤية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الإسلامية بالشريعة لا بالفلسفة، فالمفاهيم التي تمّ من خلالها التنظير في المجالات السابقة هي مفاهيم متضمنة في الأحكام الشرعية، لذلك يمكن القول: بأنّ الصدر تجاوز القطيعة بين الفقه والفلسفة، كما تجلّت في الفكر الإسلامي قديماً، وأحدث العملية التركيبية بين الفقه والفلسفة .
4 ـ انطلق الصدر في كلّ ذلك من مبدإ تعبدي وعقائدي وإبستمولوجي في نفس الوقت: الإسلام ليس مجرّد موضوع للفلسفة، فمصدر الدين يفوق الفلسفة ويفوق العقل: فكلمة الله لا تنفد في حين أن كلّ المذاهب الفلسفية قد وصلت إلى منتهاها بحكم نسبية العقل ونسبية المثل الأعلى الذي يتطلع إليه كلّ فيلسوف، فالصدر إعتمد على منهج في معالجته لعلاقة العقل بالدين، في حين أن الفلاسفة المسلمين انطلقوا من مسلمة لا أساس لها: الدين حق والفلسفة حقّ، والحقّ لا يتناقض مع الحقّ، أو «الفلسفة والشريعة أختان رضيعتان» كما يقول ابن رشد.
 
المشكلة التاريخية عند السيد الشهيد محمد باقر الصدر
   ان موقع الانسان في المنظومة الفكرية للصدر هو الذي يبلور نوعية الخطاب التاريخي الذي يصدر عنه او يسهم في ايجاد الدليل لإكتشاف طريقة تعامل الانسان مع الواقع , والتي سوف تكون القراءة لمعطياته مصدر معرفة الخطاب التاريخي , و لا فرق بعد معرفة هذا القانون تعدد الانتماءآت العرقية أو الدينية بين افراد الانسان , بل حتى (الانسان في القديم والحديث وفي جميع الاوطان) فهذا القانون التاريخي الذي يلعب فيه المكان دورا مهما في التعددية العرقية ـ الاجتماعية ـ الثقافية لذلك الفضاء الشاسع المعروف بـ ( العالم الاسلامي ) الغير موحد او منسجم كما تدعي (الخطابات الايدلوجية  من اسلامية وغير اسلامية ) [6], يُخضِع حركة الفرد للاعتبارات الجغرافية بل وادخال التكوين الفسلجي للانسان في صيرورة مجموعة من الظروف الضاغطة والتي هي بكل تاكيد مايعيشه الانسان او يتعايش معه , ولذا كان دور الدين في تنمية تلك النوازع الانسانية ايجابيا , وعلى ذلك ففهم حتمية الصراع بين مجموعة الظروف الموضوعية وبين تلك النوازع  والمثل العليا التي يمثلها الدين امر لابد من الاقرار به , لقد فتح الصدر الفكر الإسلامي على البعد الفلسفي انطلاقاً من محاولته لربط الوحي المتعالي بالتاريخ، أي ربط الحقيقة المطلقة بحركة التأريخ، فالصدر لم يحصر المسألة في إطار علاقة الوحي بالعقل، بل عالج المسألة في إطار علاقة العقل بالوحي وبالواقع، ومن هنا يمكن القول بأن الصدر فتح الفكر الإسلامي على الفلسفة باسم الاجتهاد، فهو قد صاغ وحلل المفاهيم الاقتصادية والسياسية والمعرفية حسب متطلبات الدين.
   وأقصد بالنزعة الانسانية ذلك الموقف الذي يحترم الإنسان بحد ذاته ولذاته من دون فرق بين مركزية الانسان الذاتية او المركزية اللاهوتية له , وكذالك ومن خلال هذه المتلازمة نستطيع ان نشهد تهافت الحضارات التي بدأت في اول امرها تعتمد على هذا الصراع في وجودها واستمرار ذلك الوجود , وحسبنا مثال واحد على مانقول , فان (الانسان المسيحي انشأ حضارات وهذه الحضارات ترفض العالم الارضي وترفض التاريخ ) , هذه هي المشكلة التاريخية التي يشير اليها الصدر في حركة الانسان ونوعية خطابه التي يعاني منها دوما في في القديم والحاضر وفي المستقبل كذلك , فالصدر انتقد الفلسفة الإسلامية والفلسفة الغربية ( المسيحية ) باسم رؤية فلسفية جديدة تربط العقل بالدين وبالتاريخ.
فتمثلت المشكلة التاريخية في صراع المثل العليا مع الواقع بكل مايمثله من انحراف واثر هذا الصراع على الصياغات الحضارية للتاريخ والتي انتجت طوال عمر البشرية كل هذه المآسي والانحرافات والتي تسببت في انحراف خط التوحيد والنبوة عن المسارات الحقيقية التي أريد للانسان ان يتبعها والتي اجتهد الانبياء والصالحين في موائمة المثل مع الواقع , ومن خلال فهم هذه المتلازمة بين ألمثل والواقع تنطلق معظم محاولات التجديد والاصلاح في الفكر التاريخي بصورة خاصة والاصلاح والتجديد في الفكر الانساني على ضوء وهدى الوحي اي ما تعارف على تسميته بـ (الفكر الديني) , المشكلة التاريخية تخضع او تنشأ بسبب تقابيلة المثل مع الواقع عند الصدر في فكره التاريخي و التي يمكن الاسهام في وضع الحلول لها من خلال تنظيم حركة الانسان في اطار العقيدة , وهي مقاربة جعلته يربط المفاهيم الفقهية بالمفاهيم الفلسفية، لصياغة المذهب الاجتماعي ولصياغة الرؤية الإسلامية إلى التأريخ التي يحدد ضمنها المذهب الاجتماعي الإسلامي .
 
دور الانسان في صناعة التاريخ
   من ضمن الاولويات المهمة في صياغة أي حدث تاريخي, هي تلك المجموعة من الشروط الموضوعية التي تساهم في المنتج الاجتماعي العام , أي ان حركة المجتمع في الواقع تصنع التاريخ من جهة موضوعه كمفردات تفصيلية تتداخل فيها مجموعة من المفاهيم الحياتية المختلفة بل و حتى القابليات النفسية و الجسدية للانسان ذاته , او التوجه العام للامة و مدى استجابتها لمجموعة الشروط تلك و تعاطيها مع مختلف الانماط الحياتية (الاقتصادية و السياسية و الاجتماعية و الثقافية) ، و من هنا اشتمل الاسلام على المناهج تكوين الصورة التاريخية او طريقة انتاج الصياغات الخالقة للحدث التاريخي , انطلاقاً من النظر إلى القرآن الكريم من موقع علاقة الدين بتطور الفكر وبحركة التأريخ.
   و كان الدين لا الفكر الديني بالنسبة الى الانسان المسلم ليس شيئاً منفصلاً و متميزاً عنه ، لأن الدين هو الفطرة (فطرة الله التي فطر الناس عليها) او السمة و الصبغة التي تميزه عن بقية الموجودات في هذا الوجود ، و معلوم ان ليس هناك انفصال او تميز بين الانسان و فطرته , اما الفكر الديني فيمكن استشعار انفصاله و تميزه بإختلاف افراد الانسان على اعتبار ان الفكر الديني هو الفهم الانساني للدين , ومن المؤكد ان هذا الفهم بالاضافة الى انه يتفاوت من انسان لأخر او من امة لأخرى وفقاً لمقاييس قاعدة القابلية و الاستحقاق فانه كذلك يختلف من حيث النوع بالنسبة لأفراد الانسان او ان يكون مائز لمجتمع دون اخر ، و هذا على ما تقدم يكون طبيعياً وجود تعددية للفهم الديني او التعددية في الفكر الديني و التي يمكن رؤية حقانية الفكر في مضامين خطأ كل حالة من حالات هذه التعددية فالفكر الديني اليهودي هو ما فهمه الانسان اليهودي من الدين الذي جاء به موسى ، و الفكر الديني المسيحي ما فهموه من الدين الذي جاء به عيسى و الفكر الديني الاسلامي ما فهمه المسلمون من الدين الذي جاء به محمد ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ  .
    وبناءً على ذلك فان الدين واحد (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ)  [7], " رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ "[8], الا ان الفهم اختلف من انسان لأخر وهذا الأختلاف هو حركة الانسان وصراعه المستمر بين حالة المثل التي جاء بها الدين والواقع الذي يعيشه والذي تتحكم به بالأضافة الى مجموعة الظروف الموضوعية الاخرى , سنن التاريخ , وهذا الدور ذاته يمكن للانسان ان يكون من خلاله صانعا للتاريخ , فالانسان في الاسلام حر وهو يتحمل مسؤولية حريته من خلال دوره في صناعة الحدث التاريخي , فالحرية اذن هي المائز لينال تلك الدرجة كما يرى الصدر  .     
إنّ هذه الرؤية الجديدة لعلاقة الانسان بالدين، والتي انحازت الى جهة اعمال العقل في مختلف القضايا الدينية , بمعنى ان الوحي يدعو الى اجالة الفكر في مضمار الغيب لفهم حقيقة الاشياء التي يدعوه للايمان بها من دون دليل حسي ملموس , جعلت فلسفة الصدر في موقف بحث مستمر، فبدلا من التوفيق بين الفلسفة والدين بصورة مبسطة ومتسرعة، وجّه الصدر الفلسفة الإسلامية المعاصرة نحو تجاوز مفهوم التوفيق، وتوسيع مجال البحث أمام الفكر الإسلامي المعاصر، لقد كشف الصدر عن قضايا ومواضيع فلسفية جديدة في القرآن الكريم كالفطرة والعقل والقيم والمجتمع والأمة والانحطاط والتقدم، وحركة التأريخ وعلاقتها بسنن الله... الخ. هذا إضافة إلى المواضيع الفقهية، التي كشف الصدر عن أبعادها المفهومية التي يتم من خلالها تنظير المذهب الاجتماعي الإسلامي[9].
 
دور الايمان في صناعة التاريخ
   لابد لكل حالة وعي من وجود تفاعل بين الفكرة ونمط التفكير بمعنى ان يكون للمُدخل المعرفي الخارجي ( الفكرة ) حاضن مناسب يتلائم نوعيا مع مبادئها من خلال مجموعة من المسبقات المعرفية المتوائمة والمنسجمة معها والتي يُكمل بعضها البعض الآخر بحيث يكون نسق التعبير عن تلك الادوار الذهنية متوافقا مع القانون العام الذي يحكم العلاقات والروابط المعرفية والمتمثل بمبادىء وسنن الاسلام ومنها بكل تاكيد قوانين التاريخ .
ومن هنا كان لزاما على الصدر ان يحدد مفهوم الفكر الاسلامي بوضوح ودقة، ويحدد كذلك الساحة التي يمكن لهذا الفكر الحركة من خلالها لطرح البديل الإسلامي على الصعيد النظري والمنهجي , والتي تتمثل بالعقلانية المرتبطة بالنصّ التي تتميز بكونها عقلانية مفتوحة تتمتع بقوة لاستيعاب مستجدات الحركة التاريخية. فهي ليست مجرّد عقلانية خطابية، أوعقلانية مريحة تنمو في عالم المجرّدات , والفكر الاجتماعي ـ السياسي المؤهّل لإعادة بناء الأمّة والحضارة الاسلامية هو ذلك الفكر الذي يرتبط ارتباطاً كلياً بالنصّ، وتتم صياغته في اطار العقلانية الاسلامية.
   هذا الوعي المنتج للحركة فقط هو الذي نستطيع ان نضعه في خانة المعرفة لانه صادر عن ايمان بقوانين الاسلام والعقل ومبادئهما , وماسواه من حالات وعي اجتماعي او فكري لايمكن لها ان تؤثر في الواقع الا بمقدار انسجامها مع مبادىء الاسلام , وان استطاعت ان تجد لنفسها دورا حياتيا معينا فهو دور وان كان ايجابيا الا انه مؤقت ومرحلي وغير مستقر في وجدان الانسان كما في المجتمعات الغير مسلمة فانها وان لم يكن فيها الفرد او المجتمع مسلما الا انها اقرت لحركتها الاجتماعية قوانين تتوائم مع مقتضيات الشريعة الاسلامية من دون الايمان بالاسلام كدين او بنبي الاسلام كرسول , الا ان تلك القوانين سرعان مايتم الغائها بادنى سبب او تتغير باقل مقاومة من المجتمع والسبب يكمن بانهم لم يؤمنوا بها على سبيل ايمان المسلم ( الفرد والمجتمع ) بالاسلام كعقيدة او دين , وعند ذلك فقط يمكن ان يتم التوفيق بين النوازع البشرية وبين الدين بمقدار انسجامها مع الفطرة او الصبغة التي عبرت عنها الآيات بانها فطرة الله وصبغة الله .
   ومن هنا كانت معظم حالات او تجارب الاصلاح في العالم العربي والاسلامي لاتجد لها ذلك البعد الاجتماعي والتاثير الايجابي في الواقع والسبب يكمن في ان المسلم المعاصر لايؤمن بالاسلام الا بالمقدار الذي يمكن معه بناء مشروع اصلاحي يكون بداية لحالة وعي جديد , تتميز بالحياة والحرارة التي كان يتمتع بها ايمان الاوائل من المسلمين كابي ذر وسلمان والمقداد مثلا , هذا المقدار من الوعي يتوفر في حالة ما اذا كان الاجتهاد اكثر توائما مع الواقع , على اعتبار ان الاجتهاد أداة معرفية وشرعية، لاستيعاب حركة التاريخ وتوجيهها، ولاستيعاب ثقافات الشعوب ومواجهة المستجدات، فهو من هذه الجهة مؤهل لصياغة طريق جديد ـ غير الطريق الرأسمالي أوالاشتراكي ـ للتنمية والتقدم , فالاجتهاد بمعناه الواسع هو الايمان في اطار حركة الفقه في الواقع , الإطار الذي صاغ الصدر ضمنه نقده للفكر الغربي، كما صاغ ضمنه،كذلك،الفكر الاجتماعي ـ السياسي الاسلامي ,  الذي يرى الصدر انه ايمان الواقع الموضوعي الخالي من المصلحة والمنزه عن كدورات الأنا والخالي من ادران الايدلوجيات والمطامح الفئوية , ايمان يمكن من خلاله ان تتحول جميع حركات وسكنات الانسان المسلم الى ( طاقة شعورية تتوق الى التعبير عن نفسها في صنع التاريخ )[10] من خلال حركة الانسان في واقعه وفي اطار العقيدة الموجهة لسلوكه .
 
