صفحة الكاتب : نعيم آل مسافر

رحيم الغالبي كما عرفته
نعيم آل مسافر

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
كنت في نهاية الثمانينات أنشر بداياتي الشعرية في جريدة الاتحاد , في صفحة الأدب الشعبي. التي يحررها الصحفي والشاعر الكبير عادل العرداوي..حيث نشرت أول قصيدة  عام 1988م. وكنت حينها طالبا في الصف السادس علمي في إعدادية الكوت.ومدينة الكوت مدينة صغيرة جميلة هادئة. يحتضن خصرها نهر دجله.. وألتقي بالشعراء هناك عندما يزورنا الشاعر الكبير عريان السيد خلف .. وأرافقه في أمسياته الخاصة في الكوت التي تقام في بيتنا أو في بيوت بعض الشعراء مثل الشاعر مهدي السيد عيسى والشاعر منعم صالح وهيب وآخرين. أو أمسياته في مدينة الحي.. ولم يكن عريان السيد خلف يشارك في مهرجانات وأمسيات عامة آنذاك لأنه كان معارضا للنظام ألبعثي الحاكم .
ولطالما شدني ما ينشر في جريدة الإتحاد للشاعر الكبير رحيم ألغالبي من قصائد ومواد أخرى تتعلق بالأدب الشعبي.. ولكني لم ألتقي به مباشرة. وقرأت في جريدة الإتحاد مرة خبر تأسيس منتدى الشطرة الأدبي. من قبل مجموعه من مبدعي مدينة الشطرة أمثال المرحوم حسين هاشم والقاص وجدان عبد العزيز والشاعر كامل سواري والمبدع رحيم ألغالبي الذي كان هو رئيسه وآخرين .. وأستضاف المنتدى في أحدى أمسياته الشاعر الكبير عريان السيد خلف فحضرت تلك الأمسية والتقيت ألغالبي ولكنه كان لقاءا ً عابرا. كنت آنذاك كثيرا ما أتردد على مدينة الشطرة لزيارة أهلي هناك.. وعرفت من والدي السيد عبدالامير آل مسافر رحمه الله أن رحيم بن السيد مزهر السيد جراد من السادة الغوالب الذين تربطنا بهم الكثير من وشائج القرابة والمصاهرة والمحبة .. حيث أن السادة آل مسافر والسادة الغوالب ينتسبون لنفس الفرع في الشجرة العلوية المباركة. وان سيد مزهر والد رحيم ألغالبي من السادة المعروفين ومن أصدقاء الوالد, وكذلك رحيم نفسه.. وكان والدي رحمه الله صاحب مضيف عامر بالكرم والأدب والمجالس الحسينية _ولازال لحد الآن_ ويحفظ الكثير من القصائد والأبيات الجميلة وينظم بعضا منها.
عرفت رحيم ألغالبي في تلك الفترة عن طريق جريدة الإتحاد أولا ومن خلال حديث الشاعر الكبير عريان السيد خلف ثانيا ومن خلال كلام والدي السيد عبدالامير آل مسافر .. وعرفت من خلال ذلك أنه شاعر سبعيني رائع من شعراء المدرسة الرمزية يساري الانتماء , ويحمل شهادة البكالوريوس في اللغة الروسية من جامعة بغداد  عام 1975. وهو على قدر عال من الثقافة والخلق الرفيع .. وهذه الأسباب مجتمعة صنعت كل هذا الإبداع لدى ألغالبي. 
التقيت رحيم ألغالبي نهاية التسعينات عندما انتقلت من الكوت وسكنت مدينة الشطرة, مهدي الأول.. مدينة الشعراء والشهداء والأدباء والأجداد.. وتحديدا عام 1999م  وكنت ألتقي في بيته يوميا  مع الشعراء حكيم ألغالبي والشاعر الحسيني علي الخفاجي وآخرين.. علما إن بيته يبعد بضعة أمتار عن مديرية الأمن.. لكن نجيئه خلسة في الليل.. وكانت الغرفة التي يستقبلنا فيها صغيرة في حجمها 3×2 متر. ولكنها كبيرة بالشعر والأدب والضيافة العلوية . وكبيرة بالمعارضة لأعتى نظام ظالم عرفته البشرية .. فيها مكتبة صغيرة مليئة بالكتب والجرائد والمجلات والأثاث القديمة ومعلق على حائطها القديم أيضا, صورة للمرجع ألديني العراقي الراحل السيد محسن الحكيم وبجانبها صورة للزعيم العراقي الراحل عبد الكريم قاسم.. في أشارة لتوحد المعارضة بكل تياراتها الدينية واليسارية والعلمانية. حيث يجمعها هدف واحد هو تحرير العراق من الطغمة الغاشمة التي تحكمه.. وكانت تدور بيننا أحاديث عن الشعر والمعارضة.. جمعنا اليسار واليمين في مكان مساحته من الفراغ ستة أمتار لأنه مرتبط بجذور الإبداع التي يبلغ طولها ستة آلاف سنة ..
 
