أَسْحارٌ رَمَضانِيَّةٌ السّنةُ الثّانيَةِ (٧)
نزار حيدر
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ}.
الاية الكريمة تتحدث عن واحدة من أخطر الظّواهر السلبية في المجتمع، واقصد بها ظاهرة النّفاق وازدواج الشخصية، فبينما ترى المرء يحدّثك عن الدين والتقوى ومخافة الله وغير ذلك من القيم الرسالية العظيمة التي بعث الله تعالى بها أنبياءه ورسله، تراه، في نفس الوقت يتعامل بطريقةٍ تتناقض كلياً مع ما يحدّثك عنه وتسمعهُ منه.
انّ الازدواجيّة مرضٌ يكرّسه المجتمع بالجهل والغفلة وعبادة الشخصية، من حيث يشعر او لا يشعر.
تعالوا نتفحّص الايات القرآنيّة التالية لنكتشف العلاقة الدّقيقة والخيط الرفيع الواصل بين المفاهيم التالية؛
الازدواجية، الخداع، وتحديداً خداع الذّات، مرض القلب الذي يتجلى في الكذب.
{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ* يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ* فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}.
وتتجلّى الازدواجية بشكل أوضح واخطر في آن عندما يتصدى (المتديّن) للسياسة وللشأن العام، اذ يتحوّل الدّين في هذه الحالة الى سلعة يتاجر بها لتحقيق مصالحه الضيّقة.
انّه يتستّر بالدين لخداع الناس كلّما تناقضت طهارة القيم والمبادئ مع سفالة مصالحهِ الخّاصة الضيّقة، فتراه يبذل كلّ جهده لشرعنة الفساد المالي والاداري واللصوصية والرشوة وغير ذلك بآية متشابهة من القرآن الكريم او رواية تحمل اكثر من معنى!.
حتّى مشروعه العائلي المتداخل مع مشروع الدولة، يجد له تفسيراً في آيةٍ او رواية لخداع السذّج بمشروعيّته الدينيّة!.
وربما من أوضح حالات الازدواجية هذه ما نراه في سياسات نظام القبيلة الفاسد الحاكم في الجزيرة العربية، والذي حشّد خلفهُ جيشٌ من فقهاء البلاط وعلماء السوء وائمّة النار، المستعدّون لاصدار فتاواهم تحت الطلب باشارة من (ولاة الامر) على حدّ قولهم، وهم كلّ حاكمٍ فاسدٍ ومنحرفٍ ومنحطٍّ ولغَتْ يداه بدماء الأبرياء الى المرافق.
فإلى متى تظلّ هذه الأنظمة تمارس الاذلال والقمع والسّحق المنظّم لحقوق الانسان وإهانة المرأة وكبت الحريات وتكميم الأفواه ضد شعوبها باسم الدين وبتشريعات (دينيّة) باطلة؟ الى متى تتمتّع هذه الحكومات بكلِّ خيرات البلاد، فيما تعيش شعوبها الفقر المدقع والبطالة؟ كذلك بتشريعات (دينيّة) باطلة؟ الى متى تتمتعّ هذه الأنظمة بكلّ الفرص، وعلى مختلف المستويات، من دون ان تترك للشعوب أيّة فرصة لا في التعليم ولا في الصّحة ولا في التنمية ولا في اي شيء آخر؟ كذلك مدعومة بتشريعات (دينيّة) باطلة؟.
الى متى تنفق هذه الأنظمة الفاسدة الأموال على الارهاب لقتل الأبرياء وتدمير البلدان وتحطيم كلّ شيء، كما هو الحال اليوم في العراق وسوريا ومصر وليبيا واليمن وغيرها، كذلك بتشريعات (دينيّة) تضلّل الراي العام وتخدعهُ؟!.
انظروا؛ كم يهتم النظام السياسي الفاسد ويبذل من جهد كبير لتحديد هلال شهر رمضان المبارك، ولكنه لم يَعِر لقدسيّته وحرمته ايّة قيمة فيواصل عمليّاته العسكرية العدوانية ضد الشعب الاعزل في اليمن ليقتل ويدمر كل شيء، من دون ان يبذل جهداً ما ليعود الى قول الله تعالى {مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَٰلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ}.
انّهُ النفاق وازدواج الشخصية الذي ضلّل الراي العام الذي حاله الان حال قول الله عز {لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}.
والسؤال هنا؛ متى يُصابُ المرء بازدواج الشّخصية؟ ولماذا؟.
لقد تحدّث الامام الحسين بن علي السبط الشهيد عليه السلام عن سبب هذه الحالة بقوله {النَّاسُ عَبِيدُ الدُّنْيَا، وَ الدِّينُ لَعِقٌ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ، يَحُوطُونَهُ مَا دَرَّتْ مَعَايِشُهُمْ، فَإِذَا مُحِّصُوا بِالْبَلَاءِ قَلَّ الدَّيَّانُون} ولعل من ابرز اسباب هذه الحالة ما يلي؛
الف؛ عندما لم يجد المرء سلعةً غير الدّين ليتاجر بها.
