صفحة الكاتب : ادريس هاني

عليّ والأخلاق السياسية بين دولة الفتنة وفتنة الدولة
ادريس هاني

   لا يقف نبوغ علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) عند حدّ. وفي الدّولة وفكرها تظهر ملامح تلك العبقرية الفريدة. ساس عليّ الدولة الإسلامية في أخطر الظروف. وسلك بها في أوعر المنعطفات. وترك تراثاً من الحكمة السياسية غطّى بقوة الفكرة وعمق الفلسفة على كل ما رزح به التاريخ الإسلامي وما قبله من الآداب السلطانية. في فكر عليّ توجد نظرية الدّولة والمعارضة. فهو جعل الحق فوق كل شيء. ثم هو من أوائل من أدرك أنّ الدّولة في حدّ ذاتها حقّ. وبأنّ زوال الدّولة هو من أنكر الفتن. ولقد تجاوز عليّ عن مواجهة العديد من وجوه الفتن. لكنّه لم يكن يتأخّر لحظة حينما تتهدّد الفتنة دولة المسلمين. لأنّه يدرك أنّ لا خطر من فتنة زوال الدّول. لقد كان الإمام عليّ في زمن ما قبل نشوء الدولة. وما قبل بروز المؤسسات بمعناها الحديث. لكن هذا لا يعني أن جوهر إشكالية الدولة لها امتداد في عمق التّاريخ. ولم يكن يومها من ضامن غير قوة الأخلاق السياسية وآداب السلطان والسلطنة.ولا تترك مدرسة عليّ في الأخلاق السياسية وآداب الحاكم ثغرة، وهي تخلو من فتوق وثلم سائر السياسة. ويكفي تأمّل عهده لمالك الأشتر، الذي يمثّل حالة فريدة من روائع الآداب السياسية وفنون الإدارة.وهي رسالة قائمة بذاتها. لا أدري ولا تدرون لم لم يتوّج بها كلّ عهد سياسي في السابق واللاّحق. ولعمري إنها تفوقت على كل فدلكات الفكر السياسي فيما قبل وفيما بعد.
لقد مزجت بين الفلسفة السياسية للحكم والأخلاق السياسية. ولم تغفل جانبا لم تطرقه بحكمة ناذرة الوجود. ولسنا هنا في وارد التفصيل أكثر في مفرداتها. لكننا ونحن نطوف حول المضامين الكبرى لهذا العهد السياسي، نتعرّف على الرسالة السياسية لعلي بن أبي طالب. وندرك حينئذ أنّ العصر لم يكن يكفي للانتقال إلى هذا الطور من النضج المعرفي والرّشد السياسي. وهنا تكمن واحدة من إشكاليات الدّين والسياسة. وهنا يقع العثار تلو العثار عند سائر النظار في هذه العلاقة. إنّ التّاريخ وحده ليس كفيلا بتحقيق التّطور السياسي. نعم هناك حقائق تاريخانية تفرض مسارا محدّدا لهذا التّطور. لكن هذا لا يلغي الطفرة. ويحدث في الّتّاريخ أن مجتمعات ما تشهد تجارب مميزة في المعقول العقلي فتحدث فيها النهضات وثورات الفكر والمعرفة. ثم في مرحلة الأخرى يفيض عليها مما قد يستفيده الجوار وما بعد الجوار. فالحضارة تبدأ من هنا. وكما قد تشهد أمة ما تجارب في المعقول العقلي تشهد أخرى نهضة في المعقول الدّيني. وكلّ هذا جدير بإحداث التحوّل الاجتماعي. وللدين قدرة فائقة على إحداث الطفرة الروحية والثقافية أكثر من أي عامل آخر إلى حدّ يبدو فيها خارقا لقوانين التّاريخ والاجتماع. الفكرة الحضارية كامنة في كل مواقف وأفكار عليّ بن أبي طالب. فقد كان العالم سيقتصد قرونا من التّخلف السياسي لو أنّه تأمّل عهد عليّ بن أبي طالب إلى عامله مالك الأشتر. ولقد كان وهو يصلح دائما أن يكون مرجحا للدستور والقوانين وعلم السياسة وأخلاقها. لقد رسم عليّ خطوط سياسته من خلال هذا العهد لعامله على مصر. وهو عهده لكلّ لمصر وغيرها؛ عهده لكلّ مصر. يقول:" هذا ما أمر به عبد الله علي أمير المؤمنين، مالك بن الحارث الأشتر في عهده إليه حين ولاه مصر: جبوة خراجها، وجهاد عدوّها، واستصلاح أهلها ، وعمارة بلادها" .