لمست خلال تلك الفترة إنسانية رحيم ألغالبي التي تطغى على كل الجوانب الأخرى لشخصيته الرائعة .. فقد كان إنسانا بكل ما تعنيه هذه الكلمة من دلالات ومعاني .. ورأيت بأم العين أبوته لجميع الشعراء الشباب في الشطرة.. وقد أخذ بأيدي الكثير منهم إلى النجومية.. ومنهم من كان على الأقل سببا في ظهوره وانتشاره.
كنا نحتفل معه سرا بذكرى تأسيس الحزب الشيوعي العراقي .. رغم أننا نختلف معه بالتوجه السياسي .. حيث نقيم حفلا صغيرا في بيته نتبادل فيه التهاني والقصائد وهو بدوره يشاركنا في مجالس العزاء أيام عاشوراء الحسين (ع) وانتصار الدم على السيف.. التي تقام في مضيف والدي. وكتب رحيم في تلك الفترة قصائد عن جده الإمام الحسين (ع) .. وكان والدي رحمه الله يوقر رحيم كثيرا ويحترمه ويجلسه إلى جانبه عندما يأتي رحيم للمضيف .. وكان الكثير ممن يدعون التدين, ينتقدون والدي لتقريبه وتبجيله شيوعي متطرف, في فترة كان التوجه الديني منتشرا على أوجه بين طبقات المجتمع. فكان والدي يقول لهم (رحيم أنظف من كثيرين يدعون النظافة)..
 
تمخضت تلك اللقاآت عن تأسيس رابطة للشعراء الشباب في الشطرة . ضمت سبعة وخمسون شاعرا وانتخبت من قبلهم _وبالإجماع_ رئيسا لتلك الرابطة .. فذهبت مع الهيئة الإدارية للرابطة بعد انتهاء الانتخابات مباشرة لبيت رحيم ألغالبي عم المبدعين لنطلب منه أن يكون الرئيس الفخري لتلك الرابطة .. وكانت باكورة نشاطاتها الرسمية حفل تأبيني بمناسبة الذكرى السنوية لرحيل الشاعر ألشطري المعروف هاشم فليح الكردي .. ومن نافلة القول أن الشاعر هاشم فليح من القومية الكردية فعلا .. ولقب الكردي لم يطلق عليه جزافا. ومازالت عشيرته تسكن الشطرة لحد الآن ومنهم الشاعر ناظم وذاح.. هكذا كان رحيم ألغالبي في الشطرة تلتقي فيه الأنساب والتيارات السياسية المختلفة والقوميات , التي لم تكن تحتاج للمحاصصة آنذاك لأنها كانت جميعا مضطهدة .. وكان يجمعها حب العراق لا كرسي الحكم. حضر في ذلك الحفل التأبيني جمع غفير من جمهور الشطرة العاشق للشعر والمعارضة. وكان رحيم ألغالبي بحبه راعيا وعريفا للحفل بتواضعه المعهود , لدعم رابطتنا الفتيه.. وكانت القصائد تلتهب حماسا في حب الحسين (ع) ومعارضة النظام المقبور .. والجمهور يكاد يشتعل تفاعلا معها بل تحول إلى مهرجان قطري حيث شارك فيها شعراء من مختلف المحافظات ..
 
استدعتنا بعد الحفل أجهزة النظام القمعية وأغلقت الرابطة بعد إطلاق سراحنا مباشرة ً .. وكان التقرير السري من أحد الجواسيس العبثيين الذين حضروا الحفل يقول : (أنه لم يكن حفلا تأبينيا بل كان تجمعا إسلاميا شيوعيا ً معارضا ً).
 
وعدنا نلتقي من جديد في وكر الأدب والرفض السلمي النبيل .. في بيت ألغالبي كنا لا نمتلك إلا أن نكتب شيئا, عندما ندخل في ذلك المكان الدافئ الحنون كقلب رحيم ألغالبي .. وبعد فترة عدنا للظهور ثانية ولكن هذه المرة بتأسيس مقهى للشعراء والمبدعين. حيث استأجرنا مقهى في مركز المدينة واشترينا لها الأثاث من جيوبنا الخاصة أنا والغالبي .. وأدار ذلك المقهى الشاعر المشاكس حكيم ألغالبي .. الذي يعتقل كلما أقامت أجهزة النظام القمعية إجراآت احترازية .. فكان المقهى ملتقى للمبدعين والمعارضين وتستمر فيها الجلسات والأمسيات حتى وقت متأخر من الليل .. فذاع صيتها وأغلقت أيضا .. لنعود بعد ذلك لوكرنا المحبب من جديد .. واستمرت بنا الحال هكذا حتى سقوط النظام البائد عام 2003 م 
 
فرقتنا الديمقراطية المستوردة فترة من الزمن لأن التيارات التي نهواها تفرقت وتناحرت من أجل السلطة والمال .. فقدمنا ما نستطيع تقديمه للمجتمع من خدمات ونشاطات كل حسب طريقته .. ولكننا ونحن المولعون بالمعارضة وحب الوطن وحب الخير للجميع لم ننتمي لأي حزب بشكل رسمي.. نعم أعلنا ولائنا لمن نحب ونهوى من تلك التيارات. وقدمنا لهم ما نستطيع بكل أمانة وصدق.. لكننا لم ننتمي لأن انتماءنا للوطن وللشعر والحب أكبر من ذلك بكثير..
 
بعد فترة عدنا نلتقي ولكنها لقاءات خجولة.. حيث جمعنا من جديد ملتقى الشطرة الإبداعي التابع للإتحاد العام للأدباء.. وقدمت رحيم ألغالبي في أمسية من أجمل أمسيات المنتدى حضرها مجموعة كبيرة من الأدباء والفنانين ومن تلامذة الشاعر وجمهوره. لأدلي في تلك الأمسية الشطرية الرائعة بشهادة في حق رحيم ألغالبي الإنسان والشاعر.. حيث تعودنا في الشرق أن لا نكرم عظمائنا ومبدعينا إلا بعد موتهم .. أردت أن احتفي بالغالبي حيا في تلك الأمسية , كما في هذه السطور المتواضعة .. نعم هو احتفاء خجول ولكنه في حياته وبمرأى ومسمع منه خير من احتفاء به بعد رحيله .
 
بعد تأسيس الإتحاد العام للأدباء الشعبيين في الشطرة انتخبت رئيسا للإتحاد في دورته التأسيسية الأولى .. وأبيت وزملائي الشعراء إلا أن يكون رحيم ألغالبي رئيسا فخريا له كما في الأيام الخوالي لرابطة الشعراء الشباب التي أغلقت بعد أول أمسية لها كما أسلفت.. لأنه علم من أعلام الشعر الشعبي العراقي .. وأحد رجالات الأدب البارزين في محافظة ذي قار .. ولأنه رحيم. 
وصلتني قبل فترة إلى مقر عملي مجموعة شعرية (جسر من طين) عليها إهداء من المؤلف الشاعر الكبير رحيم ألغالبي .. فذهبت مساء لبيته لغرض تهنئته بصدور ديوانه الأول الذي جاء متأخرا .. فيفترض أن يكون لعمر رحيم الشعري وتاريخه الطويل في هذا المضمار أكثر من ديوان .. فوجدته منكبا على الإنترنت محررا لجريدة انكيدو الالكترونية .. ومتابعا لكل شاردة وواردة على ألنت .. وذلك الوكر الدافئ الحنون بدا لي باردا رغم حرارة الجو .. حيث طليت جدرانه بشكل ممتاز. أصبح خاليا ً من صور الزعماء الماضين .. واستبدلت المكتبة بمعرض خشبي مملوء بالأواني الجميلة.. ولكنه خال من الكتب والجرائد ..
هنأته واستأذنته للذهاب .. لأني شعرت أني غريب عن المكان .. وليس عن رحيم ألغالبي فهو كما عرفته لا يمكنك أن تغادره.. إن عرفته حق المعرفة.
.......................
ملاحظة: إحتفت هذه الكلمات بالغالبي حيا ً. وتشرفت بإطلاعه عليها. 

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


نعيم آل مسافر
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2011/06/20



كتابة تعليق لموضوع : رحيم الغالبي كما عرفته
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net