مازالت آراء مجموعة فرانكفورت تسري في شرايين العقل النقدي حتى اليوم من أودورنو حتى هابرماس وموران..ذلك لأنّ حقبة العقل الكامل والعقلانية الشمولية تحوّلت إلى أساطير متأخرة تشبه الأساطير الأولى..تخيّل قليلا كيف تعاطى عصر الأنوار مع العقل إلى درجة تكاد تكون مضحكة إذا ما استدعينا الثغرات التي كشف عنها نقد ما بعد الحداثة لهذه العبادة البدائية للعقل..كان بعضهم كديكارت يرون في هذا الكون نظاما فقط بحيث يمكن التعامل معه بمعادلات رياضية بحتة حتى من دون أحاسيس..وهكذا ومع أنّ الرياضيات كانت لم تبلغ مراحل متطورة لكنها ظلت غير مكتملة جعلت الثورات الفيزيائية ترى في هذا الموقف موقفا ساذجا إلى حدّ كبير.. وحتى لو كان هناك نظام في الطبيعة فلن تستوعبه الرياضيات وبالتالي ستجد مقولاتها دائما في الطبيغة ما يخرم أسس ونظام الرياضيات والفيزياء..هذا يعني أنّها ليست سوى نظاما مكتملا في نسق عقلي بخلاف ما عليه احتمالات الواقع شديد التعقيد..كم كان العالم يزهو وهو يردد خلف كانط سؤاله الأثير: ما معنى التنوير؟ قال يومها إنّه بلوغ الرشد العقلاني..ولكن اتضح أنّ الحداثة بلغت جنون العقل الأداتي الذي لم تعد قادرة على التحكم في مساراته..وقال: العقل الخالص...وتبين أن العقل الخالص واحد من الأساطير التي تكاد تجعل العقل بهذا المعنى لا يكون بشريا كما ذهب موران..انتهى نقد الحداثة إلى دحض كل هذه المزاعم..لا يوجد عقل خالص ولا غنى عن الأحاسيس والأخلاق والرؤية الشمولية التي ترفض التجزيء والتخصص القاتل..النظرة التبسيطية للواقع..الحاجة باتت ماسة لقلب النظام التربوي ودخض كلّ مزاعم الأنوار، وربما آن الأوان للاهتمام بجمالية الليل كما أشار موران إلى رواية أدوارد يونغ(الليالي)..موقف إدغار موران ربما أكثر وضوحا في نقد الحداثة من هبرماس نفسه..أكثر وضوحا وشجاعة..وربما لهذا السبب أصبح مزعجا لمستقبل الثقافة والفكر الفرنسي..هو صديق للعرب..ومؤمن بكل الاحتمالات ولا يحمل يقينيات فكر الأنوار..
القول في العقل والمعقول والعاقل لا ينتهي..لأنّ ما ينتج عن العقل الذي بات واجبا علينا أن ندرك عوائقه وأعطابه وظلماته أكثر من إضاءاته، يؤكّد أنّ العقل من دون قيد لم يعد ضامنا.. العقل المنزوع من الأحاسيس يؤدي إلى ميلاد العقل الأداتي الذي تحدث عنه كثيرا أدرنو وهبرماس..بل هو الذي يجعله عقلا لا إنسانيا قد نجد له أمثلة كثيرة بنسبة ما عند الحيوانات..الأحاسيس التي تشكل الوجدان به ندرك أمورا قد يصعب التسليم بها برسم العقل الأداتي..العقل الوجداني قد يرفض الحرب طريقا للمجد والوفرة لكن العقل الأداتي يعتبر ذلك موقفا عقليا..العقل الوجداني قد يرفض أنماط التنمية التي تتهدد البيئة والإنسان لكن العقل الأداتي يمنحها صفة عقلانية..ما يتعقّل نقيضا للوجدان هو عقلاني بالمعنى الأداتي ولكنه ليس عقلانيا بالمعنى الوجداني..إنّ الوجدان هو الذي يملك ميزان المعقول الحقيقي، وأنّ البعد الأدوي للعقل قد يذهب إلى حدّ عقلنة كل فعل مهما ناقض الوجدان..ونحن اليوم وفي ظلّ سياسة التهميش وغياب الروح الإنسانية وغلبة الأدوي على الوجداني..والتلوث على النظافة..والرأسمال على الحرية..وهيمنة الحروب والعنصرية والتوحش...نحن اليوم إذن أمام إعادة صياغة عقلانية للتوحش..عقلنة التوحش وإدارته برسم عقل أداتي يستبعد الوجدان..ترك الوجدان للمجتمع المحلّي فيما إدارة العالم للعقل الأداتي الذي شكّل محور لنقد فلاسفة ما بعد الأنوار والحداثة...هناك ميلاد لفهم جديد في العالم لا زال يواجه مقاومة شديدة من قبل ورثة الأنوار من عباد العقل الخالص..أسئلة لا حدود لها ولا سقوف ولا أسوار منيعة..أسئلة لا تشعر بالإحباط من المستقبل ولا تشعر برهاب القرون الوسطى..أسئلة مفتوحة ومحتملة يقدحها الوجدان..أسئلة تستهدف النظم السياسية الحديثة والأنماط الاقتصادية والأنساق المعرفية..اعتادت الحداثة أن تؤطّر الفكر بمسبقاتها ومحذوراتها ومارست أقصى أشكال الرقابة والتوجيه للأسئلة والجوابات..هناك أسئلة ترفضها الحداثة..وهناك أجوبة ترفضها الحداثة..حتى في الفن استبد نمط في الفن لا زال يقاوم الرسالة التربوية للفن، تلك الرسالة التي ترقى بالأذواق والوجدان وتبعد الآلية والضحالة عن الفنّ نفسه بوصفه لما جعل له داخل أنساق المعرفة والقيم والنظم السياسية والاجتماعية..بات واضحا أنه لم يعد يكفي أن تقول: الحضارة و التحضّر..فالتحضّر ليس مقابل التوحّش، بل هو شكل من الإقامة في المكان لا يستبعد التوحش بالضرورة..فلنقل إذن هو اليوم شكل من حضور التوحّش ومأسسته..هو إدارة التوحّش..فالحضارة ترتدّ أو تكشف عن وجهها الآخر بفضل تمحورها حول العقل الأداتي الذي استبعد المعنوية من دورته الحضارية وغاص في تفاصيل وتحديات العقل الأداتي إلى حدّ انخرم فيه شيء إسمه الوجدان...
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat