صفحة الكاتب : حسن الهاشمي

فن التعامل مع الآخر (12) الغيبة وآثارها الوخيمة
حسن الهاشمي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ  وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ  وَاتَّقُوا اللَّهَ  إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ). (الحجرات 12).
كيف يسمح المغتابون لأنفسهم أن يأكلوا لحوم الناس وهم احياء؟! أيسرهم ذلك؟! ألا يستطيعون ان يتخلوا في موائدهم عن هذه الوصفة المذمومة؟! هل هذا صار الملح الذي بدونه يفقد الطعام لذته؟! ألم يعوا قول رسولنا الكريم (ص): (المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه) ام لم يفهموا معنى قوله (ص): (من حسن اسلام المرء تركه ما لا يعنيه) ألم يعلموا ان طهارة النفس تكون بانشغالها بخالقها وعبادته ومن ثم بكل ما هو طيب وحسن دون الاحقاد والحسد والفضول الذي يقتل صاحبه في يوم من الايام؟! هل هذه ابعد الحدود التي وصل اليها مستوى تفكيرهم المتدني وذلك بذكر مساوئ الخلق  وبقذف التهم على الغير كما تقذف البراكين النار من حممها المتفجرة غيضا وحنقا؟! ام اصبحوا كالسيول العارمة عندما تفيض بها شطآنها لتغرق كل شئ في طريقها دون تمييز! هل فقد أولئك قدرة التشخيص بين الشفافية في التعامل بين الناس والصدق ونبل المشاعر وبراءة الاحاديث حتى انحدروا الى ذنوب لا تغتفر؟! أم اوكلت اليهم مهمة محاسبة الناس والتدخل في شؤونهم لحين وفاتهم؟! الم يمروا ولو لمرة واحدة على تلك الاقوال: (طوبى لمن شغلته عيوبه عن عيوب الناس) و (من كان بيته من زجاج فلا يرمي الناس بالحجر) و (من كان راسه من شمع فلا يمشي تحت الشمس) ألم يعلموا ان  الاخلاق نعمة من الله لا يفطن الحاسد اليها؟! ام لم يفقهوا ان الدنيا لا تساوي شيئا وانها اصغر بكثير جدا من ان نضيعها في تفتيت لحوم البشر وما قال فلان وما نقلته فلانة؟! وان قلب الانسان ممكن ان يتوقف من النبض في أي لحظة وفي أي وقت، فلماذا نملؤه حنقا وغيضا ليعتصر بالحقد بدل الطهر...
الغيبة وهي أن يذكر المؤمن بعيب في غَيبته، سواء أكان بقصد الانتقاص أم لم يكن، وسواء أكان العيب في بدنه، أم في نسبه، أم في خلقه، أم في فعله، أم في قوله، أمِ في دينه، أم في دنياه، أم في غير ذلك، مما يكون عيباً مستوراً عن الناس، كما لا فرق بين أن يكون بالقول أم بالفعل الحاكي عن وجود العيب. 
وقد ذمّها الله عزَّ وجل في كتابه الكريم وصوّرها في صورة تقشعر منها النفوس والأبدان كما في الآية أعلاه، وكما في قوله (ص): (إياكم والغيبة فإن الغيبة أشد من الزنا، فإن الرجل قد يزني فيتوب إلى الله، فيتوب الله عليه، وصاحب الغيبة لا يغفر له حتى يغفر له صاحبه). ولا يحسن بالمؤمن أن يستمع إلى غيبة أخيه المؤمن، بل قد يظهر من الروايات عن النبي والأئمة عليهم أفضل الصلاة والسلام أنه: يجب على سامع الغيبة أن ينصر المغتاب ويرد عنه، وأنه إذا لم يردّ، خذله الله تعالى في الدنيا والآخرة، وأنه كان عليه كوزر من اغتاب. 