باء؛ عندما تنتشر في المجتمع ظاهرة التديّن العاطفي، والذي من مظاهره الاهتمام بالتوافه من الامور على حساب القضايا الاستراتيجيّة الهامّة، فترى الواحد منّا يحذر قطرة البول ان تُصيبَ لباسه فتبطل صلاته، ولكنّه لا يعير أدنى اهتمام لحقوق الناس عنده! كما في قصة الكوفيّ الذي جاء يسال عن دم البعوضة أهوَ نجسٌ ام طاهر؟ ولكنّه نسي، في نفس الوقت، ان يسأل عن دم الحسين السبط (ع) اهو حلالٌ إراقتُهُ ام حرام، عندما شارك في الحرب ضده في كربلاء في عاشوراء عام ٦١ للهجرة!.
جيم؛ وعندما يتحوّل الدين او المذهب الى واحدٍ من اهم أدوات الحرب السياسية، فترى ظاهرة ازدواج الشخصية تنتشر بشكلٍ واسع ليتخندق خلفها الزّعماء في حروبهم السياسية، كلٌّ يُحشّدُ لها انصارهُ بالدين والمذهب!.
انّ مسؤوليتنا جميعاً اليوم ان نتصدّى لظاهرة ازدواج الشخصية، والتي باتت تهدّد المجتمع بشكلٍ كبير، بعد ان زُج الدين والمذهب في كل الصراعات السياسية التي يشهدها العراق، من خلال:
اولاً؛ ان لا نسمح للسّياسي بالتدخل في الدين والمذهب، خاصة اذا كان هذا السياسي معمّماً، فليدع الحديث عن الدين جانباً، ولا يتحدث عن المذهب ورموزه التاريخية التي اساء لها كثيراً حدِّ القرف بسبب ما نراه من تناقض بين ما يقول ويدّعي وبين ما نراه من سلوكيّات وأفعال مشينة اساءت للمذهب ورموزه بدرجةٍ كبيرة.
وتزداد الخطورة وتتضاعف اكثر فأكثر عندما يكون السّياسي منتمياً الى مدرسة اهل البيت عليهم السلام، ولو بالهويّة، فالتّناقض بين الاقوال والافعال تتّضح اكثر، لِما تمثّله هذه المدرسة من عفّةٍ وطُهر ٍومثاليّة ظلّت على مرّ التاريخ النموذج والرّمزيّة في كلّ شيء، بينما لا نلمس ممن يدّعي الالتزام بها والانتماء اليها الا كلّ ما هو سيّء وعلى مختلف الاصعدة.
ثانياً؛ لينشغل السياسيون بواجباتِهم، وليقدِّموا انفسهم من خلال انجازاتهم، وعندها فهم ليسوا بحاجةٍ الى ان يتلبّسوا بالدين والمذهب لتسويق انفسهم.
الم يقل رسول الله (ص) {الدّين المُعامَلة}؟ فليتعاملوا مع الناس ومع الموقع ومع المسؤولية ومع واجباتهم بصورة صحيحة وسليمة، من دون ان يحلفوا بالمقدسات لإقناعنا بصدق نواياهم {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُوا مُؤْمِنِينَ}.
ثالثاً؛ امّا المجتمع فانّ عليه ان لا يصدّق كلام السياسيّين كثيراً، مهما حلفوا بالله وتاجروا بالدين والمذهب، وانّما لينظر الى افعالِهم وسلوكِهم وإنجازاتهم، فاذا كانت سليمة فلا عليه بدين الرّجل ومذهبه، اما اذا كانت فاسدة وفاشلة، فماذا تنفعُهُ صلاتُه وصومُه؟!.
انّ مشكلة مجتمعنا هي انّه يصغي الى الاقوال ويهتم بالكلام اكثر من متابعته للمنجز واهتمامه بالافعال، ولهذا السّبب انشغل السياسيّون بالمتاجرة بمعسولِ الكلام وطيب الحديث لخداع الناس والضحك على ذقونهم {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ}.
رابعاً، واخيراً؛ اذا سمعتم متحدّثاً يُكثِرُ من القسم فتأكّدوا بأنّه كذّاب غير صادق في كلامه، فانّ لجوئه الى الايمان والقسم عند الحديث دليلٌ على عدم ثقة الناس به لكثرة ما وعدَ فأخلف، وأقسم ولم يبرّ بقسمه، فالصّادق بالوعد لا يحتاج الى ان يحلف بالله انه سينجز هذه المرة ما سيَعِدُ به الناس.
انّ الصّادق الامين تتحدّث عنه إنجازاته ونجاحاته وبصماته التي يتركها في كلّ موقع يتحمّل مسؤوليته، اما الكذّاب الخائن فيحتاج الى الكثير من الحلف واليمين وأغلظ الايمان ليخدعنا بمعسول الكلام.
لقد حذر الله تعالى من هذه الظاهرة بقوله {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.
يقول العلّامة الطباطبائي في تفسير الاية:
إنّ الحلّاف المُكثر من اليمين لا يستعظم ما حلفَ به و يصغر أمرُ ما أقسم به لكثرة تناوله فلا يُبالي الكذب فيكثر منه هذا عند نفسه، و كذا يهون خطبُه و ينزل قدره عند الناس لاستشعارهم أنه لا يرى لنفسه عند الناس قدمَ صدقٍ و يعتقد أنهم لا يصدّقونه فيما يقول، و لا أنّه يوقّر نَفْسَهُ بالاعتماد عليها، فَيَكُونُ على حدّ قوله تعالى: وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ.
٢٣ حزيران ٢٠١٥
للتواصل؛
E-mail: nhaidar@hotmail. com
Face Book: Nazar Haidar
قناتنا على التلغرام :
https://t.me/kitabat
نزار حيدر
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat