صفحة الكاتب : ادريس هاني

السوفسطائيون أو المقاصديون الجدد
ادريس هاني

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
    ليس الموقف من المقاصد اليوم قبولا أو رفضا هو مدار المشكلة في الفكر والفقه الإسلاميين..فالخشية اليوم من اختراق الرؤية ضدّ العقل إلى عالم المقاصد لتهريب النظرة المقاصدية المبنية على أسس عقلية كونية واضحة..في المغارب ارتقى الكثير بفكر المقاصد إلى مرتبة توحي بأنّنا بالفعل على مسافة عقلانية من الدين والشرع..في بيئة لا زالت تنتج المتطرفين الذين يتحدثّون بالمقاصد أكثر من الشّاطبي..ومثلما أنّ التطرف عندنا أصبح له عناوين عقلانية فكذلك الظلامية أصبحت تقدّم نفسها مقاصديا..كنت ولا زلت أتساءل: ما هو الشيء المتخلف الذي لا يبحث له هؤلاء عن مسوغات مقاصدية؟ هنا المفارقة..والمفارقة هي أحيانا تنمو وتترعرع داخل الفضاء الديمقراطي حيث تختزل الديمقراطية في الغوغائية..داخل البرلمان في بلادنا كثير من السكارجية والجهلة يتحدّثون عن أهمية المقاصد وبها يحاربون خصومهم..وانحط القول في المقاصد حتى أصبح نباحا صرفا فقد كل معاييره ومحتواها وماع حدّ القرف..وطبيعي أنهم لا يستعملون المقاصد في مواجهة نهب المال العام..أساسا المغالطة اكتشفت داخل البرلمان..منذ العهد اليوناني احترف السوفسطائيون الخطابة والمغالطة في تمرير أفكارهم والإقناع بها..هناك اكتشف علم المغالطة..والحقيقة أنّ البرلمان هو محك لدراسة ما هو الشكل المهيمن من جملة المغالطات التي أحصاها المناطقة..ويعتبر الحديث في المقاصد ب هذا الشكل الهجين ضرب من المغالطة التدليسية التي تسعى لتحييد العقل من تقييم آراء الكثير من المتخلّفين الذين وجدوا لهم طريقا في مقاصد مغشوشة..كان لا بدّ إيقاف هذا النزيف من السوفسطائية المقاصدية..المقاصد التي لا تنتج إصلاحا ولا مصلحة..كان لا بدّ من مساءلة الأسس ونقد الأصول التي يرتكز عليها هؤلاء المتخلّفون الذين يكفرون بالعقل، حيث جعلوا العقل مقابل النّص ومقابل الشرع بينما العقل هو من الشريعة بل هو مدارها وهو مدار علاقة النص بالواقع..فالنصوص أحناط من دون عقل وتعقيل..والعقل ليس فقط من مصادر التشريع بحسب الرتبة التي يوجد ضمن مصادر التشريع بل هو موجود في كلّ الأصول وفي كلّ المصادر..بل بموجب حديث العقل الذي هو أول ما خلق الله، تتحدد مركزية العقل في الفهم والتفهيم..وقلنا مرارا أنّ فقد العقل بمعناه المعنوي الأوسع الذي تتقوم به ماهية الإنسان هو عماد المسؤولية وروح الإنسانية بينما وإن غاب هذا العقل لظروف ما فلا يرفع المسؤولية..المسؤولية ترفع على المبتلى فاقد العقل الأداتي والبيولوجي..فالإسلام يرفع المسؤولية عن فاقد العقل الأداتي وليس عن فاقد العقل الروحي إن صح هذا التعبير وهو مدار ما يعرف بالعقل الشرعي..والسوفسطائية المقاصدية الجديدة لا تؤمن بمركزية العقل ولا حتى بوصفه من أصول التشريع ولا تعتبر العقل هاديا ومنقدا من الضلال على الرغم من أن رحلة الغزالي اعتمدت على التحليل العقلي وإن نفته في المستصفى..وهكذا مع إنكار التعليل ومركزية العقل وعدم القبول بالحسن والقبح العقليين والذاتيين ورفض العناوين الثانوية في التشريع، كل هذا يجعل المقاصد السوفسطائية غير جادة وغير منتجة بل هي ملحقة بالاستحسان..مع أنّ الاستحسان بمعناه الحنفي مرفوض عند سوفسطائيي المقاصد اليوم إلا أنهم يمارسون تحت عناوين شتّى. وهو هنا يتنزّل منزلة المزاج..وهذا المزاج قد يشترى بالبترودولار أو بالتحيز للسلطة أو الجنوح للإرهاب..ظهر بؤس مقاصد السوفسطائيين الجدد في مواقف سياسية واجتماعية كثيرة..في بلداننا وباسم المقاصد يختبئ كلّ وهّابي يكفر بالأصول والتعليل..والأمثل كثيرة ليس هاهنا مجال لحصرها..مساءلة الأسس هنا ضرورة..وفي هذا الإطار كانت معالجتنا للمقاصد وأيديولوجيتها..لم أكن في وارد مناقشة المقاصديين الذي منحو هذا الوسام من داخل التكرار الذي تفتعله الصحافة ودرارييها، بل ركزت الاهتمام على المأصلين للقول المقاصدي في الأيديولوجيا العربية..في المغرب كان لا بد من مساءلة الجابري لأنها جعل من مقاصد الشاطبي ركيزة أخرى في دعم مشروع العقلانية المغربية لقطع العلاقة مع الإشراقية الشرقية..