دور المؤسسات الاجتماعية في صناعة التاريخ
  يتميز الدين بصفة عامة بتركيزه على الجانب الفردي او علاقة الانسان ( الفرد ) بخالقه اولا وهذا البعد يمكن التماسه في مجمل التصورات التي يشير اليها  ( التوحيد )  على مستوى العقيدة , والعبادات على مستوى الفقه , ولعل كل منهما يعتبر قاسما مشتركا بيت الديانات السماوية الرئيسية الثلاث , والعلاقة الثانية علاقة الانسان مع المُرسل وحقوق الرسول  والعلاقة الثالثة علاقة الانسان بغيره , وهذه العلاقة الاخيرة تكاد تكون اعظم ماركزت عليه الديانات السماوية ووضعت له القوانين والسنن الكفيلة في موائمة الواقع مع المقتضيات الالهية الحكيمة الموجهة لسلوك الانسان نحو الكمال والحق , ويجب الا نعتقد بان المُنتج من هذه الحركة بما يشتمل عليه عنوانها انما هو كان نتيجة لقوة خارج عن الانسان بل ان جميع ( المظاهر المُدركة والمنظورة للحياة الانسانية انما هي من صنع الانسان نفسه )[11] .
   ولكن انى لهذا الانسان من هذا الصنع وفق الاعتبار المتقدم بوصفه فردا , هذه الفردية التي اعتمدت عليها كثيرا النظريات التي حاولت النيل من نظرية الاسلام الاجتماعية بوصفها شرخا في المنظومة المعرفية الاسلامية بل ان الاستكبار سعى الى ابراز هذا المفهوم او هذه العلاقة باعتبار ذلك البعد ( الفردي ) , ونتيجة لذلك اتجه الصدر الى صياغة الفكر الاجتماعي ـ السياسي معتمدا على مقدار القوة التي تؤهله لعدم الاهتزاز أمام تحديات الواقع وحركة التاريخ، لأنه فكر مبني على العلاقة بين المطلق والنسبي، بين الثوابت والمتغيرات، بين النص والاجتهاد. فهوفكر يعي، منذ البداية، متغيراته وثوابته.
   ان جوهر الرسالة الاسلامية وغايتها بالإضافة الى اكمال واتمام العلاقة بين الفرد وربه والسعي الى نيل رضا الرب من خلال العبادة والتفكر وترك المكدرات الدنيوية االتي تزعج هذه العلاقة , بالإضافة الى ذلك ان يكون للانسان دورا خلاقا في صناعة الحاضر بكل مايمثله من ثقل ساعدت العقيدة على تنميته وانضاجه , ولم يُقعد الفكر الاسلامي لسلخ الانسان من واقعه وجعله دمية صماء مشدودة لنمط واحد من الانماط المتعددة التي اشار اليها الاسلام فكرا ومنهجا .
   ان طريقة الاسلام في معالجة الواقع الانساني المنحرف ينطلق من مستوى فردي وهذا امر واقع ولكنه في ذات الوقت يتوفر على جدوائية وفاعلية في الوصول الى النتيجة بصورة اعظم من أي نظرية حاولت الاصلاح من دون المرور بهذا المستوى من الاعداد والتجارب البشرية كثيرة , اذن فالاسلام ابتدا بتنمية مدركات الفرد وقنن علاقاته المتعددة وشذبها ومن ثم انطلق به نحو التكامل بمستوى آخر له قوانينه الخاصة ليبدا مرحلة اعلى من التكامل من خلال دوره في المجتمع وتاثيره به .
   ومن هنا كان علاج الاسلام للواقع الانساني مرتكزا على الفرد في طريق تكامل المجتمع بصورة عامة وهو ما ألمح اليه الصدر بقوله ( عالج الاسلام الواقع الانساني .... فلم يعمل على اصلاح الانسان دون ان يصلح المؤسسات الاجتماعية كما فعلت المسيحية والدعوات الصوفية ففشلت ولم يعمل على اصلاح المؤسسات الاجتماعية دون ان يصلح الانسان كما فعلت المذاهب والدعوات الحديثة ففشلت ايضا وانما اصلح الواقع والانسان ) [12].
 
الفكر الانقلابي والتاريخ
   غالبا مايتم تناول الاصلاح والتجديد  والتصحيح واعادة صياغة التراث وغيرها على اساس ثقافي او نظري ., ويناءً على هذه المنهجية المتبعة في الثقافة العربية المعاصرة منذ اكثر من قرن فقد تم التغافل بصورة  لاشعورية في بعض الاحيان ـ  نتيجة الانغماس  في الحالة  النظرية ـ عن البعد الاهم والرئيسي  في كل عملية تجديد ذلك البعد المتمثل بالانسان ودوره في عملية التجديد او الاصلاح , والذي اقصده بالانسان  باعتباره الفردي  البسيط الذي تقع على كاهله كل سلبيات  واثار النظم والتشريعات الخاطئة والناتجة  عن عدم وضوح الهدف للايدلوجيات  الحياتية التي تعتمد على جانب التنظير والتقعيد عن مستوى النظرية  المجردة  والتي  تكتفي في الاغلب او تقتصرعلى  النخب الثقافية , فلا تعود  دعوى الاصلاح والتجديد  في الفكر الا حوارا  بين المدارس الفكرية  وفي اروقة  المعاهد والجامعات  او في المنتديات  والمراكز الثقافية  , وهذا يفسر لنا سبب  انزواء دعوات التجديد والاصلاح الفكري في العالم العربي  والاسلامي  عن التاثير  الجماهيري العام  واقتصار التنمية  الفكرية  على مجموعة خاصة من المتعلمين الذين يجدون حراجة في  صياغة المفاهيم التعبوية للجماهير في وقت الازمة الفكرية  او الثورية  , وهو مايفسر لنا كذلك مدى استنساخ هذه المنهجية من الفكر  الاوربي الحديث  حيث يكون  الدور الاهم في  أي تغير اجتماعي على المؤسسات الاجتماعية  التي غالبا ماتكون  تابعة للراسمال الاقتصادي  , ويتحدد دعوى ميل الفرد لهذا  التغيير والتجديد بمدى استجابة  تلك المؤسسات  لمصالحه الفردية  ,فالأمة تملك الاستعداد على الصعيد الذهني والنفسي لممارسة المفاهيم الاجتماعية ـ السياسية الاسلامية، ولعملية التغيير التاريخي حسب متطلبات الاسلام , الا ان الذي يمكن ان يكون مانعا لهذا التغيير الهادف , هو مجموعة الجهات الضاغطة التابعة للنظم الاقتصادية او الاجتماعية الراسمالية او الاشتراكية .
   منهجية الاسلام في الاصلاح الاجتماعي منهجية تهدف الى بناء التاريخ  في الحاضر وصناعة الحياة في للمستقبل , فهي ذات بعدين هامين  اولهما : البعد  الفكري  الذي يتميز بكونه انقلابيا على الواقع الفاسد ومحطما لاصنام الجهل والخرافة  والثاني : البعد العملي لتطبيق مبادءه الانقلابية في مستوى الفكر  والذي يتميز  بكونه يحدد على ضوء(الملابسات والظروف ومقتضيات الاحكام الشرعية)[13] , ومن هنا لابد من معرفة العلاقة بين الفرد وتلك المقتضيات  والتي يمكن ملاحضتها في مجموعة  الاحكام  والقوانين التاريخية التي يكون  للامة والمجتمع الدور  الابرز في عملية الاصلاح والتغير , ومن هنا كانت صياغات الصدر صياغات من موقع المجتهد، وانطلاقاً من مفاهيم الاجتهاد حول الثوابت والمتغيرات , فهو لا يفكر خارج التاريخ بل بالتاريخ، لكن دون أن يسقط في فخ النزعة التاريخية ، لأن الفكر الاجتماعي ـ السياسي مرتبط بالنصّ لا بالواقع أوبالتاريخ فحسب , ومن هذا الربط بين الفكر الاجتماعي والتاريخ استطاع الصدر الربط بين الفكر والعقيدة، لأنّ التاريخ يتضمن العقيدة والعقيدة تتضمن التاريخ ، على اعتبار أن مسار الأمة تشكل بفضل القيم والمفاهيم التي ـ تتضمنها العقيدة .
 
دور الكتب السماوية في صناعة التاريخ
   للدين دور رئيسي في حركة الانسان في  واقع الحياة  , وقد كان الصدر يرى ان تؤطر هذه الحركة بأطار العقيدة المنظمة لسلوكه الخارجي , بمعنى ان المؤرخ عندما يحلل الحادثة التاريخية او يستنتج بعض الاحداث التي لم تذكرها المصادر والتي سبق ان تمت الاشارة اليها بمنطقة الفراغ او الفجوة التاريخية لابد من وضع امر مهم في حسبانه , هذا الامر يتمثل في  سر حركة الانسان  ومنشأ تلك الحركة , فانفعال الانسان ومن ثم تحركه لاحداث فعل معين هو نتيجة لعقيدة امن بها وتحرك وفقا لمقتضياتها , وقد كان تاثير الدين في هذا المضمار كبيرا  وفاعلا ولعل تاريخ الانسانية  لم يشهد محركا اقوى من الواعز الديني  في استثارة الانسان للحركة والتغير , فالعقيدة الدينية  تختلف عن العقائد والمناهج الاخرى في كونها تخفي بعدا  روحيا  تتصل بعالم الغيب , بعد ان اكتفت باقي الرؤى والافكار  الانسانية بفاعلية البعد المادي في تفسير حركة الانسان نحو التغير , وذالك ينسجم مع  فطرة الانسان التي تهفوا الى القوة  الاعظم التي تحرك هذا الوجود , ومن هنا كانت  الكتب السماوية  في مجملها كتب هداية وتربية  ومنها  بطبيعة الحال القرأن الكريم  فبالاضافة  الى كون  هذا الكتاب المعجزة  قد جاء  في فترة  انتعشت فيها البلاغة  عند العرب  الا انه كان كتابا  يتضمن افكارا تصحيحية  تهدف الى تغير الواقع المتردي الى واقع  يستحق معه الانسان  طبيعة الاستخلاف  التي  اناطها الله تعالى  به , فالقران الكريم كتاب يقود عملية  تغير عظمى  في الجزيرة العربية  في ذالك الوقت  تغير على مستوى الافكار (انقلابي)كما عبر عنه الصدر ـ قد ـ  , وعبرت عنه الاية الكريمة بالقول (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فاذا هو زاهق) على ان القران بالرغم من اهمية خطابه  في احداث التغير الاجتماعي الا انه لم يطرح باعتباره  بديلا عن حركة الانسان  في الواقع  بل كان له مجاله  المستقل  في احداث  التغير  ويبقى  للانسان مجاله الذي يعبر عنه القران بـ (الكدح)يقول الصدر (القران  لم يطرح نفسه  بديلا عن قدرة الانسان  الخلاقه عن مواهبه  وقابلياته  في مقام الكدح  والكدح في كل ميادين الحياة )[14] .
ومن هنا كان الفكر الاجتماعي ـ السياسي الاسلامي كما طرحه الصدر هو فكر له منهج الهي ، ويشكل بناءً نظرياً متكاملا، له وجهته الخاصة في الكون والمجتمع والانسان والتاريخ ، فجوهر الفكر الاجتماعي ـ السياسي الاسلامي يقوم فى الاطار التاريخى على تصور مجتمع الخلافة ، وفى الاطار الاقتصادي على الملكية المزدوجة (خاصة وعامة) وفى الاطار السياسى على الولاية التى هى دولة ـ الأمة واستمرار لدولة المدينة التي أسسها الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ بأمر من الله تعالى , فهذه المفاهيم كلّها تشكل مضمون الفكر الاجتماعي ـ السياسي الاسلامي باستمرار بحيث لا يمكن أن يغير عنصر من هذه العناصر دون أن يحدث تغييراً جوهريا وتحولا في كل مرتكزات هذا البناء. وهو تحول يعني، في الحقيقة، المروق عن شرع الله , والعقل , وسنن التاريخ , فلا يعد تغييرا منتجا , لايكون كدحا ايجابيا , وهذا يعني، في إطار علاقة الانسان بالواقع وبالتاريخ، أنّ الانسان هو الذي يملك مبادرة التغيير، وليست الظروف الاجتماعية أووسائل الانتاج كما هو الحال في الماركسية، التي ترى أنّ المحتوى الداخلي للانسان لا ينمو ولا يتغير إلاّ بعد إحداث تغيير في طريقة الانتاج ونوعية القوى المنتجة، يقول الشهيد السيد محمد باقر الصدر: «فهو (أي الانسان) بصورة مستقلة عنها لا يمكنه أن يفكر تفكيراً اجتماعياً، أوأن يعرف ما هو النظام الأصلح؟ وإنما القوى المنتجة هي التي تملي عليه هذه المعرفة[15] ».
معالجة منطقة الفراغ التاريخي
   تولدت منطقة الفراغ التاريخي نتيجة انحصار علاقة الدين مع الواقع الاجتماعي , بالفقه ,فحدثت هذه الفجوة بين الاسلام والحضارة، بين الأمة وحركة التاريخ. فالفكر الاجتماعي ـ السياسي او الفكر الاجتماعي ـ التاريخي المنتخب , الذي صاغه الصدر جاء نتيجة لبعث الحياة في الفقه باستعمال وسائل الاجتهاد ومفاهيمه , إنّ الصيغة الجديدة للطرح الغت اي دور للتجزئة بين مكونات الفكر ( الفقه , الكلام , الفلسفة  ) , واتجه المنهج الجديد الذي اختاره الصدر الى تركيبية نادرة بين هذه المكونات , لأنتاج الفكر القادر على ردم هذه الفجوة , حيث خلق الانسان مفطورا على الدين مائلا الى العبادة متصلا بالعالم الاخر الذي ينتمي اليه أعظم قواه على الاطلاق (العقل والروح) فكان مستعدا لواردات الغيب متلقيا لها على الدوام مؤمنا بدعوتها مُصدقا بمرسلها ورسولها الا ان تلك النبوات والرسالات كانت محل ابتلاء الانسان فمنهم من اهتدى ومنهم من ضل (ومن يضل فلن تجد له وليا مرشدا ) فكانت الديانات السماوية محل للمتابعة والملاحقة من قبل الطواغيت والظالمين وقد لاقى الرسل واتباعهم مختلف انواع الظلم والاضطهاد في سبيل الدعوى الالهية , هذا النوع من الحركة والمواجهة بين الالهيين والطغاة على طوال عمر الانسانية وسم حركة المصلحين بالسرية في اغلب احوالها  فكان العمل الدعوي فيها يتسم بالخصوصية  الشديدة ونتيجة لهذا الوضع الغريب والشاذ والغير منسجم مع امكانية نشر الدعوة الالهية نشأت فترات تاريخية اصبحت فيما بعد محل لتعدد الاطروحات  والافتراضات التي يمكن من خلالها قراءة الاحداث بصورة ادق واعمق على ضوء الملابسات والاحداث القبلية والبعدية لتلك الفترة التي تعرف بمنطقة الفراغ التاريخي  ومااكثرها في تاريخ الانسانية وتاريخنا الخاص بصفة خاصة , والحقّ أنّ التحليل الذي تناول الفكر الاسلامي في تفاعل عناصره الفقهية والكلامية والفلسفية قد بدأ مع السيد جمال الدين الأفغاني، إلاّ أنه أخذ طابعه الأعمق عند الشهيد السيد محمد باقر الصدر، الذي صاغ الفكر الاجتماعي ـ السياسي الاسلامي بصيغة تربط الجانب الغيبي العبادي بالجانب الفلسفي والعلمي من خلال تأكيده على ما يتضمنه الاسلام من مفاهيم عن الكون والحياة وحركة التاريخ ونهضة الحضارات وسقوطها.
ومن المؤكد ان هذه المناطق المجهولة في تاريخ الانسانية والتي حاول المؤرخون  ملؤها ( بالروايات  والاحاديث او بما هو مأثور  عن اديان سابقة  او بالاساطير والخرافات )[16]  , قد تركت الباب مفتوحا  امام القوانين العقلانية الوضعية لتلعب دورها  في تنظيم الادوار والمعطيات  التاريخية للوصول الى الافتراض الصحيح والقريب من الحالة الطبيعية وفقا للسياقات التاريخية  لتلك الامة والجماعة  , ومن هنا كانت العقلانية من ابرز سمات فلسفة التاريخ فكانت بحق بديلا ناجحا عن الاساطير والخرافات او بالتراث الديني اليهودي والمسيحي , الصدر تقدم خطوة في هذا الطريق من خلال  ايجاد عقلانية مرتبطة بالغيب وتعي ، تبعاً لذلك ، نسبيتها التي تشكل قوتها، لأنها تجعلها عقلانية مفتوحة قادرة على استيعاب حركة التاريخ والتحكم فيها , وعلى العموم فالرؤية الاسلامية للاقتصاد لا ترتكز على مجرّد نظرة أخلاقية. فالأحكام والمفاهيم المستنبطة من الشريعة عن طريق الاجتهاد تؤطر وتقود صياغة المذهب الاقتصادي الاسلامي.
 