الخطوط العريضة لهذه السياسة تقوم عند عليّ بن أبي طالب على أربعة مقوّمات بها ينهض العمران البشري. الأولى التدبير الاقتصادي. وهو هنا يتمحور حول نمط التدبير المالي القائم على الجبايات بعدل. والثانية تتعلّق بالأمن الذي تستقرّ معه أحوال البلاد ومنعتها. والثالثة تتعلق بسياسة الإصلاح الاجتماعي الذي يتدبّر أمر النّاس في أحوالهم المعنوية والتربوية ، والرابعة تتعلّق بالتنمية والبناء والعمارة. وفي كل سياسة من هذه السياسات أو قطاع منها تتجلّى القضية المحورية في حركة عليّ السياسية والاجتماعية، ألا وهي إقرار العدالة. وقد جاء عهده إلى مالك الأشتر ليعطي تصوّرا عامّا عن سائر هذه القطاعات بشيء من التفصيل يساعد على فتح العقول على موارد في الفكر السياسي لا تكاد تنتهي. يحذّر عليّ عامله على مصر بأن يراعي انتظارات النّاس. فلا يرى نفسه هو أوّل من سيحلّ حاكما عليهم. بل لقد عرف النّاس حكاما قبله وهم ينتظرون منه برنامجا سياسيا جديدا. بل إنّ عليّا يرسي ثقافة سياسية للمعارضة حينما تستلم الحكم. فهو يذكّر عامله بأنّ الناس تنتظر منه وهو حاكم ما كان ينتظره هو من الحكام. ثم يذكّره بأنّ الرّأي العام لا يخطئ في نقده للحاكم. بل إن رضا الشعب على الحاكم معيار صلاح الحاكم. فلقد أجرى الله على ألسنة الجمهور ما يصلح حجة على صلاح الحاكم أو فساده. يقول عليّ بن أبي طالب:" ثم اعلم يا مالك ، أنّي قد وجّهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك، من عدل وجور. وأنّ النّاس ينظرون من أمورك في مثل ما كنت تنظر في من أمور الولاة قبلك، ويقولون فيك ما كنت تقول فيهم، وإنّما يستدل على الصالحين بما يجري الله لهم على ألسن عباده" . ويطالب عليّ بن أبي طالب عامله بأن يعفو ويصفح على الرعية. وهو شطر من توجيهه يؤسس لسياسة التّسامح. فقد تعرض للرعية العلل ويفرط بها منهم الزلل ويخطؤون عمدا أو خطأ. فاصفح عنهم " واعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحبّ أن يعطيك الله من عفوه". فلا يزال يذكّره بأنّك خلق مثلهم، إذ الإنسان" إما أخ لك في الدّين أو نظير لك في الخلق". فلا تكن إذن على الرّعية سبعا ضاريّا. وهذا لعمر أجمل ما يدبّر به العلاقة بين الحاكم والرعية.وجدير بالحاكم كما في عهده لمالك، أن تكون أحب الأمور إليه أوسطها في الحق وأعمها في العدل وأجمعها لرضا الرعية.فالاعتدال والعدل ورضا الشعب مطلب أساسي لقيام الحكم الرشيد. ويختلف نهج عليّ عن نهج معاوية وسائر الحكام، بخصوص الحاشية. ينصح عليّ عامله بأن يتشدّد في انتقاء حاشيته ومقربيه.