صفحة الكاتب : د . مصطفى يوسف اللداوي

حقيبة مسافر من غزة
د . مصطفى يوسف اللداوي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

مراحل السفر كثيرةٌ وعديدة، ومعقدةٌ وغير بسيطة، إنها لا تبدأ من ساعة الانطلاق، بل قبل أيامٍ استعداداً له وتجهيزاً لما يلزمه، فهذا أمرٌ طبيعي يصاحب كل مسافرٍ، أياً كانت بلاده أو وجهته، إذ يلزمه إعداد حقيبته، وتزيين صورته، وتحضير نفسه بما يلزمها استعداداً نفسياً وتوفيراً للمال، وتسجيلاً للعناوين والهواتف، واستقبال مودعيه ووداع محبيه، وغير ذلك مما يحتاجه أي مسافرٍ لتسهيل مهمته وضمان نجاحه في رحلته. 
آلية السفر عند غير الغزيين سهلة، فما إن يشتري المسافر تذكرته ويحدد رحلته حتى يكون قادراً على السفر، إلا من بعض الاستثناءات الأمنية العربية، التي تضع قوائم سوداء ممنوعة من السفر، أو تصدر قوائم ترقبٍ وانتظار على كل المعابر والحدود، تمهيداً للسجن والاعتقال، تنفيذاً لمذكراتٍ قضائية أو أوامر أمنية.
لكن السفر من قطاع غزة مختلفٌ كلياً، ولا يشبه أي سفرٍ من أي بقعةٍ أخرى في الكون، إذ يبدأ قبل السفر بأشهرٍ طويلة، عندما يقوم من قد نوى على السفر وعزم عليه، بتسجيل اسمه على قوائم الانتظار، في مركز أبي خضره في وسط مدينة غزة، وهو مركزٌ قديمٌ جداً، كان يتبع الإدارة المدنية الإسرائيلية قبل انسحاب جيشهم من القطاع، ولكنه وإن كان قد دمره العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة، إلا أنه بقي اسماً ومهمة، وعنواناً ورمزاً، حافظ الغزيون على اسمه، وبقي يذكرهم بمكاتب الإدارة المدنية الإسرائيلية للقطاع، التي كانت تقوم بمهامٍ مماثلة.
على من يرغب في السفر أن يحمل إلى جانب جواز سفره الساري المفعول بطاقته الشخصية، وأن يسدد رسوم السفر مسبقاً، التي لا يعفى منها قادرٌ أو محتاج، ولا فقيرٌ أو غني، التي تؤدى إلى السلطات المعنية في غزة، ويمنح بموجب الرسوم المسددة وصلاً يحمل موعد السفر، ويحدد باليوم والتاريخ الموعد الافتراضي للسفر في حال كان المعبر يفتح بصورة اعتيادية، ولا يوجد أيام إغلاقٍ طويلةٍ أو دائمة، إلا أن أحداً لا يسافر في الموعد المحدد له، بل قد ينتظر شهوراً حتى يأتي دوره، ذلك أن السلطات المصرية لا تفتح المعبر إلا أياماً معدوداتٍ كل شهرين أو ثلاثة، وفي الوقت الذي يتأخر فيه فتح المعبر، فإن أعداد المسجلين للسفر تزداد وتتضاعف.
السفر من قطاع غزة ليس نيةً وقصداً، وليس عزماً وهمة، وليس حريةً شخصية، ولا اختياراً حراً، وليس حقيبةً وجواز سفر، أو بعض ثيابٍ وقليلٍ من الأوراق والمستندات، وليس سيارة أجرة أو حافلة ركاب، أو تذكرةً وطائرة، كما أنه ليس حدوداً أو أختاماً، أو شرطةً وأمن عام، ومساراتٍ معدةً ومعابر مهيأة، ولا هو أسبقية في الحضور، أو أوليةً في السفر، أو أحقيةً في الدور والترتيب.