الجوانب المهمة في عملية التغيير التاريخي
1 ـ الجانب الرباني ( سـنـن الله ) :  يمكن القول بأن علاقة التأريخ بالتسامي لا تشكل عائقاً أبستمولوجياً (معرفياً) أمام التنظير الفلسفي للتاريخ , فالتسامي والقدر والإمداد الغيبي سنة من سنن الله , هذه المفاهيم القرآنية لا تتناقض مع العلاقة السببية التي تخضع لها الحوادث التأريخية , إنّ خضوع التأريخ لسنن الله يعني ربط عالم الشهادة بعالم الغيب، من جهة , وربط الحوادث التأريخية بعضها ببعض من جهة أخرى , من هذا المنطلق  لابد من نفي اللاهوتية الدخيلة على الفكر الإسلامي (اللاهوتية على غرار الفكر المسيحي في العصور الوسطي) وفي تبنينا المنهج العلمي نرى بأنّ هناك سنناً تسود الطبيعة والمجتمع والتأريخ وهذه السنن تجسد إرادة الله ومن هنا نتجاوز العائق الابستمولوجي الذي يفصل بين التفكير اللاهوتي والتفكير العلمي وقد تمّ هذا التجاوز بفضل مفهوم قرآني (سنن الله) , إنّ تجاوز هذا العائق يفتح الباب واسعاً للفكر الإسلامي، لتنظير رؤية فلسفية إلى التأريخ في أفق علاقة التأريخ بالتعالي : التدخل الإلهي في حركة التأريخ يتمّ عن طريق سنن الله في الكون , ويتمّ هذا التدخل كإمداد غيبي لما تتوفر الشروط الموضوعية للتغيير.
 
2 ـ الجانب البشري ( دور الإنسان ) :  فالإنسان عامل أساسي في التغيير، لأنه مسؤول عن توفير شروط التغيير ، ومعنى هذا أنّ السببية وموضوعية الحوادث التأريخية لا تحدث قطيعةً مع الجانب الغيبي على غرار الفكر اللاهوتي المسيحي في العصور الوسطي , وتنتج عن هذه النظرة أنّ الإنسان يتحكم في مصيره ، وأنّه لا يخضع خضوعاً كلياً للحتمية الاجتماعية والتأريخية ـ كما في الماركسية ,  فالإنسان يربط الحتمية بالأهداف التي يرسمها وبالقيم الأخلاقية والدينية , هذا الموقف يختلف عن الفلسفة الوضعية ، التي تمّت صياغة فلسفة التأريخ في إطارها ,  حيث إنّ الفلسفة الوضعية ليست لها ركائز فكرية تسمح لها بالقول: بأنّ الإنسان لا يخضع لحتمية مطلقة، لأن هذه الفلسفة لا تعترف بالتعالي، بل ترى أنّ كلّ معرفة مرتبطة بالتعالي هي معرفة غير علمية قد تجاوزتها حركة التأريخ .
فالفاعلية اللازمة لتغيير الواقع تنبع من المحتوى الروحي الداخلي للانسان بالنسبة للفكر الاجتماعي ـ السياسي الاسلامي. وهنا تتجلّى ثوابت الفكر الاسلامي، التي صاغها الشهيد يفضل الارشادات المنهجية من القرآن الكريم والسنة الشريفة: كالفطرة وسنن الله في الكون. يقول الشهيد مفسراً قوله تعالى: (... إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيّر مَا بِقَوم حَتَّى يُغَيِرُوا مَا بِأَنفُسِهِم...)[17]: «هذه السنة التاريخية للقرآن... بيّنت بلغة القضية الشرطية، لأنّ مرجع هذا المفاد القرآني إلى أن هناك علاقة بين تغييرين: بين تغيير المحتوى الداخلي للإنسان وتغيير الوضع الظاهري للبشرية والانسانية، مفاد هذه العلاقة قضية شرطية ، أنّه متى وجد ذلك التغيير في أنفس القوم، وجد هذا التغيير في بناء القوم وكيان القوم»[18] , وهكذا المحتوى الداخلي للإنسان هو ـ بالنسبة للصدر ـ القاعدة والأساس للبناء العلوي، للحركة التاريخية , إلا أنّ المحتوى الذهني ليس محتوى غائماً مطاطياً بدون شكل. وهنا يتساءل الشهيد: «ما هو المحور الذي يستقطب عملية بناء المحتوى الداخلي للانسانية ؟ المحور الذي يستقطب عملية البناء الداخلي للانسانية هو المثل الأعلى»[19] , فالمحتوى الداخلي للانسان كمحرك للتاريخ يحدده المثل الأعلى، يُحدّده ويحدّد مدى امكانياته وطاقاته التغييرية:«فإنّها جميعاً تنبثق عن وجهة نظر رئيسية إلى مثل أعلى للانسان في حياته، للجماعة البشرية في حياتها. وهذا المثل الأعلى هو الذي يحدد الغايات التفصيلية، وينبثق عنه هذا الهدف الجزئي وذلك الهدف الجزئي. فالغايات بنفسها محركات للتاريخ وهي بدورها نتاج لقاعدة أعمق منها في المحتوى الداخلي للإنسان، وهو المثل الأعلى الذي تتمحور فيه كلّ تلك الغايات، وتعود إليه كلّ تلك الأهداف, فبقدر ما يكون المثل الأعلى للجماعة البشرية صالحاً وعالياً وممتداً، تكون الغايات صالحة وممتدة، وبقدر ما يكون هذا المثل الأعلى محدوداً أومنخفضاً تكون الغايات المنبثة عنه محدودة ومنخفضة أيضاً»[20]
إنّ نفي التعالي في المجال المعرفي وفي المجال العملي يؤدي إلى حتمية مطلقة وقاهرة للإنسان , وعلى عكس الفكر الوضعي فإنّ فلسفة التأريخ من المنظور الإسلامي تفتح أمام الإنسان آفاقاً لا حدود لها لتغيير أوضاعه , إنّ منطق فصل التأريخ عن التعالي يكشف عن زيف الأرضية المعرفية، التي ينطلق منها الفكر الوضعي ,  ثم إنّ إلغاء إرادة الله من التأريخ يؤدي إلى تناقض، حيث يصبح التأريخ هو الذي يتمتع بصفة مباشرة أو غير مباشرة بصفات الألوهية , ومعنى هذا أنّ فصل التأريخ عن التعالي له نتائج سلبية على الصعيد المعرفي(تحويل النسبي إلى مطلق) وعلى الصعيد الاجتماعي (تأليه البشر للبشر).
الشروط الموضوعية واثرها في احداث التغيير المطلوب
   تكلم الصدر كثيرا عن القوانين التاريخية وكان يقصد تلك المجموعة من الشروط الواجب توفرها في اي عملية تغيير او تحول ثوريين اذا كانتا على مستوى الفكر والنظرية , فاذا كان لهذا التحول جنبة آلهية اي من خلال وعاية ورعاية الاحكام الشرعية فان التغيير الاجتماعي بلا ادنى ريب يكون الهيا ربانيا من حيث المضمون والموضوع بمعنى انه سائر وفق القوانين والسنن التي حكمها واجراها الخالق تعالى لاي عملية تغيير في المجتمع .
   ومن جانب آخر تحدث الصدر عن مجموعة اخرى من الشروط والمتلازمات التي ترجع الى ذات الانسان باعتباره الفردي او الى الامة باعتبارها الجمعي واسماها الشروط الموضوعية لعملية التغيير الاجتماعي وهنا يتحدث الصدر على ضوء القوانين التاريخية التي سنها القرآن الكريم عن الانسان لان تلك الشروط تنتمي الى مجموعة الظروف والمحددات التي تنتج الحركة على مستوى الفرد او الجماعة تلك الشروط التي المح لها الكتاب الكريم باعتبارها قانونا تاريخيا ولكنه لم يجعل متعلقها الية التغيير في الامة وهكذا كما في جانب المحتوى والموضوع لاي عملية تغيير بل جعل جهة تعلقها الانسان ذاته او المجتمع ومقدار التفاعل او الانفعال مع ظروفه الضاغطة ومدى انسجام الحركة ( السبب ) في التغيير مع النتيجة المتوخاة منها , يقول الصدر ( العمل التاريخي تحكمه سنن التاريخ وتتحكم فيه الضوابط ولذا نرى القرآن عندما يتحدث عن الجانب الثاني من عملية التغيير يتحدث عن أناس يتحدث عن بشر ولايتحدث عن رسالة السماء .... لان هذا الانسان تتحكم فيه سنن التاريخ )[21] .
 
موقع الشروط الموضوعية من قوانين التاريخ
   ركز الصدر على جانب مهم في بحثه التاريخي وقد كان واضحا جدا في الفصل بين مجموعة الشروط الموضوعية التي تتحكم بحركة الفرد في اطار العقيدة التي تنظم سلوكه وبين القوانين التاريخية او ( السنن ) التي لها علاقة بمجمل موضوع الحركة التغييرية لابتفاصيلها , ففي الوقت الذي يركز فيه الصدر على ان التغيير المطلوب في اي عملية تغيير لابد وان يكون منطلقا من العقيدة ذاتها التي يؤمن بها الانسان وهو بذلك يجعل مستوى الانتاج لحركة التغيير التي تقودها الجماهير بواقع الحركة كمنطلق للتعبير عن ارادتها هو المدار في مجمل عملية التحول التاريخي بمعنى ان العقيدة التي تكون الحركة في اطارها تكون صالحة لايجاد منتج ( انقلابي ) وان لم تكن ذات مبنى الهي .
   في هذه الحالة تكون القيود التي تحتمها الشروط الموضوعية اقل تاثيرا في حركة الفرد او المجتمع على اعتبار عدم العناية بالجانب الالهي الذي يعتني بنوعية المضمون والمحتوى لعملية التغيير , ومن هنا التفت الصدر الى هذا الجانب الذي يمكن من خلاله القول بافضلية او تقدم الشروط الموضوعية و توافرها في اي مجتمع ان يكون كافيا لانطلاق العملية التغييرية التي غالبا ماتكون انقلابية من دون النظر الى حاكمية القوانين التي تؤسس لمحتوى وموضوع التغيير من خلال الاحكام الشرعية اي مراعاة الجانب الالهي في التعامل مع الآخر السياسي او الثقافي , لان التغيير او التحول الاجتماعي يتوفر على مقدار كبير من الانفلات والحرية التي تؤدي لكوارث انسانية غالبا , ومن هنا ركز الصدر على ان تكون الشروط الموضوعية اللازم توفرها لاي عملية تغيير بالمرتبة الثانية بعد قوانين التاريخ الالهية التي لابد من وعيها على مستوى التطبيق الحرفي باعتبارها مضمون التغيير وهدفه .
 
نظرية الاستبدال في بعدها التاريخي
   هذا الجانب لايتعلق بقانون السماء او برسالة السماء كما يعبر الصدر , الاستبدال لايتعلق بالرسالة فالرسالة والرسول والمُرسل هو هو عبر التاريخ , الاستبدال والاستخلاف يتعلق بالجانب الاخر لاي عملية تغيير او تصحيح انها تتعلق بالانسان بالمُستخلف او المُستبدل , وهنا يرد السؤآل الذي لم يجد له مؤرخي العالم القديم والحديث جوابا ـ خلا المدرسة الالهية ـ ترى لماذا تذهب حضارات وثقافات ؟ وما هو سبب انحطاط الافكار والنظريات واضمحلالها وظهور غيرها وهكذا ؟ وما السبب في كل ذلك التعدد على المسار التاريخي للرؤى والمناهج ؟ .
   الواقع ان هذا السؤآل يتوفر عل عدة مستويات للاجابة وسوف نشير الى ماله جهة تعلق بموضوع سنن التاريخ وقوانينه ومجموعات الظروف الموضوعية للاستبدال والا فالجانب السياسي والاقتصادي والاجتماعي حاضرا بقوة في جواب هذا السؤآل وفي الحقيقة لم يغب هذا المعنى من القرآن الكريم , قال تعالى " وتلك الايام نداولها بين الناس ... " [22] , والسبب في تداول الايام بين الناس هو مقدار القابلية التي يبدونها للنهوض بالواقع المتخلف , بحيث تنتج عملية النهوض هذه تغييرا على مستوى المفاهيم والمناهج والفعل السلوكي , وعلى قدر تلك القابلية يكون الاستحقاق وفقا للقوانين التي وضعت لتنظيم عملية التغيير التاريخي فبمقدار توفير الانسان او المجتمع للشروط الموضوعية ونصبه وتعبه واجتهاده لتوفيرها كان استحقاقه للنصر والوصول الى النتيجة المرجوه لاي تغيير متناسبا مع مقدار الجهد في توفير الشروط الموضوعية .
    ومن هنا لايكون النصر او النجاح او التسديد حقا الهيا لطائفة المؤمنين بل عليهم الاجتهاد في الحصول على كل مايمكن ان يعجل او يقرب من انتصار حركتهم والوصول الى التغيير المطلوب في اطار العقيدة الاسلامية فتحقيق النصر على الذات اولا او تغيير المجتمع او النجاح في طريق تغيير بعض المفاهيم المغلوطة والمتخلفة في المجتمع المسلم ليست حقا الهيا لطائفة المؤمنين وانما هي استحقاق طبيعي يمكن الحصول عليه بالحركة والاجتهاد في توفير مستلزماته في اطار العقيدة الاسلامية فاذا لم يستطع الانسان من توفير تلك الشروط الموضوعية كان لزاما استبدالهم بقوم آخرين والعهد اليهم للقيام بهذه المهمة , قال تعالى " الا تنفروا يعذبكم عذابا اليما ويستبدل قوما غيركم ." [23]
 
حركة الامة واثرها في احداث التغيير التاريخي
   الحركة في اطار العقيدة المنظمة لسلوك الانسان هي جوهر عملية التغيير الاجتماعي , وموضوعه ومحتواه , هذه الحركة ليست حكرا على الفرد , نعم , القرآن الكريم خاطب الانسان في آيات كثيرة دالا على هذا المستوى بالذات الا انه لم يغفل الاشارة الى مجموع الامة , الى حركة الامة , فوجه الخطاب الى الامة كذلك قال تعالى " لكل امة اجل ... " [24] , وماتم الكلام فيه عن المستوى الفردي ينطبق على هذا المستوى على الامة بمجموعها فالحركة نحو التغيير يجب ان تخضع للعقيدة كما يرى الصدر , هذه الحركة ايضا تخضع لقوانين ونواميس التاريخ من جهة المضمون والمحتوى اي باعتبار تلك الحركة الناشئة في الامة او المجتمع الهية تحتكم الى الاحكام الشرعية في حركتها وذات بعد انساني في صيرورتها والاستفادة منها واعمال القائمين بها , وكذلك فان تلك الحركة لابد وان تتوفر على الشروط الموضوعية الضرورية لاي عملية تغيير او نجاح تلك العملية ومن دون ذلك او بتخلف احدى الركنين الاساسيين لاي عملية تغيير سوف تواجه الامة الاستبدال او الاستخلاف سوف تاتي قوانين التاريخ بامة اخرى توفرت او وفرت لنفسها الشروط الموضوعية للقيام بالحركة المنتجة اجتماعيا " يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ " [25] .
   هذا هو القانون التاريخي الذي يجب احترامه والحرص كل الحرص على عدم الوقوع في ماحذر منه فالاستبدال وارد في اي وقت ومع اي امة وان كانت امة المؤمنين فالنصر والتسديد امر طبيعي يتوقف على مقدار الجهد في توفير مستلزماته وليس لاحد خصوصية عند الله تعالى لينصره على سواه من دون تحصيل مقومات النصر ذاتيا ونتيجة الاستبدال الاممي هذه خطيرة على مستوى الافراد اشار اليها الصدر , ففشل الامة في التمحيص في السعي في الحركة في توفير شروط النصر ومستلزماته له نتيجة لاتختص بفرد دون آخر لاتختص بالقيادة الضعيفة للامة لاتختص بمستويات الادارات التنفيذية الغير مؤهلة والفاسدة , بل تعم حتى المصلحين , يكون عقابهم بمستوى سكوتهم على جهل القيادة وقلة كفائتها " واتقوا فتنة لاتصيبن الين ظلموا منكم خاصة "[26] , بمستوى المجاملة على الحق وسنن التاريخ بمستوى الظلم الذي احدثه سوء الادارة والفساد يقول الصدر " حينما حل البلاء .... فاصبح يزيد بن معاوية خليفة ... لم يختص بالظلمين في المجتمع الاسلامي .... شمل الحسين اطهر الناس وازكى الناس واطيب الناس ... " [27].
 
