صفحة الكاتب : ايليا امامي

لماذا عاشوراء .. ربيع التوحيد
ايليا امامي

((Un monde athée)) هذه كلمة فرنسية معناها (( ملحد العالم )) وتلفظ بالفرنسية هكذا (( أموندتي ))
كان أموندتي إسم المستخدم User في الأنترنيت لأحد أصدقائي من فرنسا وهو طيار في سلاح الجو الفرنسي وشارك في الكثير من العمليات ومنها حرب العراق في العام 2003
صديقي هذا كان ملحداً كما يظهر من إسمه .. وشديد الدفاع عن الإلحاد . وكان بحكم ذهابه في مهمات عسكرية عديدة لسنوات طويله الى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا قد طور قدرته على التحدث بالعربيه ولو بشكل ركيك .
كانت تجمعنا مع إخوة آخرين نقاشات ومساجلات تستمر لفترة طويله .. إنتهى معها صديقي أموندتي الى الإعتراف بوجود إله خالق مدبر لهذا الكون .. وذلك بطريق الحوار العقلي والبرهان المنطقي .. الذي تبين أن أبسط وأقدم طرقه التي درسناها في الحوزة العلمية في الباب الحادي عشر وغيره .. تعتبر بالنسبة لهؤلاء شيئاً متقدماً _ بشرط إتقان صياغتها _ وقد ساعد بعض الأحبة في ذلك .. وهكذا إنتهى الفصل الأول .
@ ولكن صاحبي رفض بالمطلق الإعتراف بوجود الأديان .. وكان يردد تلك العبارة ( الله خلق البشر، والبشر خلقوا الدين )
كانت مشكلة صديقي الأساسية في هذه المرحلة ليست الحاجة للدليل العلمي فكلما كنت أقدم له دليلاً على ضرورة وجود الدين في منظومة الحياة والأنسان وأنه لايمكن أن تسير البشرية بدون إيديولوجية معينه .. والحديث عن إستلزام العبث من الخلقة ان لم نفترض الدين أمر فطري .. كان رده المتكرر إننا إذا قلنا بأن الدين من الله فإننا نتهمه بكل هذه الجرائم والمشاكل التي بين الأديان .. انما الاديان امر اخترعه البشر ليبرر حقدهم وجشعهم تحت مسمى ان الله يريد ذلك .

عرفت أن هذه الردود تنطوي على نفور نفسي .. وكان أموندتي بسبب ما رآه من قسوة الحروب ودمارها يعتبر أن التقاتل بدوافع إيديولوجية بين البشر ان كان بسبب الأديان فإما ان يكون الله شريكاً فيه أو أن ننزهه من اختراع الأديان .

@ عندها سلكت معه طريقاً آخر .. وهو طريق ( التضميد والطبابة النفسية ) وكان محوره الاساسي ( الرحمة من الله لأخطائنا .. والسعي منا لمحبته )
بدأت أحدثه عن الدين بمعناه الأنساني الذي يعود للتوحيد الخالص للرحمن الرحيم .. المنزه عن التفسيرات المغلوطة والقراءات الملتوية .

كلمته عن مدى رحمته ولطفه .. عن ذلك الشخص الذي يأمر به الى النار فيلتفت وينظر الى جهة الحساب فيقال له لماذا تلتفت فيقول ليس هذا ظني برحمتك .. فيغفر له .

حدثته عن القصة المؤثرة لتلك الأم التي قتلها ولدها واستخرج قلبها ليقدمه هدية لحبيبته وعند نزوله من الجبل تعثر فناداه قلب الأم ولدي هل تأذيت .. وأن الله تعالى يقول : أنا أرحم بعبدي من الأم بولدها .

شرحت له بعض مضامين دعاء كميل ( ماهكذا الظن بك ولا أخبرنا بفضلك عنك ) و ( هيهات أنت أكرم من أن تضيع من ربيته أو تشرد من آويته )
ودعاء الإفتتاح ( فلم أر مولاً كريماً أصبر على عبد لئيم منك علي يارب )
ودعاء أبي حمزة الثمالي ( الحمد لله الذي تحبب الي وهو غني عني )

كنت أضرب على هذا الوتر طيلة حديثي .. أن هذه النصوص الدينية لاتعكس ديناً ارهابياً متعطشاً للدم والدمار .
وانها لا تعلم الانسان على النفاق في التعامل اعتماداً على رحمة الله .. بل تؤدبه على ان يجعل من حب الله والاستحياء منه منهجاً لحياته .. وكأن الله تعالى يريدك صديقاً له _ بمسامحة التعبير _ ولذلك فهو ( الرفيق الاعلى )
فإذا كان بعضهم يستغل هذه المعاني استغلال سيئ فما ذنب الدين ؟!