ففي الحكومات يكثر هذا النوع من الوشاة والمتزلفين للسلطان على حساب أعراض النّاس. يقول عليّ:" وليكن أبعد رعيتك منك وأشنأهم عندك أطلبهم لمعائب الناس، فإنّ في الناس عيوبا، الوالي أحقّ من سترها(...)ولا تعجلنّ إلى تصديق ساع ، فإنّ السّاعي غاشّ، وإنّ تشبّه بالنّاصحين" . ليس الوشاة وحدهم بل كل من كان بخيلا يعدل بك عن الفضل ولا الجبان يضعف موقفك في سائر الأمور ولا الحريص الذي من شأنه أن يزيّن لك الشّره بالجور. فهؤلاء ينطوون على غرائز كلها فاسدة في السياسة كفسادها في الدين:" فإنّ البخل والجبن والحرص غرائز شتّى يجمعها سوء الظّن بالله" . لقد كانت الإمارات في البلدان في عهد علي بن أبي طالب أشبه ما تكون بفدراليات ذات حكم ذاتي موسّع. والعامل فيها مسؤول أمام الحاكم في الدولة المركزية. لكنّ صلاحياته واسعة جدّا. وعليّ هنا يوجّه عامله إلى أفضل سياسة لانتقاء حاشيته وبطانته ووزرائه. وهو يوجّهه إلى أن لا يضمّ في حكومته من كان وزير للحكومات الفاسدة التي سبقته. بل عليه أن يجدد الحكومة ويختار وجوها جديدة وصالحة.ولن يعدم المجتمع أكفاء في الرّأي والخبرة لكي يكون بديلا عن أولئك.فإنّ " شرّ وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيرا، ومن شركهم في الآثام، فلا يكزنن لك بطانة فإنهم أعوان الأثمة وإخوان الظلمة، وأنت واجد منهم خير الخلف ممن له مثل آرائهم ونفاذهم وليس عليه مثل آصارهم وأوزارهم وآثامهم ممن لم يعاون ظالما على ظلمه..." .
وتقوم سياسة عليّ على المنظور الشمولي لقطاعات الدّولة. فهو يؤكّد لعامله بأنّ الرعية طبقات يقوم بعضها ببعض. ولا غنى لبعضها عن بعض. وبأنّ لكل منها سهم يجب أن يصرف بعدل. لكن لا أحد منها يقوم لحاله. فالجنود يحتاجون إلى القضاة والعمال والكتاب " لما يحكمون من المعاقد ويجمعون من المنافع ويؤتمنون عليه من خواص الأمور وعوامها". وكذلك هؤلاء يحتاجون إلى التّجار وذوي الصنائع. ولا ينسى الطبقات السفلى من أهل الحاجة والمسكنة" الذين يحق رفدهم ومعونتهم". فهو يرى أنّ لهم حقّ يجب الوفاء به. وليس الرفد هنا والمعونة على غير العدل تجري، بل لا بدّ من ربطها بالحاجة. أي لكلّ حسب حاجته:" ولكل على الوالي حقّ بقدر ما يصلحه" . فعنوان دولة عليّ هي العدالة. بل ما أجمله وأقومه من تعبير ووصف حينما جعل العدالة بمثابة قرّة عين الولاة. حين قال:"وإنّ أفضل قرّة عين الولاة استقامة العدل في البلاد" .