فاعلم أيها المسترسل في نهش لحوم الآخرين، إن مجالس البطالين التي تتحول إلى مآتم في نهاية المطاف ما هي إلا حطب جهنم يحتطبها المغتاب والسماعون له على ظهورهم وتستعر بهم نارا ذات لهب في يوم لا ينفع فيها معذرة ولا ندما، واعلم كذلك أن كرامة الآخر لا تقل عن كرامتك وحرمته لا تقل عن حرمتك وشخصيته لا تقل عن شخصيتك، ولكي تصون كرامتك عليك بصيانة كرامة الآخرين، فإن السمعة وماء الوجه أغلى ما يمتلكه الإنسان في هذه الحياة، فلا تريق ماء وجه الآخرين لكي لا يراق ماء وجهك، والدنيا فانية على كل حال، وإن فاتك جزاء التطاول على الآخرين والانتقاص منهم في  الحياة الدنيا لجاه أو لمنصب أو لعشيرة أو لمال، فإن الله تعالى لك بالمرصاد فإنه يريق ماء وجهك أمام الأشهاد يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، فتذكر ذلك اليوم وما يصاحبه من خزي وعار وخيبة واذلال قبل أن تقدم على أي عمل أو قول فيه منقصة وتطاول وسخرية للآخر النوعي الذي تكون حقوقه المعنوية والمادية محفوظة كما أن حقوقك محفوظة هي الأخرى، لا فرق بين إنسان وآخر إلا بالتقوى والعمل الصالح، وأنهما يهتفان بك وبغيرك: (ولا يغتب بعضكم بعضا).  
يا لها من قوانين رائعة فائقة، ويا لها من تشريعات جميلة زاهية، قد يقول قائل، كيف إنها رائعة وفيها من الغلظة والشدة والوعيد والتهديد لمن اقترفها ولم يلتزم بالردع والانزجار عنها؟! في معرض الاجابة عن هكذا تساؤل نقول إن جماليتها تكمن في قوة الردع فيها، فهي الضمان بتأديتها والالتزام بها، والمشرع يعلم إن "من أمن العقاب أساء الأدب" وما من حيلة للحفاظ على الألفة والمحبة والصداقة والمودة بين المؤمنين وكذلك الحفاظ على كرامة وعزة وشموخ وسؤدد المؤمن، إلا بهذه التشريعات الصارمة لكي يرتدع كل من تسول له نفسه عن ارتكابها أو التفكير حتى  باقترافها. 
علاوة على كل ما ذكر من عقوبات فإن لمثل هكذا ذنوب لها آثار وضعية دنيوية لمن اقترفها من باب "من طرق باب الناس طرقت بابه" فتبقى سمعة المتهتك بسمعة وأعراض الآخرين في مهب الرياح، ولا يزال يعيش محتقرا بين أقرانه لا شخصية ولا كرامة ولا عزة لديه في أوساطهم، صحيح إنهم قد يستمعون إليه ويجعلون أحاديث التهتك فاكهة لهم في مجالسهم الخاوية! بيد أنهم لا يحترمون شخصه ولا يكنون له أي اعتبار، لأنهم يعلمون أكثر من غيرهم، إن المتهتك للآخرين يقوم بنهش لحومهم أيضا بغيابهم! ومثل هكذا أشخاص يفقدون الثقة حتى من أقرب المقربين إليهم، خلافا للمؤمن الملتزم
 بالحفاظ على كرامة الآخرين فهو لا يذكرهم إلا بخير، وإذا ما اغتيب أحد منهم أمامه يقوم بزجرهم أو الخروج من تلك المجالس إن لم ينفع النصح والزجر والإكراه.      
من المعلوم ان أغلى شيء في الوجود هو الإنسان، ولذلك خلق الله تعالى كل المخلوقات لأجله، وخلقه لأجل العبادة والامتثال لأوامره تعالى لما فيها عزة وشموخ الانسان، ولا يمكن الحفاظ على الكرامة الانسانية، ولا يمكن التستر على حرمته التي هي أعظم حتى من حرمة الكعبة المشرفة، إلا بالتحريم والغلظة لكل من تسول له نفسه بالتطاول على الآخرين غيبة ونميمة وبهتانا وتطاول قد يخدش تلك الحرمة وينتهك تلك الكرامة العزيزة على الله تعالى ورسوله والمؤمنون، ولهذا فإن هذا التحريم له من الحكم والدوافع النبيلة التي تعزز بشكل أو بآخر العيش بثقة عالية متبادلة  بين الأفراد ما يؤدي إلى تماسك المجتمع الإنساني على أساس المحبة والاحترام وحفظ الحقوق، ويمكن الاشارة إلى بعض تلك الحِكَم بالنقاط التالية:
1- بما أنَّ الإنسان مخلوق اجتماعي، فالمجتمع البشري الذي يعيش فيه له حرمة يجب أن لا تقل عن حرمته الشخصية، وطهارة كل منهما تساعد في طهارة الآخر، وقبح كل منهما يسري إلى صاحبه، وبموجب هذا المبدأ كافح الإسلام بشدة كل عمل ينشر السموم في المجتمع أو يدفعه نحو الهاوية والانحطاط، لذا أوجب الإسلام ستر العيوب، والسبب في ذلك هو الحيلولة دون انتشار الذنوب في المجتمع، واكتسابها طابع العمومية والشمول.
2- إنَّ رأس مال الإنسان المهم في حياته ماء وجهه وحيثيته، وأي شيء يهدده فكأنما يهدد حياته بالخطر، إنَّ واحدة من حِكَم تحريم الغيبة أن لا يتعرض هذا الاعتبار العظيم للأشخاص ورأس المال آنف الذكر لخطر التمزق والتلوث، وأن لا تهتك حرمة الأشخاص ولا تلوّث حيثياتهم، وهذا مطلب مهم تلقاه الإسلام باهتمام بالغ.
3- الغيبة والنميمة تولد النظرة السيئة وتضعف العلائق الاجتماعية وتوهنها وتتلف رأس مال الاعتماد وتزلزل قواعد التعاون الاجتماعي، ونعرف أنَّ الإسلام أولى أهمية بالغة من أجل الوحدة والانسجام والتضامن بين أفراد المجتمع، فكل أمر يقوي هذه الوحدة فهو محل قبول الإسلام وتقديره، وما يؤدي إلى الاخلال بالأواصر الاجتماعية فهو مرفوض، والاغتياب والبهتان والنميمة هو أحد عوامل الوهن والضعف.
4- ثم بعد هذا كله فإنَّ الاغتياب وصاحبيه ينثرون في القلوب بذور الحقد والعداوة وربما أدّى أحياناً إلى الفتنة والاقتتال وسفك الدماء.
5ـ أهم ركيزة في العلاقات الاجتماعية هي الثقة المتبادلة بين الإخوان، فالغيبة والنميمة والبهتان والتعرض لكرامة الآخرين تقوض بنيان الثقة من الأساس وتجعله كالعهن المنفوش، فالحرمة والغلظة في عقاب المنتهكين لحقوق الإخوان إنما هو لصيانة الثقة وليس للتشفي والانتقام.
6ـ ان من دوافع الغيبة هو الانتقاص والاستخفاف من الآخرين ولاسيما الضعفاء الذين لا حيلة لهم ولا بيان، إما لحقد أو لحسد أو لتلطيف الأجواء ولكن على حساب كرامة الآخر النوعي، وهذا الانتقاص قد يكون موجها لولي من أولياء الله تعالى، لذلك حذرنا المشرع من الاستهزاء بالآخرين لكي لا يصاب المستهزئ بغضب الله وانتقامه في الدنيا قبل الآخرة.
7ـ الاسلام دين العدل والمساواة فحيثية المسلم محفوظة بغض النظر عن جنسه ولونه وعشيرته وقومه، وهذه الاعتبارات ليس لها أثر في مسألة الجزاء اثباتا ونفيا، فحرمة الغيبة تشمل الحاكم والمحكوم على حد سواء، فالتفاضل بالقيم لا بانتقائية الجزاء والعقوبة.
