صفحة الكاتب : سعيد العذاري

علاج الازمات دروس في ذكرى المبعث النبوي
سعيد العذاري

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

بين الحين والآخر تحدث بعض الأزمات المؤدية الى التناحر والتباغض والمواقف المتشنجة الناجمة من رواسب الجاهلية وقرب العهد من الاسلام، ومن الأنا والهوى والتعصب، ومن وجود المندسين والمنافقين الذين يستثمرون الثغرات لخلق البلبلة والاضطراب داخل الوجود الاسلامي، أو الناجمة من قلة الوعي وضعف الادراك ومن التسرع في إتخاذ الموقف والقرار، فكان رسول الله(ص) يتجاوز هذه الأزمات بحكمة ووعي ثاقب ويحجمها أو يتجاوزها وهي في مهدها قبل أن تستشري وتتأصل في النفوس ثم في أرض الواقع، فكانت تتلاشى في حينها ويتجاوزها المسلمون إستجابة لتوجيهات رسول الله(ص)، ويتناسوها وكأن شيئاً لم يكن، ويعودون الى الأصل وهو الوحدة والاتحاد والإخاء.
وكان(ص) يتجاوز جميع المواقف التي تؤدي الى التناحر والتباغض والتنافس غير المشروع، سواء كانت مقصودة أم غير مقصودة، للوقاية من الاضطراب والخلاف، ومن هذه المواقف.

اختيار موقع السكن في بداية الهجرة
في بداية وصول رسول الله(ص) الى المدينة أراد كل حي أو كلّ عشيرة أن تستأثر باستضافته(ص)، فكان لا يمر بحيّ من أحياء الأنصار إلاّ قالوا له: «يا رسول الله انزل بنا، فانّك تنزل في العدّة والكثرة»، فيقول(ص): «خلّوا زمان الراحلة فأنها مأمورة»، وفي رواية: «خلّوا سبيل الناقة فأنها مأمورة».
فسارت الناقة حتى وقفت على باب أبي أيّوب الأنصاري فبركت، فنخست بقضيب فلم تبرح، فنزل بأبي أيّوب  فأقام عنده أيّاماً، ثم انتقل الى حجراته، وقيل: انّ ناقته بركت في موضع المسجد، فنزل فجاء أبو أيّوب فأخذ رحله فمضى بها الى منزله، وكلّمته الأنصار في النزول بها، فقال: «المرء مع رحله»( ) .
فقد اتخذ (ص) هذا الموقف وأوكل الأمر الى النافة لكي لا يستأثر حي على آخر أو عشيرة على أخرى في استضافته، لأنّ إختيار أحدهم دون الآخرين يؤدي الى إفتخاره عليهم، وقد يكون هذا الافتخار مقدمة للتناحر وقد يدخل بعض المنافقين فى إستثمار ذلك لخلق البلبلة والاضطراب في الصفوف بالادعاء بأنّ رسول الله(ص) فضّل حيّاً على آخر أو عشيرة على أخرى، فترك رسول الله(ص) الأمر الى الناقة بابلاغهم بأنها مأمورة، فاستطاع بهذا الموقف منع القيل والقال والاشاعات المغرضة التي تستثمر في التفاخر المؤدي في كثير من الأحيان الى الخلاف والفتنة.

فتنة رئيس المنافقين
في غزوة بني المصطلق ازدحم جهجاه بن مسعود وسنان بن وبر الجهني على الماء فتصارعا، فصرخ الجهني: «يا معشر الأنصار»، وصرخ جهجاه: «يا معشر المهاجرين».
فغضب المنافق عبدالله بن أبيّ بن سلول، وعنده رهط من قومه، فقال: «أوقد فعلوها، قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، والله ما أعدّنا وجلابيب قريش إلاّ كما قال الأوّل: سمّن كلبك يأكلك! أما والله لئن رجعنا الى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذل».
ثم اقبل على من حضره من قومه، فقال لهم: «هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتوّلوا الى غير داركم».
فسمع ذلك زيد بن أرقم، فمشى الى رسول الله(ص) فأخبره الخبر، وعنده عمر بن الخطاب، فقال: «مر به عبّاد بن بشر فليقتله».
فقال له رسول الله(ص): «فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أنّ محمداً يقتل أصحابه! لا ولكن أذن بالرحيل»، وذلك في ساعة لم يكن رسول لله(ص) يرتحل فيها، فارتحل الناس.
ثم مشى رسول الله(ص) بالناس يومهم ذلك حتى امسى، وليلتهم حتى اصبح، وصَدْر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس، ثم نزل بالناس، فلم يلبثوا أن وجدوا مس الأرض فوقعوا نياماً، وانما فعل ذلك رسول الله(ص) ليشغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس، من حديث عبدالله بن أبي( ) .
وهذه الأزمة ناجمة عن التعصّب من جهة وعن دور المنافقين في إثارة الفتنة من جهة أخرى، وقد بدأت الأزمة بصراع بين مهاجر وأنصاري، وهذا الصراع هو بين فردين لا يمثلان إلا نفسيهما، ولا علاقة للمهاجرين والأنصار بهذا الصراع، ولكن الاوضاع النفسية والرواسب الجاهلية ودور المنافقين قد تحوّل الصراع الى صراع بين إنتمائين خلافاً للمفاهيم  والقيم النبوية، وقد تعامل رسول الله(ص) مع هذه الأزمة تعاملاً حكيماً، فلم يلتجأ الى التحقيق في المسألة، أو إرسال لجنة لتقصي الحقائق، ولم يلتجأ الى جمع المهاجرين والأنصار لالقاء خطبة توجيهية اليهم، لأنّ الأزمنة بحاجة الى قرار حاسم يمنع من القيل والقال وبث الاشاعات وتضخيم الأحداث وتبادل الاتهامات، بل اسرع لإشغال المسلمين بالرحيل، وفعلاً تناسى المسلمون الأزمة.
ولم يلتجأ رسول الله(ص) الى قتل رئيس المنافقين، لأنّ قتله يزيد الأزمة تعقيداً بظهور فتنة جديدة يستثمرها المنافقون وأعداء الدين من يهود وغيرهم; لتوسيع الفتنة.
وقد عبّر رسول الله(ص) عن موقفه بعد إنتهاء الأزمة، وخصوصاً بعد أن وعى الأنصار للمخاطر المحدقة بهم، وأصبحوا إذا أحدث عبدالله بن أبي حدثاً كان قومه هم الذين يعاتبونه  ويأخذونه ويعنّفونه، وحينها قال (ص) لعمر بن الخطاب: «كيف ترى يا عمر; أما والله لو قتلته يوم قلت لي: إقتله، لأرعدت له آنُفُ، لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته»( ) .