وإذ يهتم عليّ بالجيش وبحاجته هذا القطاع إلى الإنفاق والخراج، فهو يتعهّد القضاء بالإصلاح. ولقد قدّم عليّ أروع نموذج في تاريخ العدالة. وإذا كان عنوان دولة عليّ هي العدالة ، فكيف يستقيم ذلك من دون إصلاح القضاء. ولقد أنصف عليّ بن أبي طالب من نفسه خصمه عند قاضيه مع أنّ الحكم كان ظالما في حقّ عليّ. إن القضاء هو محور السياسة العدلية. فهو يوجه عامله لأن يختار للقضاء " أفضل رعيتك في نفسك". ولا يكفي هذا، فلا بدّ من تعهّدهم وإصلاحهم. فلقد اهتدى عليّ في زمانه إلى أنّ الفساد يحيط بالقضاء. وأنّه من ثغراة القضاء هو ضعف التعهد لهم وتحسين معيشتهم للقضاء على الرشوة وأن يكون القضاء ذو منزلة رفيعة عند الحاكم. يقول علي بن أبي طالب:" ثم أكثر تعاهد قضائه، وافسح له في البذل ما يزيل علّته، وتقلّ معه حاجته إلى النّاس، وأعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك، ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك" . وأمّا سائر عماله بفلا بدّ من اختبارهم وعدم اختيارهم على أساس المحاباة. وأن يكون الاختيار على أساس الكفاءة:" وتوخّ منهم أهل التجربة والحياء". وأن ترفع أجورهم. فالإمام عليّ لم يكن يحبس المال بل كان يجود به على العمال. وهذا من أشدّ الأخطاء التي وقع فيها طه حسين ظانا بأن من أسباب تصاعد الفتنة انحباس العطاء في عهد عليّ. فها هو عليّ يوصي عماله بأن يرفعوا الأجور على العمال لإصلاحهم وكذا حتى لا يتورّطوا في نهب المال العام. يقول لمالك:" ثم أسبغ عليم الأرزاق ، فإنّ ذلك قوة لهم على استصلاح أنفسهم، وغني لهم عن تناول ما تحت أيديهم، وحجة عليهم إن خالفوا أمرك أو ثلموا أمانتك". ثم إنّ عليّا لم يترك الأمر للموعظة بالنسبة للعمال. فلقد فعّل جهاز الرقابة على أدائهم في تدبير القطاعات. وجعل هذا النوع من التّجسس أساسي لضبط إيقاع الإصلاح وعمارة البلاد. يقول:" وابعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم، فإن تعاهدك في السر لأمورهم حدوة لهم على استعمال الأمانة والرّفق بالرعية" . ثم إن سياسة عليّ تعطي الأولوية للتوازن بين استجلاب الخراج وعمارة الأرض.ولا بدّ أنّ تكون الغاية هي عمارة الأرض لا استجلاب الخراج. ثم هل يا ترى أدركنا الفارق بين دولة الفتنة ودولة العمارة والتنمية. لقد اهتم الأمويون بالفتوح من أجل الخراج. واهتم علي بالعمارة بدل الفتوح. هنا الحكاية تدور مدار سياسة الخراج. فالخراج بالنسبة لعليّ هو وسيلة لعمارة البلاد. والخراج يساعد الجيش على ردّ العدوان. ولم يكن الجيش وسيلة لجلب الخراج.يقول علي بن أبي طالب:"وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج، لأنّ ذلك لا يدرك إلا بالعمارة. ومن طلب الخراج بغير العمارة أخرب البلاد، وأهلك العباد، ولم يستقم أمره إلاّ قليلا" . إنّ عهد علي لمالك الأشتر دستور متكامل ، وبرنامجا سياسيا قلّ أن تجده في الديمقراطيات الحديثة. وهو يؤسّس دولة العدل ليس على منحى عدالة الفقر. بل على منحى عدالة الغنى. ولقد رفعت في العصر الحديث شعارات للتسوية بين الطبقات وتفقير المجتمع باسم الاشتراكيات، وكلها باءت بالفشل وخلقت عدالة مغشوشة وأوجدت ثقافة الحاجة والفقر والمسكنة.إنّ عهد عليّ لمالك الأشتر هو عنوان ثورة سياسية ودستورانية تجعلنا نؤكّد على أنّ ما بدى من عصر الفتنة كان له يد في بروز أرقى الأفكار والتصورات عن السياسة والعدالة والدين والمجتمع. ليس بعد هذا كلّه أن يتساءل المرء إن كان لعليّ ابن أبي طالب نظير يفري فريه العبقري، بل يبقى السؤال الأكبر: ماذا خسر المسلمون قبل العالم، بغفلتهم عن نهج عليّ، إن في الدّين أو في الدّنيا؟


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


ادريس هاني
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2015/09/02



كتابة تعليق لموضوع : عليّ والأخلاق السياسية بين دولة الفتنة وفتنة الدولة
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net