8ـ لعل من أهم الدواعي في حرمة الغيبة هي الحفاظ على كرامة وقيمومة وخلافة الانسان في الأرض، ليبقى هو السيد الذي سخر الله تعالى له كل الموجودات ليرتقي سلم الكمال دون منغصات تمهيدا لملاقاة الله تعالى بقلب سليم لا رين عليه ولا غشاوة تحجبه عن لقاء الحبيب.    
المجتمعات الغربية بالرغم من أن الفلسفة السائدة فيها هي فلسفة مادية لكنها وضعت قوانين تحفظ حقوق الناس في بعديها المادي والمعنوي، فكما أن الانسان لا يستطيع أن يعتدي على مال الآخر لأنه سيكون تحت طائلة القانون، كذلك فإنه لا يستطيع أن يعتدي على سمعة الآخر لأنه سوف يكون تحت طائلة القانون أيضاً، ولذلك عندما ترفع دعوى على شخص ما، ويثبت بعدها أن الحق معه، فإنه يقوم برفع دعوى يطالب فيها بالتعويض وإعادة الاعتبار عن الأذى المعنوي الذي تعرض له.
تؤكد تعاليم الإسلام على هذا الجانب بصورة كبيرة، فاحترام أموال الناس وممتلكاتهم وأعراضهم وسمعتهم على حد سواء، تقول الآية الكريمة ﴿ولا يغتب بعضكم بعضا﴾ نهي صريح عن الاعتداء على شخصية الآخر بالتحدث عنه بما يسوء إليه ويشوه سمعته وهو ما يسمى بالغيبة.
أنت تستطيع أن تأمن جانب الحيوان المفترس وأن تكسب ألفته باللين والمحبة، وإن أخفقت وغضب الوحش عليك فهو لا يمزق منك غير جسدك، أما غالبية الناس فيحسبون اللين والمحبة منك ضعفا، وقد يتحاشون إلحاق أقل ضرر بجسدك الفاني خوفا من قوانين سنّوها، في حين يستحلون جعل روحك الأبدي مشاعا للشارد والوارد، ولا قانون يصدهم ولا محكمة! هكذا نحن في المجتمعات الاسلامية التي لا وجود لمحكمة الروح فيها مثلما محكمة الجسم والجسد، ربما لكثرة المشاكل والمصاعب والمتاعب التي تواجه المسلم في مجتمعاتنا، فإن المحاكم مشغولة في فك الاختناقات الجسدية ولم تصل  النوبة بعد لفك الاختناقات الروحية، وإذا ما أحجم الفرد عن ارتكاب الذنب الروحي، فهو الايمان والاعتقاد بالحساب العسير في الآخرة والأولى هو الذي يردع من ارتدع وليست المحاكم التي مهما بلغت من الدقة فإنها لن تصل إلى دقة محاكم الضمير التي تحصي وتراقب كل شاردة وواردة، وطالما تكون منقادة إلى بارئها وهي تعلم علم اليقين أن الناقد بصير بصير.
ومادام المجتمع لم يلتزم بأوامر الشرع من حرمة الغيبة والنهش في لحوم الآخرين فهو في عيشة ليست براضية ولا مرضية، بل أنها عيشة ملئها السأم والحقد والحسد والعدوان، وبما أن الغيبة أن تقول في أخيك ما ستره الله تعالى عليه، فإنها عبارة عن نشر غسيل الأشخاص على الأشهاد دون وازع من دين ولا ضمير، والذي يؤدي هذا الدور الخطير في المجتمع إنما هدفه الفضح والاساءة والاستهزاء بحقوق الآخرين وإلا إذا كان مخلصا في نواياه لذهب إلى صاحب الشأن ونصحه على انفراد من دون فضحه واراقة ماء وجهه أمام نظرائه من الخلق، فالله تعالى الخالق المتعال هو الساتر  الغفار لعباده المسيئين يقبل التوب ويتغاضى عن الذنب ويحفظ ماء الوجه برحمته ولطفه بالعباد، فكيف بالعبد المتهتك تسول له نفسه باللعب واللهو في سمعة وكرامة الآخر النوعي من دون رادع يكفه عن ارتكاب عمله الشنيع هذا؟! ولكي ينتشل الله تعالى سمعة المجتمع الإنساني من الحضيض إلى الرفعة والتسامي والكمال قام بالحفاظ على سمعة اللبنات في ذلك المجتمع لكي يكون البناء صحيحا قائما على أسس قوية ومتينة لا تزعزعه العواصف ولا تنال منه السيول ولا حتى الزلازل والصواعق والنوازل، ولا يكون البناء شامخا إلا بعد استئصال الأملاح والمواد الضارة منه وكذلك  المجتمع الآمن لا يمكن الحفاظ عليه إلا بعد استئصال أولئك الذين يقومون بتهديم كل ما من شأنه أن يقيم أود المجتمع وسلامته من كل عيب وشين، والذين قال الله تعالى عنهم: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ). (النور، 19).