@ وكان ما ابذله من جهود أشبه بصعقات كهربائية ولكنها لك تكن تؤثر فيه .. فبالنسبة إليه هذه الكلمات إذا ما قورنت بالواقع نوع من ( الفنتازيا ) التي لا واقعية لها ..
فكنت بحاجة الى قدوة وملهم يثبت لنا ان من الممكن تطبيق الدين والرحمة الألهية على الارض لنتحقق من وجود هكذا دين ولو بأن يطبقه شخص واحد يتعامل بأيديولوجية غير منافقه .
هذا يذكرني بحال بعض الشباب الذي يعاني من استعداء لا أرادي للدين وعدم تقبله بسبب تغذية العقل الباطن بأنه لايوجد احد يمكنه فعلاً تطبيق الدين وما نعيشه ليس اكثر من مسرحية كبيرة يخدع فيها الناس بعضهم بعضاً .

كنت أقول له بما أنك فرنسي فليس من الأنصاف أن تقرأ في تراثك الجانب السلبي الذي رسمه فكتور هوجو في رواية البؤساء وتفترض أن ما يقابله من الخير لايخلو من النفاق والدجل .

وفي كل الاحوال لم يكن هناك أي تأثير لهذا الكلام على الرجل أموندتي .. ففي مقابل ماشاهده من بشاعه .. لم يعرف شيئاً عن التضحية الصادقة التي يمكن أن نسميها ( دين )

@ وأخيراً : تكلمت عن الحسين عليه السلام .. وما يقوله في دعاء عرفه
قلت له إن الحسين اعطى درسين في التوحيد
درس نظري في يوم التاسع من شهر ذي الحجة .. ولو بقينا نحن وهذا الدرس لأمكن القول انه مجرد فنتازيا
ولكن بعد شهر واحد _ هكذا يصادف _ اعطانا درسا اخر عملياً في يوم عاشوراء .. اثبت فيه ان هناك حقيقة اسمها الدين تستحق ان نلتزم بها وليس مجرد اختراع نصل من خلاله الى غاياتنا المصلحية .
وتناولت الحديث من جانبين :
جانب القسوة الشديدة التي لاقاها من اعدائه ومدى توحشهم وغلظتهم في ارتكاب الجرائم المروعة بحق أهل بيته وعياله الذين لم يألفوا مثل هذه القسوة وهم أبناء بيوت العز والستر مما زاد الألم واللوعة فيهم .

وجانب صبره عليه السلام وتهلل وجهه وإستبشاره كلما فقد غصناً من أغصان الشجرة النبوية .

استرسلت في الحديث عن محور واحد وهو .. كيف يمكن لشخص تجري عليه كل هذه المصائب والآلام .. التي لايطيق الخيال تصورها .. كيف له أن يواجهها بكل هذا الصبر وثبات الجنان .. وعندما كان طريحاً في آخر لحظاته ..
متوزع الحال بين سهم شق قلبه الى نصفين ..
وعطش أفقده القدرة على النظر حتى حال بينه وبين السماء كالدخان
 وعيال تركهم في تلك البيداء بين عسلان الفلوات ووحوش الأرض ..
وصحب مجزرين كالأضاحي ..
وأمة مأسوف على حالها تقتل ريحانة نبيها ..
وسط كل تلك المصائب والألام كان هناك دين حقيقي .. وإرتباط حقيقي .. وحب حقيقي .. لله الخالق ..