السفر من قطاع غزة شئٌ آخرٌ مختلفٌ تماماً، لا يشبه السفر، ولا يقارن بالرحلة، وليس له في الكون مثيل ولا شبيه، فهو مشقةٌ ومكابدة، ومصارعة ومجاهدة، وتعبٌ وجهدٌ ومهانة، وقطعةٌ من العذاب والألم، لا يقوى عليها عزيز، ولا يحتملها ذليل، ولا يقبل بها من ذاق المر وخبر الصعب، وعاش نكد الدنيا وبؤس الحياة، ولا يتمناها محبٌ لحبيبه، ولا عدوٌ لعدوه، ولا يلجأ إليه إلا محتاجٌ ومضطرٌ، ولا سبيل له غيره، ولا يوجد عنده خيارٌ بديلٌ، أو عوضٌ كريمٌ، ولا وسيلةً أخرى تحقق المطلوب وتفي بالغرض، وتغني عن ذل السؤال والحاجة.
السفر من قطاع غزة، أشبه بمرور جملٍ من خرم إبرة، وعلى كل الجمال أن تدخل من ذات الخرم، فهل كان الجمل يوماً يلج في سم الخياط، فلا هو يتضائل ويصغر، ولا خرم الإبرة يتضخم ويكبر، ولا يوجد في الكون عاقلٌ يتصور هذه الحالة أو يتخيلها، فهي ضربٌ من الخيال، وصورة من المستحيل غير الممكن، ولكن السلطات الحاكمة، المستبدة المتصرفة، المالكة القابضة على مفاتيح الحدود، القدرية في المكان والجغرافيا تؤمن بأن على الغزي أن يلج من سم الخياط ليعبر منه إلى العالم.
آمن الفلسطيني الغزاوي أنه جمل، وصدق رواية حراس الحدود وحملة المفاتيح، ولو كذبهم وجادلهم فإنه سيصبح تلاً من تلال غزة لا ينتقل ولا يتحرك، وقطعةً من الأرض لا تنزاح ولا تغير مكانها، فهذه هي فلسفة البواب وشروطه، وعليه أن يدخل من خرم الإبرة التي حددها له، في الساعة التي يريد، والزمان الذي يقرر، كما له الحق أن يعيد من شاء كيف شاء ومتى شاء، دون أن يبدي سبباً، أو يقدم للمنع علة.
على المسافر من قطاع غزة أن ينتظر الأشهر الطوال ويكابد حتى يلج حراً من بوابة رفح، أو يسير مرحلاً منها إلى مطار القاهرة، والحرُ والمرحل في المعاناة سواء، وفي المشقة إخوان، فلا الأول يستمتع بحريته ويمضي طليقاً، ولا الآخر يرتاح بالتسيير، ويلقي بأحماله على الشرطة والمرافقة الأمنية، فذاك يقضي ساعاتٍ طويلة وهو يشق الطريق ويجتاز المعابر ونقاط التفتيش والمراقبة، وذاك تتحكم فيه المرافقة الأمنية، فتسيره حيناً، وتوقفه أحايين كثيرة، وتمنعه من الاستراحة أو النزول لقضاء الحاجة، وكأنه سجينٌ أو هو السجين.
السفر لدى الغزيين مشروع العمر ومشوار الحياة، وهو حلم الشباب وأمل الشيوخ، ورجاء المرضى ودعاء الجرحى، وهو متنفس الناس جميعاً، ووسيلتهم للخروج إلى الدنيا في اتجاهاتها الأربعة، إنه حجٌ لمرةٍ واحدة، أو علاجٌ قبل الموت والعودة جثةً هامدة، أو بعثةٌ للدراسة وتلقي العلم والغياب لسنواتٍ حتى لا تتكرر المعاناة، وهو بوابة الزواج، ونقطة بداية مشروع المستقبل، فهو زوجةٌ وافدة، أو أخرى مسافرة، لتلحق بزوجها البعيد، الممنوع من العودة، أو المقيم عملاً أو دراسة في بلادٍ أخرى. 
وتبقى حقيبة السفر مفتوحة، على أمل أن تغلق يوماً ويحملها صاحبها مسافراً، ولكن قائمة العازمين على السفر في ازدياد، وأعداد العالقين تتضاعف، وما من مجيرٍ لغزة، ولا سامعٍ لشكواها، أو حزينٍ على ما أصابها، بل إن سم الخياط يضيق، وجمل غزة صابرٌ لا ييأس، ومحتسبٌ لا يقنط، ومترقبٌ يتأهب.
 
بيروت في 10/9/2015


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . مصطفى يوسف اللداوي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2015/09/10



كتابة تعليق لموضوع : حقيبة مسافر من غزة
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net