ما هو واجب المؤمن عندما يحضر مجلساً يسمع فيه غيبة للآخرين؟ هناك مجالس ديدنها غيبة الآخرين، كأن شغلهم الشاغل تتبع عثرات الغير، ومع الأسف أنك تجد مثل هذا الأمر في الكثير من الأوساط وذلك بسبب اختلافاتهم في الرأي، أو تضارب مصالحهم، فيقوم البعض بذكر معايب الآخرين وكأنما غاب عن بالهم أن هذا الأمر من أعظم المحرمات!.
بعض المتدينين يرى في نفسه زهواً لأنه لا يشرب الخمر، ولا يزني، ولا يمارس أياً من الكبائر، وعندما يرى أو يسمع عن غيره أنه ابتلى بمثل هذه المعاصي، يحمد الله أن نجّاه منها، ولكنه يذكر مساوئ الآخرين ويشبعُ غيبة لهم، وما كأن هذا الأمر من الكبائر، وأنه لا يقل عن الذنوب الأخرى، بل كما يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله): "الغيبة أشد من الزنا".
لعل الغلظة في توصيف الغيبة في الآيات والأحاديث الشريفة تأتي من أن الله تعالى يغفر للزاني مثلا إذا ما قرر التوبة والندم على ما اقترفه من ذنب قبيح بينه وبين ربه، أما الغيبة فالله تعالى لا يغفر لصاحبها حتى يرضي المستغاب الذي وقع عليه الهتك والخرم والانتقاص، فالغلظة في عقوبة الغيبة ناتجة عن غلظة المجني عليه الذي ربما لا يغفر لمن قام بنهش لحمه أمام الآخرين وهي مصيبة تنزل على المستغيب لا يمكن تداركها إلا بالتراضي وابراء الذمة من صاحب الحق، بخلاف التجري على الخالق وارتكاب بعض الذنوب كالزنا فأنه وبمجرد التوبة الصادقة فأن الله تعالى
 يغفر الذنب ويقبل التوب ويستر على العبد مادامت توبته نابعة من صميم قلبه وما دام هو نادم على ما اقترف من انتهاك صارخ لحدود الشريعة الغراء، فشدة العقوبة في حقوق الناس ناتجة عن قساوة الانسان ربما لضعفه واحتياجه وكثرة ما احتطب من ذنوب على ظهره وكاهله، أما تخفيف العقوبة أو الصفح عنها فيما يتعلق بحقوق الله تعالى ناتجة عن رأفة الله بالعباد وهو الغني عن عباده الذي لا يضره مثقال ذرة لمن عصاه ولا ينفعه مثقال ذرة لمن أطاعه، وإنما مردود المعصية والطاعة ترجع للإنسان نفسه تبعا لما صدر منه من قول وعمل سلبا وايجابا.   
إذا حضرت مجلساً كهذا فما هو واجبك؟ قد تكون منزهاً عن ممارسة الغيبة، ولكنك الآن تعرضت لاستماع الغيبة من الغير، فما يكون موقفك؟ الفقهاء يؤكدون أن استماع الغيبة إثم كقولها، إذا استمعت إلى من يستغيب شخصاً ما، وسكت على ذلك، ولم تدافع عن أخيك المؤمن، كنت شريكاً في هذه الغيبة.