كان على تلك الرمال الساخنة التي لايمكنك حتى مجرد المشي عليها .. وهو مجروح الأعضاء وجراحه على الرمل اللاهب .. والشمس من فوقه تصهر جسمه الشريف والعطش أخذ منه كل مأخذ .. في تلك اللحظات كان وجهه الى السماء .. وكانت شفتاه اليابستين تتحركان .. بهذه الكلمات :
اَللّـهُمَّ اَنْتَ مُتَعالِي الْمَكانِ، عَظيمُ الْجَبَرُوتِ، شَديدُ الِمحالِ، غَنِيٌّ َعنِ الْخَلايِقِ، عَريضُ الْكِبْرِياءِ، قادِرٌ عَلى ما تَشاءُ، قَريبُ الرَّحْمَةِ، صادِقُ الْوَعْدِ، سابِغُ النِّعْمَةِ، حَسَنُ الْبَلاءِ، قَريبٌ إذا دُعيتَ، مُحيطٌ بِما خَلَقْتَ، قابِلُ التُّوبَةِ لَمَنْ تابَ اِلَيْكَ، قادِرٌ عَلى ما اَرَدْتَ، وَمُدْرِكُ ما طَلَبْتَ، وَشَكُورٌ اِذا شُكِرْتَ، وَذَكُورٌ اِذا ذُكِرْتَ، اَدْعُوكَ مُحْتاجاً، وَاَرْغَبُ اِلَيْكَ فَقيراً، وَاَفْزَعُ اِلَيْكَ خائِفاً، واَبْكي اِلَيْكَ مَكْرُوباً، وَاَسْتَعينُ بِكَ ضَعيفاً، وَاَتوَكَّلُ عَلَيْكَ كافِياً، اُحْكُمْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا فَاِنَّهُمْ غَرُّونا وَخَدَعُونا وَغَدَروا بِنا وَقَتَلُونا، ونَحْنُ عِتْرَةُ نَبِيِّكَ، وَوَلَدُ حَبيبِكَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِاللهِ، الَّذي اصطَفَيْتَهُ بِالرِّسالَةِ، وَائْتَمَنْتَهُ عَلى وَحْيِكَ، فَاجْعَلْ لَنا مِنْ اَمْرِنا فرجا ...

هل ترى ياصديقي أموندتي شيئاً من النفاق في قصة الحسين يجعلك تعتقد أن هذا الدين مجرد أكذوبة للكسب والسيطرة ؟؟
أليس دين هذا الرجل مهما كان إسمه يستحق أن نفكر من أين جاء ؟
أليست المدرسة التي تربى فيها الحسين على عشق الله وحبه والاخلاص له مهما كان كان مصدر وإسم هذه المدرسة .. مكان كله صدق واخلاص وحب حقيقي لله لايمكن ان يخترع شيئاًمن عنده مالم يكن منتمياً الى الله تعالى ؟
هل لديك شك ياصديقي أن عين الخالق كانت في تلك اللحظات .. تنظر وتراقب ذلك الرجل .. كيف تقطعه المصائب وتنهش جسمه الرماح والسيوف .. وهو يقول ( خذ حتى ترضى ) ؟

ياصديقي لقد كانت أصوات الملائكة وسكان السماوات تضج وتصرخ .. غير قادرة على تحمل هذا الكم من الألم .. وتريد ان تنتهي هذه القصة الى هنا ..
ولكن الحسين كان يبتسم .. فيبان ثغره الشريف من بين بحر الدماء والرمال الذي غرق به وهو يقول ( هون مانزل بي أنه بعين الله )

يبدو أنها كانت صفقة ياصديقي .. بين إله عظيم يريد أن تفهم الخلائق أن لحبه وطاعته والرضا بحكمه مراتب عظيمة وجليلة .. وبين مخلوق يجب ان يعطي الدرس العملي .. ليثبت أن هذه المراتب ليست أمراً نظرياً ولا ( فنتازيا) بل هي طريق يسلكه .. وعلى الجميع ان يقتدوا به .

نحن نعتقد بدين هذا الرجل .. ونؤمن بمعتقداته .. ونعتقد ان الله هو الذي أنزل هذا الدين .. ومن المستحيل ان يكون من سواه .
لنفترض أن الكل منافقون في تدينهم وحديثهم عن الله .. أليس هذا الرجل لوحده يستحق ان نتمسك بدينه من اجله ولا نضيع كل آلامه و همومه التي تحملها من أجل أن يوقظنا ؟!

كن مع الله ياصديقي بالشكل الذي أراده هو .. طائعاً .. مسلماً أمرك .. راضياً بحكمه .… وإذا وجدت في نفسك نفوراً من ذلك .. فليكن قدوتك الحسين .

الى هنا أنهيت كلامي وكان صديقي مستمعاً .. ولكنني فوجئت به يصرخ بطريقة لم افهمها وهو يقول بلغته العربيه الركيكة والبكاء يخنقه : أخي أخي .. أرجوك أن تكلم الله ليغفر لي .. لقد إرتكبت الكثير من الذنوب والاخطاء .

كانت هذه اخر مرة اسمع فيها صوت صديقي أموندتي .. ثم قطع الاتصال ولم اعرف اين ذهب بعد ذلك .
بعد سنة أو أقل بقليل .. أخبرتني إحدى الأخوات التي كانت تشاركنا الحوارات .. أنها تلقت رسالة من صديقتها بنت أموندتي التي تدرس الطب في كاليفورنيا تخبرها أن والدها توفي في حادث سيارة .


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


ايليا امامي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2015/10/17



كتابة تعليق لموضوع : لماذا عاشوراء .. ربيع التوحيد
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net