وكذلك مساءلة طه عبد الرحمن الذي أرجع المقصد إلى الصلاح والإصلاح..بالغ الجبري حينما أراد أن يعيد توزيع الخريطة العقلية للمجال العربي..وسعى إلى ضرب من الجغرفة الساذجة للإيبستيمي..أعتقد أنّ المشروع لو قدّر له أن ترجم إلى غرض جيوسياسي لأحدث حربا أهلية..مع أنّنا أثبتنا بأنّ الشاطبي مدين للغزالي أكثر مما هو مدين لابن حزم أو ابن رشد الذي لم يجد طريقا لحلّ مشكلة العقلانية إلا بفصل الحكمة عن الشريعة وكان وراء هذا الفصام النكد الذي جعل الشريعة تنطق خارج العقل..الجوقة النحاسية المغربية التي اصطنعها الجابري وسماها العقلانية الرشدية هي جوقة متخيّلة تثير الشّفقة من النّاحية الإبستيمولوجية..لعل أهم ما يمكننا قوله هنا أنّ البنى لا تتموقع خالصة بمقتضى الجغرافيا..هذه نظرة متخلفة لوضعية وحركية البنى..وكأنّ المغرب لم يكن حاله في نظام المعرفة حال هذا الشرق .. ونسي أنّ القطيعة هي غربية وليست مغربية..مقاصد الجابري الأيديولوجية هي الجواب على المأزق الذي وضع فيه العروي السلفيات المغربية حين دعى إلى ضرب من القطيعة الكبرى..وسوف يضحي الجابري بالجغرافيا ليحل مشكلة تاريخية إبستيمية..سيضحي بابن سينا والغزالي وكل الشرق من أجل مجموعة فلسفية وفقهية مغربية كان هواها مشرقي..بتعبير عامي إن الجابري أراد على كيف كيفو أن يعيد صناعة التاريخ والجغرافية في هذه المنطقة..كان يواجه البنى كالصخر..لأنّ التعاطي مع البنى بهذه الطريقة تبسيط لا يراعي تعقيد البنى في واقعها حيث لا توجد بنى خالصة كما أراد لها أن تكون..فالعقل البرهاني والعقل البياني والعقل العرفاني لا يهيمن على الشخص الواحد والنص الواحد فكيف سيهيمن على تاريخ أمّة وجغرافيتها؟..فشل الجابري في ربط الشاطبي ومقاصده مع ابن حزم الذي يرفض القياس، بينما القياس هو العمدة في قيام مقاصد الشاطبي..كيف ستقوم مقاصد في بيئة تفصل بين الحكمة والشريعة..ترفض التحسين والتقبيح العقليين..الغالب عليها مقالات أهل الحديث..كيف تقوم مقاصد الشريعة وتكون لها وظيفة محورية بينما العقل هنا يقع على هامش الهامش؟ تناقضات...أما طه عبد الرحمن فإنه سعى لتوسيع المقاصد ظاهريا باستدخال عنصر الأخلاق، ولكنه كان يمارس لعبة الألفاظ..وهو كما فعل نظراؤه تحايل على مركزية العقل وهرب في الأخلاق..كما لو أنّ الأخلاق شأن آخر لا علاقة لها بالعقل..وهو هنا سقط في مصيدة التقسيم الجغرافي الجابري فقال بأخلاق مغربية وأخلاق مشرقية..التقسيم هنا وارد أيضا..والقطيعة أخطر..فضل التخلق المغربي على الشرق..في أسوأ مقاربة شوفينية لا تستقيم فيها هنا القسمة لا برسم العقل ولا برسم القلب..ينعى طه عبد الرحمن على الفقهاء أنهم ظنوا أن المقاصد تقوم على المصلحة بينما هي تقوم على الصلاح السلوكي..ونسي طه عبد الرحمن بل جهل أنّ من كبار الأصوليين من أمضوا الاعتبار في مقام التكليف للمصلحة السلوكية التي يتحقق بها الصلاح بمجرد الجري العملي كما ذهب الشيخ الأنصاري..في نهاية المطاف سيكون من مقاصد الشريعة عند الجابري الفصل التعسفي بين المشرق والمغرب..والأمر نفسه بالنسبة لطه عبد الرحمن..هذا من منطلق المعقول العقلي وذاك برسم المعقول القلبي..والحال، أنّهما لم يحدّدا ما معنى العقل وأبعداه ووظيفته..لقد مارسوا نوعا من التوزيع وإعادة الإخراج التخييلي لأزمة العقل العربي..أرادوا أن يحلوا المأزق فزادوا الأزمة أزمات تمس الصّواب العقلي والنّقلي.. إذا كانت المقاصد لم تنج من السوفسطائية التي مارسها الجابري وطه عبد الرحمن، فكيف سيكون وضع المقاصد إذا احتكر ادعاءها شيوخ لم يبلغوا تمكن هؤلاء المفكرين منها، شيوخ كنّا ولا زلنا نعرف أنّ فتواهم وآرائهم تقوم على المصالح الشخصية وليس على المصلحة النوعية للأمّة..أصبح واجبا إنقاذ المقاصد من قراصنتها الجدد..الذين يجهلون أصول الحكمة وأصول الشريعة معا .

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


ادريس هاني
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2015/09/11



كتابة تعليق لموضوع : السوفسطائيون أو المقاصديون الجدد
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net