ولذا يتوجب عليك أن ترد الغيبة، وأن لا تقبل بها، البعض يتعذر بالحياء، وهو عذر غير مقبول، إذا دعيت إلى شرب كأس من الخمر، فهل يكون الحياء مبرراً لك لشربه؟ وإذا ما رأيت من يأكل لحم ميت ودعاك لمشاركته، فهل يكون الحياء مبرراً لك لتشاركه، أو تسكت عنه؟ البعض إذا نهيته عن ذكر الآخرين بسوء، ودفعت الغيبة التي يلهج بها، يقول لك: إن ما أقوله صحيح! وهذا ليس مبرراً للغيبة، فالغيبة ذكر الشخص بما هو فيه، في ظهر الغيب، جاء في الحديث عن رسول الله  أنه قال: "من نصر أخاه بظهر الغيب نصره الله في الدنيا والآخرة". (ميزان الحكمة، ج7، ص353 ) وعنه قال: "إذا وُقع في الرجل وأنت في ملأ فكن للرجل ناصراً وللقوم زاجراً وقم عنهم" (كنز العمال، ج3، ص586 ) . فلا ترض لنفسك أن تجلس في مجلس الغيبة، لأنه مجلس منكر.
حكى لي بعض الأصدقاء أنه كان قبل أيام في مجلس أحد العلماء الأجلاء، فتحدث أحد الحاضرين عن عالم من العلماء بسوء، فغضب ذلك العالم، ونهره عن مثل هذا الحديث، وقال له: إذا كنت تتحمل عقاب مثل هذا الأمر فأنت حر، لكنا لا نتحمل ذلك، فلا تعد إلى مثل هذا الأمر في مجلسنا، وهذا هو الموقف الصحيح.
قد تبدو غريبا وثقيلا حينما تواجه المغتاب بنصيحة أو عبسة وجه أو اعراض ومقاطعة وتفهيم بأنك منزعج إزاء ما بدر منه من نهش في لحوم الغير، وقد يشاطرون الجلساء مغتابهم الموقف ما داموا على شاكلته حيث يعتبرونه فكاهيا يروّح عنهم مشاغل الدنيا وهمومها، وإنما النهش هذا عادة ما يكون فاكهة لذيذة لمجالسهم وسهراتهم وموائدهم المستديرة التي طالما ألفوها ويألفوها بالضحك والسمر والمخادنة والمجاملة والمداهنة، ولكن الحق أولى أن يتبع، وإن كانت مقدماته مرة فإن نتائجه حلوة، وإذا ما جوبه المعترض بالاشمئزاز وربما الاتهام بالتعقيد، فإن المآل والمفاز
 له لا محالة لا للمغتاب والمساير له، فالعاقبة تكون لأهل التقوى وليس لأهل الهوى، وسيعلم الجميع أن المعترض على غيبة (سين) من الناس فإنه وبنفس الدافع سيعترض عن غيبتهم في قادم الأيام، ما سيجعل منه إنسانا مهابا محترما موردا للثقة وموطنا للدعة، بخلاف المغتاب والسماعون له فإنهم وبمرور الزمن تتقاذفهم الأهواء، وتركم بهم الأيام تافهين لا يُستبدلون حتى بقطمير.      
فالله تعالى وبرحمته الواسعة وجميل لطفه بالعباد قد يتجاوز عن التائب ويغفر خطيئته ويقبل زلته، وهو الذي سبقت رحمته غضبه، يُقبل نحو العبد أميالا إذا ما أقبل العبد نحوه أمتارا، التعدي على حقوق الله تعالى يمكن تداركها بالتوبة والانابة والاستغفار، ولكن الله تعالى لا يقبل من تعدى على حقوق الغير إلا بالتراضي فيما بين العباد، ولا فسحة أمام الانسان لتدارك الأمر إلا في هذه الدنيا الفانية والزائلة، وكما ورد في الحديث الشريف: "اليوم عمل ولا حساب وغدا حساب ولا عمل" فليبادر المسيء حيال الآخرين بغيبة أو نميمة أو تهمة أو بهتان أن يصفي حساباته  معهم في هذه الدنيا قبل فوات الأوان، وقبل مجيء قطار الموت ساحقا كل الأمنيات والتسويفات تحت حوافره، ولات حين مندم، ربما ينتاب المغتاب نوعا من الخجل ويتأرجح بين ابراء الذمة من المستغاب من عدمها، وليعلم أن الخجل في الدنيا أهون من الخجل في الآخرة، لإمكانية اصلاح الأمور في الدنيا وعدم امكانية اصلاحها في الآخرة، فالدنيا فرصة فعليك اقتناصها ولا تجعلها غصة. 
