صفحة الكاتب : د . مصطفى يوسف اللداوي

سياسة العزل إعدامٌ للنفس وإزهاقٌ للروح (1)
د . مصطفى يوسف اللداوي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

لما كان الأسرى والمعتقلون الفلسطينيون والعرب في السجون والمعتقلات الإسرائيلية، هم والشهداء أنبل بني البشر، وأعظم المقاومين والمجاهدين، وخير من ندافع عنهم ونناضل من أجلهم، فقد آثرت أن أكتب عن بعض معاناتهم، وأسلط الضوء على اليسير مما يواجهون من صلف الاحتلال وبطش العدو السجان، وإنهم ليستحقون منا أن نعرف عنهم ونعلم، وأن نقف إلى جانبهم ونؤازرهم، وأن نتضامن معهم ونساندهم، وأن نطالب بحقوقهم والإفراج عنهم، فهم الطليعة الرائدة التي ضحت، والنخبة الأولى التي تقدمت، والخيرة النبيلة من أمتنا التي تستشهد على مهل، وتقتل أمام أعيننا ببطء.

 

لعل قلة قليلة جداً من الناس تعرف ماهية سياسة العزل الانفرادي الذي تتبعها سلطات الاحتلال الإسرائيلي في السجون والمعتقلات، ضد أسرانا ومعتقلينا البواسل، كونهم لا يسمعون عنها إلا عبر وسائل الإعلام أحياناً، وخلال عمليات الإضراب التي تخوضها الحركة الأسيرة في السجون والمعتقلات، أو أثناء احتجاج أسيرٍ أو أكثر على عملية عزله، أو اعتراضاً على فرض أو تمديد الاعتقال الإداري في حقه.

 

إلا أن المعتقلين الفلسطينيين جميعاً، السابقين ومن بقي منهم في السجون والمعتقلات، يعرفون هذه السياسة وقد جربوها، ويعلمون أخطارها ويدركون أبعادها ونتائجها على نفوسهم التي تبقى وتدوم، وقد عانوا منها كثيراً، واشتكوا من قسوتها ومرارتها، وبقيت آثارها ومضاعفاتها عليهم حتى بعد الإفراج عنهم، أو بعد انتهاء مدة العزل بفترةٍ طويلةٍ، وانتقالهم إلى الأقسام والزنازين العامة.

 

العزل والحشد أو الحشر سياستان قديمتان قاسيتان ومؤذيتان، يتبعهما العدو الصهيوني في تعامله مع الأسرى والمعتقلين، يعمد من خلالهما إلى التضييق على المعتقلين ومواصلة تعذيبهم، عزلاً فلا يرون أحداً ولا يختلطون بأحدٍ، أو جمعاً مع كثيرين بما يسبب ضيقاً وازدحاماً وعدم قدرة على الإحساس بالراحة أو الهدوء، فضلاً عما يسببه الحشد والازدحام من أمراضٍ وانتقالٍ للعدوى، مع فقدان الأسرى لخصوصيتهم، فلا يجدون فرصةً للراحة، ولا فرصةً للتفكير الهادئ، ولا بعض الوقت للتأمل والتذكر والقراءة والكتابة، أو الصلاة والتعبد، نتيجة التزاحم الشديد والتدافع المؤذي، الذي يضيق النفوس ويضني الأجساد.

 

ولكن الحشد والحشر يبقى على أسوأ الأحوال أهون من العزل، وأقل أثراً نفسياً منه، ويمكن للمعتقلين التأقلم معه، والتعايش في ظروفه، اقتساماً للمكان، واحتراماً للأوقات، وتفاهماً على البرامج اليومية، للاستفادة من الوقت، والانتصار على سياسة السجان، وإبطال مفعولها، والتقليل من أثرها.

 

العزل أسلوبٌ عقابيٌ قديم تلجأ إليه أغلب الأجهزة الأمنية خلال فترات التحقيق وبعدها، ويصنف العزل أنه تعذيبٌ نفسي أكثر مما هو تعذيبٌ جسدي، وله آثار على النفس أبلغ وأشد من التعذيب الجسدي، إذ أن نفس المعتقل خلال فترة العزل تضيق وتصاب بحالة اختناق شديدة، ولا يستطيع المعتقل أن يقضي وقتاً طويلاً منعزلاً أو معزولاً عن بقية المعتقلين، إذ في وجوده معهم تسرية له عن نفسه وهمومه، وتزجية لوقته، وتخفيفٌ من آلامه ومعاناته، ونسيانٌ لهمومه الشخصية، ومشاركة له في حل بعض مشاكله الخاصة، إذ أن المجموع قد ينصحه ويوجهه، وقد يحذره وينقذه، ولهذا تعمد الأجهزة الأمنية إلى عزل المعتقل، ليسهل عليها السيطرة عليه، والتمكن منه منفرداً، واستدرار المعلومات منه بسهولة، والحصول على كامل الاعترافات المطلوبة.

 

ولهذا فإن سلطات السجون الإسرائيلية لا تتوقف عن ممارسة سياسة العزل الانفرادي، وتلجأ إليه من وقتٍ إلى آخر على أبسط الأسباب، وأحياناً تفرضه مزاجياً دون سبب، ولا يجد السجانون أنهم بحاجة إلى قانون أو تشريع يبيح لهم حرية اللجوء إلى عقوبة العزل، فهم ليسوا بحاجة إلى قانون جديدٍ، إذ سمح القانون الإسرائيلي بعزل الأسرى والمعتقلين بشكلٍ مفتوح في زنازين خاصة، والحيلولة دون ممارسة حقوقهم في الاتصال والمراسلة، وانتقال أخبارهم، والاطمئنان على صحتهم وسلامتهم، وهو قانونٌ قديمٌ وإن بدا أنه قانونٌ جديد، فقد مارسته مصلحة السجون سنين طويلة، وكان عاماً في بعض الأحيان تمارسه ضد جميع الأسرى والمعتقلين، ثم عادت وقيدته ضد أسرى بعينهم في فتراتٍ أخرى، إلا أنه كان يطبق قديماً بصمتٍ ودون ضجةٍ، ولم يكن الرأي العام الفلسطيني يعلم بالعقوبة إلا بعد انتهائها أحياناً، وعودة الأسير إلى مكانه القديم بين إخوانه الأسرى.

 

وقد أصبحت مختلف ممارسات الأجهزة الأمنية الإسرائيلية ضد الأسرى والمعتقلين محمية بالقانون، ومغطاة بمختلف التشريعات والقرارات، من أعلى المؤسسات التشريعية والقضائية إلى أدنى عناصر مؤسستي الأمن والجيش، فلا يعاقب منفذها ولا يزجر من يلجأ إليها، وما يستجد من الممارسات العنفية القاسية، النفسية والبدنية، فإنه يجد بسرعة مقترحات مشاريع قوانين لتغطيتها وتشريعها، وإن رأت المخابرات الإسرائيلية أنها في حاجة إلى عقوبةٍ ما، أو أسلوبٍ معينٍ في التحقيق والتعذيب كالهز العنيف مثلاً، فإنها توعز إلى الهيئات التشريعية بالعمل على إباحته بموجب قرارات وتشريعات، وتطلب من المؤسسات التشريعية والإدارية المختلفة تهيئة الظروف لاستصدار قراراتٍ تبيح لضباط التحقيق وسلطة السجون اعتماد العزل مثلاً، وسيلةً مشروعة وقانونية لعقاب الأسرى والمعتقلين.

 

ولعل الجهات السياسية الإسرائيلية العليا، ممثلةً برئيس الحكومة ووزير الدفاع ووزير الأمن الداخلي ووزير العدل، والهيئات القضائية والقيادات الأمنية والعسكرية، الذين يشاركون ويساهمون في تشريع وإباحة التعذيب وأنواع العزل المختلفة في السجون والمعتقلات ضد الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين، شركاءٌ أساسيون في هذه الجريمة، وعليهم يقع العبء والمسؤولية الأكبر في التحقيق والمسائلة والعقاب، فهي التي تمهد الطريق أمام عناصر المخابرات، وتيسر عملهم، وتصبغ جرائمهم بالشرعية والقانون، وهي التي تمنح المخابرات الإسرائيلية القوة، وتعطيهم الفرصة لأن يتجرأوا على المعتقلين أكثر، معتمدين على القانون الذي يحميهم، والتشريعات التي تبيح جرائمهم، والتي تحول دون ملاحقتهم وإدانتهم.

 

ولذا فإن الخطوة الأولى في الانتصار للأسرى والمعتقلين، ومساندتهم وتأييد حقوقهم، لوقف هذه السياسة المعيبة والحد منها، ومحاسبة مرتكبيها ومعاقبة المسؤولين عنها والمشرعين لها، تتمثل في كشف أسماء المتورطين وفضحهم، والتقدم بشكاوى ضدهم أمام المحاكم الدولية ذات الاختصاص، لمحاكمتهم ومعاقبتهم، وملاحقتهم جميعاً بكل السبل القانونية الممكنة، ليوقفوا ممارساتهم، ولينالوا عقابهم، ويكونوا درساً لغيرهم، وعبرةً لسواهم، بأن القانون أبداً لن يغفر جريمتهم، ولن يتجاوز عن فعلتهم، وأن أنصار الحق العربي الفلسطيني سيواصلون نضالهم من أجل أسراهم، ولن يتوانوا عن نصرتهم، فهم الشامة التي تزين وجوهنا، وهم كلمة العز والفخار التي ترفع رؤوسنا، وتعلي جباهنا، وتسمو بنا وبحقنا إلى العلياء.

 

يتبع .....

 

بيروت


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . مصطفى يوسف اللداوي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2015/08/30



كتابة تعليق لموضوع : سياسة العزل إعدامٌ للنفس وإزهاقٌ للروح (1)
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net