دور الظلم في احداث التغير التاريخي
    تحدث الصدر عن مستويات التغير وتحدث كذالك عن وسائل التغير كما تحدث عن تاريخ التخلف الحضاري ومايستتبعه من انهيارات في النظم الحياتية , وتحدث عن موقع الانسان من عملية التغير وعن موقع ولادته في ذالك , تحدث عن هذه المستويات بالنسبة للامة المؤمنة التي تتحرك وفق  فلسفته التاريخية في اطار العقيدة المنظمة لسلوك الانسان وولادته على حد سواء , اما الجانب الاخر من عملية التغير الاجتماعي الجانب الذي تطبق عليه سنن التاريخ وقوانينه لانهاء وجوده بل لعدمه ان امكن  , هذا الجانب كان حاضرا ايضا في قولنين التاريخ لدى الصدر , وهنا يرد سؤال هل يسعى هذا الجانب للبقاء ؟ وقبل ذالك هل يتحتم على هذا الجانب توفير الشروط الموضوعية لبقاءه ؟ وهل حركته تلك في اطار العقيدة ام لا ؟ .
   من المؤكد ان الرسالات السماوية  والرسل والامم  تسعى الى التغير  من منطلق اجتماعي  تصحيحي لرفع عقبه عرقلة تقدم الانسان في طريق الاخذ بحريته , عقبه اجتماعية تميت الابداع والحركة وتشجع السكون والقبول بالواقع المنحرف , ومادامت تلك الجهة المناهضة  لحركة الانبياء والتي تقف في طريق تحقيق قوانين التاريخ  فمن المؤكد  ان حركتها لاتستند الى الشريعة الالهية  وانما هي جهد بشري للابقاء على ماهو كائن .
   والشروط التي تتيح لهذا  الوضع لاتعد موضوعية  لاننا فرغنا من ان الموضوعية هي مانتجه الامر الطبيعي والاستحقاق الطبيعي  أي العودة الى الفطرة والصيغة التي ارادها الله تعالى  للانسان الفرد  والامة والمجتمع  ومن هنا  لاتكون الشروط التي يوفرها هذا التيار المناهض  للتغير موضوعية  الا بمقدار  مايستفيد منها اصحاب الحركة التغيرية من قبيل الظلم الاجتماعي  فكلما ازداد  ظلم الظالمين  ووفر لهذا الجانب ظروفه كان عونا للاخرين  على  انفسهم بظلمهم يقول  الصدر ((أي انهم لايمكثون كجماعة صامدة ومعارضة كموقع اجتماعي لايمكثون كموقع  سوف ينهار  نتيجة هذه العملية))وقد قيل لامير المؤمنين كيف تصرع الابطال فقال ((ماقاتلت احد الا واعانني على نفسه)) .
 
لماذا المعرفة التاريخية
   فتح الصدر الباب على مصراعيه في طريق المعرفة بسنن التاريخ , معرفة تلك السنن ليست حكرا على احد فمن الممكن لاي انسان ان يطلع عليها ويأخذ العبرة ليتمكن من نيل النصر الذي قلنا بانه امر طبيعي وليس بعدا الهيا الا بمقدار وجود القانون التاريخي في حتميته لمن سار على درب الوصول اليه ولكن لابد من السير والجد في نيله فهو امر طبيعي في نهاية المطاف ولاوجود لللاستثناء من هذه القاعدة بدأًُ بالانبياء والرسل والاولياء والصالحين الى عوام الناس لابد لهم لنيل النتيجة المرجوة من كل عملية تغير من الحركة في اطار العقيدة الاسلامية .
    مجرد هذه المعرفة كفيلة باتخاذ جانب السعي  والعمل للحصول على هذه النتيجة المتميزة واما الاتكاء على البعد الاخر البعد الغيبي في النصر كالمعجزة والانتقام الالهي للظالمين فليس ذلك من سنن وقوانين التغيير التاريخي  في القران الكريم مادام الانسان والمجتمع قادرين على توفير شروط النصر الموضوعية , يقول الصدر((نصر الله قريب لكن نصر الله هكذا يريد ان يقول القران  نصر الله ليس امرا عفويا ليس امرا على سبيل الصدفة ليس امرا عمياويا نصر الله قريب ولكن اهتد الى طريقه والطريق لابد وان تعرف فيه سنن التاريخ )[28] .
   ومن هنا يتضح جانب المعرفة التاريخية بأوضح صورة لابد من المعرفة في طريق التغير لانها توصل الى الطريق الذي يمكن من خلاله الحركة في اطار العقيدة  والا كانت الحركة عمياوية او صدفية كما يعبر الصدر وهذه الحركة بطبيعة الحال لاتنتج  شروطا موضوعية قادرة على تحقيق النصر فيتحول الانسان او المجتمع الى ضد حركته وهو ماحصل كثيرا في تاريخ المسلمين عندما تكون النية والانطلاقة تغيرية وايجابية بل الافكار ثورية في اطار العقيدة ولان تطبيقها تعوزه الدراية والحكمة والصبر والايمان وبدون او التخلي عن هذا الجانب لعدم المعرفة والجهل تنقلب  تلك الحركات التغيرية ضدها مع الاسف .
 
دور النبوة والامامة من قوانين التاريخ
   الذي يميز قوانين التاريخ عن غيرها من القوانين والانظمة بالاضافة الى كونها قوانين مطردة لاتختلف ولا تتخلف في أي زمان او مكان , ولايستثنى منها احد او أمة , بالاضافة الى ذلك يتميز القانون التاريخي في كونه يشير الى صراع المواقع بمعنى ارادة البقاء والتاثير بالنسبة الى المواقع والادوار والعناوين الحياتية سواء تعلقت بالجانب الالهي او لا , هذا الصراع هو المنتج للحركة في اطار العقيدة , اذ الحركة منتج من منتجات الصراع , مثلا الصراع الفكري الذي دار بين الامامية والاشاعرة في القرن الثاني الهجري انتج ظهور مدرسة الاعتزال , وكان ظهورها ثورة بحق في عالم الفكر , فبالرغم من بعض المواقف التي تحتسب على بعض رجالها , الا ان ظهورها كرس ومهد الطريق للتشيع للانتشار والتوسع ( فكريا ) على حساب مدرسة الاشاعرة بالرغم من اسناد انظمة الحكم للمذاهب الاشعرية والكلامية منها بصفة خاصة , مثال آخر الصراع الطبقي في القرن التاسع عشر انتج الثورة البلشفية عام 1917 م , وهكذا فالصراع له مخرجات عديدة اجتماعية وثقافية وسياسية وغيرها , احدى مخرجات الصراع حركة المواقع والعناوين في سبيل الاصلاح , جميع الانبياء كانت حركتهم مسبوقة بصراع اجتماعي , وانطلقوا للتغيير من واقع ذلك الصراع , صراع على مستوى العقيدة يتطور فياخذ بعدا اجتماعيا بل ويقرا على انه تغيير اجتماعي , هذا البعد يفسر نوعا ما ظهور المدارس الاقتصادية في فهم التاريخ .
   موقع النبوة باعتباره موقعا يتعلق بالجانب الالهي هذا الموقع له خصائصه الاجتماعية بالاضافة لخصائصه الاخرى , الالهية منها بصفة خاصة , الا ان الحديث عن الخصائص الاجتماعية لهذا الموقع المهم والحيوي في التغيير , وهو بطبيعة الحال ممثلا للنموذج الفذ والكامل للانسان الرسالي الهادف , بل ان هذا الموقع يجعل من النبي واقفا في الضد الذي يصل الى حد التناقض مع موقع آخر او نموذج اجتماعي آخر يحمل كل الصفات السلبية المقابلة بالضرورة لصفات النبي , هذا الموقع ( النبوة ) وهذا المقام نقيض الاستكبار او حسب تعبير الصدر ( المترفين والمسرفين ) هذا التناقض بين الموقعين كان نتيجة صراع بين منظومات من القيم , صراع ابتدا من المواقع الاجتماعية للنبي او الإمام في مقابل المترفين والمسرفين وانتقل الى المجتمع الى الانسان باعتباره الفردي في هذا الانتقال كان النصر ( التغيير ) في مصلحة النبي كان موقع النبوة على الدوام هو المنتصر , ( والعاقبة للمتقين ) كان موقع الامامة هو صاحب المبادرة الاجتماعية والاقتصادية والفكرية , وليست الايدلوجيات الاموية او العباسية , ترى لماذا ؟ السبب يكمن في ان موقع النبوة او الامامة اكثر معرفة بطريقة التعاطي او التعامل مع قوانين التاريخ واكثر تسخيرا للشروط الموضوعية في الصراع بين الظلم والعدل .
 
دور البعد الاقتصادي في احداث التغيير التاريخي
   غالبا ماتقرا الاحداث والتغييرات التاريخية في حياة الامم من زاوية اثر البعد الاقتصادي على حركة المجتمع ولعل هذا البعد اخذ طابعا علميا وموضوعيا بعد انتصار الثورة البلشفية في روسيا عام 1917 م , , نعم للجانب الاقتصادي دور مهم في التحولات الاجتماعية , الا ان المحرك الحقيقي للتغيير ليس قلة مدخولات الافراد , والا ما استقر حجر على حجر في أي مجتمع  , فالكثير من الناس فقراء بل الكثير منهم تحت خط الفقر , في المقابل نجد ان هناك استقرار في الحالة الاجتماعية في اغلب البلدان الفقيرة , المشكلة الاجتماعية تكمن في بعد آخر يرتبط بالجانب الاقتصادي , فاذا توفرت الثروة في أي بلد , مع بقاء مستوى الدخول فيها قريبا من مستوى الفقر هنا فقط يكون العامل الاقتصادي احد الشروط الموضوعية للتغيير الاجتماعي , فسوء ادارة الموارد والفساد ينتجان الظلم ومن ثم عدم العدالة في توزيع الثروات , هذا يعني ان البعد الاقتصادي عامل غير مباشر في التغيير الاجتماعي , بمعنى ان  العامل الاقتصادي ليس جوهريا في العملية التغييرية , ليس موضوعا ومحتوى للتغيير كما يعبر الصدر .
ومن هنا نعود لنكشف مرة اخرى من خلال استقراء قانون التاريخ ومن خلال دور وموقع النبوة في صياغة الحدث التاريخي , لابدية ان يكون السبب في التحولات الاجتماعية شيئا آخر او منظومة أخرى لها علاقة بالاقتصاد وحرية راس المال ولكنها ترتبط كذلك بالمنظومات الاجتماعية والثقافية وغيرها , تلك هي منظومة القيم التي تعتبر القيمة المركزية لاي تغيير اجتماعي , نعم باعتبار ان منظومة القيم تتوفر على عدة جوانب تتعلق جميعا بالانسان والامة فلابد ان يكون البعد الاقتصادي او الجانب الاقتصادي مؤثرا بهذه الكيفية باعتباره رافدا من روافد التغيير على مستوى الحركة وليس اساسا ومنشا لها وفي ذلك يقول الصدر ( ان المجتمع الذي تسوده العدالة في التوزيع .... لايقع في ضيق من ناحية الثروة المنتجة )[29] هذا البعد الاقتصادي هو قانون من قوانين التاريخ لكنه لايولد حركة نحو التغيير الا اذا تجاوز اطار العدالة , أي تجاوز الظلم الاجتماعي حدود العدالة في التوزيع .
ان منهج السيد الشهيد محمد باقر الصدر ـ قد ـ التاريخي , منهج فلسفي بحق , ينظر الى الحركة الاجتماعية بمنظار العقل اولا وقبل كل شيء الا ان هذا المنظار العقلي , دائما على توافق تام مع العقيدة التي ربما تستند في الكثير من معطياتها الى الغيب , فتكون الفلسفة والعقيدة صنوان في منهج الصدر التاريخي , يكمل احدهما الاخر .
وهذه الكلمات التي اشتملت عليها المقالات المتقدمة ليست الا محاولة في طريق فهم المنهج التاريخي للسيد الشهيد الصدر ـ قد ـ من خلال استقراء بعض النصوص , على ان استقرائي لتلك النصوص المعتبرة , كان مشوبا بقصوري عن ادراك معانيها ومراميها العالية , واسأل الله تعالى ان يوفقني لفهمها والتعليق عليها انه على كل شيء قدير وبالاجابة جدير , والحمد لله رب العالمين .
 
 
 
________________________________________
[1] . ومن نماذج هذه الردود : الرد على الدهريين للسيّد جمال الدين ورسالة التوحيد لمحمّد عبده .
[2] . الصدر , محمد باقر, المرسل، الرسول , الرسالة ، دار التعارف ـ بيروت , ط1 ـ 1992 , ص 38 . 
[3] . ويعتبر هذا دحضاً لموقف محمد عابد الجابري الذي يقسم الفكر الإسلامي إلى بيان وبرهان وعرفان، ففلسفة الصدر تتضمن كل هذه الجوانب بصورة منسقة
[4] . القطيعة الإبستمولوجية تعني: الطرح الجديد للموضوع، فهي لا تعني اختلاف المواضع، بل تعني الاختلاف في المنهج وفي الطرح.
 
[5] . عبد اللاوي , محمد , معاصر , فلسفة الصدر , طبعة لندن ـ 1986 , ص 26 .
[6] محمد اركون , نزعة الانسنة في الفكر العربي , ترجمة هاشم صالح , ص194 .
[7] . آل عمران / 19 .
[8] . البقرة / 128 .
[9] . عبد اللاوي , فلسفة الصدر , مصدر سابق , 33 .
[10] . رسالتنا ص 80
[11] . رسالتنا ص 72
[12] . رسالتنا ص 73
[13] رسالتنا ص74
[14] . المدرسة القرآنية ص 34 .
[15] . الصدر , محمد باقر ,  الإنسان المعاصر والمشكلة الاجتماعية , دار الزهراء ـ بيروت , الطبعة السادسة ـ 1987م , ص 17 .
[16] . المدرسة القرآنية ص33 .
[17] . الرعد: آية 11.
[18] . التفسير الموضوعي للقرآن: 105.
[19] . التفسير الموضوعي للقرآن: 105.
[20] . التفسير الموضوعي للقرآن: 145.
[21] . المدرسة القرآنية ص 37
[22] . آل عمران / 140 .
[23] . المائدة / 54 .
[24] . يونس / 49 , الاعراف 34 .
[25] المائدة / 54
[26] الانفال / 25 .
[27] المدرسة القرآنية , ص43 ومابعدها
[28] . المدرسة القرآنية ص 50 ومابعدها
[29] . المدرسة القرآنية ص 51 .

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


حسين جويد الكندي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2015/06/19



كتابة تعليق لموضوع : البعد الفلسفي في صناعة التاريخ عند محمد باقر الصدر ـ قد -
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net