فالغيبة من العوامل التي تساعد على تفكك المجتمع وتفتك به كما تفتك النار بالحطب, بل هي من ادهى العوامل في خراب الامة، ونرى في زماننا هذا انتشار الغيبة والنميمة بشكل مخيف يستوي فيهما الكبير والصغير ذكرا كان ام انثي، وتمتلي بهما مجالسنا ونوادينا ودوائرنا ولا شك ان الغيبة والنميمة من العوامل المهمة في تدمير العلاقات الاجتماعية، وفي هدم البيوت وفي جفاء الاقارب لبعضهم اذا انتشرت فيهم هاتان الحالتان ولم يقوموا ببترهما والقضاء عليهما فورا. 
فكم من اسر تفرقت بسبب الغيبة والنميمة وخاصة نميمة النساء، ويجب ان نعلم ان الغيبة والنميمة من كبائر الذنوب، ومن الامور التي يري عقابهما في الدنيا قبل عذاب الاخرة، والغيبة من اقبح القبائح واكثرها انتشارا في الناس ولم يسلم منها الا القليل من الناس، لذا يجب علينا جميعا ان نحارب هذه الظاهرة, وان لا يتكلم الانسان الا بما تظهر فيه المصلحة وبما هو مباح، وان يفكر قبل ان تخرج منه كلمة قد يكون فيها ضرر عليه سواء في معاشه او مماته.
إن علاج الغيبة يكمن في أمرين، تجنب العاقبة الوخيمة والعمل، أما التجنب يكمن في أن يفكر الإنسان في الآثار الخطيرة الناجمة عن هذه الكبيرة ويفكر في عملية مضاعفة السيئات ومحو الحسنات ويعرضها على العقل فيختار ما فيه صلاح ومنفعة له، أما من ناحية العمل فيجب على الفرد أن يروض نفسه بكفها عن هذه المعصية ولجم اللسان والمراقبة الدائمة للنفس ومعاهدتها بعدم اقتراف هذه الخطيئة، وبعد فترة يجد نفسه تنفر منها وتنزجر عنها بحسب طبيعته وما يروض بها نفسه من عمل، ومن ناحية أخرى فالعاقل هو من يفكر وينشغل بعيوبه عن عيوب الآخرين فقد قال النبي( ص): "طوبى  لمن شغله عيبه عن عيوب الآخرين". (المحجة البيضاء: ج 5 ص 254 ).
وقال الشاعر:
وعينـك إن أبـدت إليـك معـايـبـا*** فقـل يـا عيـن لـلنـاس أعـيـن  لسانـك لا تـذكر بـه عـورة امـرء*** فكلـك عـورات ولـلنـاس ألسـن إن من أراد أن يطهر نفسه أولا وصحيفته ثانيا فلا بد من أن يراقب لسانه، لأنه كما قال المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم: "وهل يكب الناس على وجوههم في نار جهنم إلا حصائد ألسنتهم" ( الكافي للكليني: ج2 ص115) ذووا الألباب والذين يرجون لقاء الله تعالى مدعوّن إلى أن يتبصروا في عقوبة هذا الذنب ونتائجه الوخيمة التي يتركها على الفرد والمجتمع.

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


حسن الهاشمي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2015/10/14



كتابة تعليق لموضوع : فن التعامل مع الآخر (12) الغيبة وآثارها الوخيمة
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net