الفتنة بين الأوس والخزرج
كانت بين الأوس والخزرج العديد من المعارك والحروب يقتتلون فيها قتالاً شديداً الى أن هدى الله تعالى قلوب بعضهم للاسلام، فأسلموا، وسألوا رسول الله(ص) أن يخرج معهم الى المدينة وقالوا: «إنّه لم يصبح قوم في مثل ما نحن فيه من الشرّ، ولعلّ الله أن يجمعنا بك، ويجمع ذات بيننا، فلا يكون أحد أعز منها»، فقال لهم رسول الله(ص) قولاً جميلاً، ثم انصرفوا الى قومهم فدعوهم الى الاسلام، فكثر حتى لم تبقى دار من دور الأنصار إلاّ وفيها ذكر حسن من ذكر رسول الله، وسألوه الخروج معهم وعاهدوه أن ينصروه على القريب والبعيد والأسود والأحمر( ) .
وحينما هاجر رسول الله(ص) الى المدينة أصبح الأوس والخزرج القاعدة الصلبة للاسلام ولرسول الله(ص) فتوحدوا تحت رايته، وانتهى الصراع الدائر بينهم، وتوجهوا جميعاً لمواجهة المشركين وأعداء الدين.
ولم يرق لليهود إتحاد الأوس والخزرج فبدأوا يتآمرون على زرع الفتنة الى أن نجحوا في اثارتها، فقام أحدهم بتذكير القبيلتين بقتلاهم في الجاهلية، وذكّرهم بالاشعار التي قيلت في حينها، فتنازع الفريقان وحملوا السلاح وخرجوا للقتال، فلما سمع رسول الله(ص) بالأمر; خرج اليهم فيمن معه من المهاجرين فقال: «يا معشر المسلمين! الله الله، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله للاسلام... وألّف بين قلوبكم؟»، فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان، وكيد من عدوهم، فبكوا وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضاً( ) .
فقد أسرع رسول الله(ص) لعلاج الأزمة وإنهاء الفتنة، ولولا حكمته وتدخله المباشر لحدث القتال، ولبقيت آثاره قائمة بتغلب التعصب والثأر على المفاهيم والقيم الاسلامية، ولأستمر القتال بينهم وخصوصاً إذا استمر اليهود والمنافقون في تأجيج نار الفتنة التي سرعان ما تتأصل وتتجذر لتأكل الأخضر واليابس، وتفتت وحدة المسلمين.

الاختلاف حول سلمان الفارسي
أشار سلمان الفارسي(رض) على رسول الله بحفر الخندق، وحينم تم حفره، قال المهاجرون: «سلمان منّا»، وقالت الأنصار «سلمان منّا» فقال رسول الله(ص): «سلمان منّا أهل البيت»( ) .
اختلف المهاجرون والأنصار في سلمان الفارسي، فهو مهاجر الى المدينة ولكنه ليس من مهاجري مكة، فكان المهاجرون يرون أنه منهم، وكان الأنصار يرون أنه منهم لأنه كان يقطن بالقرب من المدينة، هذا الاختلاف ظاهرة مألوفة وطبيعية، ولكنه قد يتحوّل الى اختلاف عملي ان تدخلت به بعض الأهواء النفسية، وقد يتحول الافتخار بسلمان الى ممارسات سلبية ومتشنجة، وخصوصاً إن تدخل المنافقون في توسيعه، ولهذا أسرع رسول الله(ص) ـ والله العالم ـ الى إنهاء الخلاف بقوله: «سلمان منّا أهل البيت» فهو وان كان فضيلة وكرامة لسلمان، إلاّ أنه في نفس الوقت انهاءً لخلاف ووقاية من فتنة.

واقعة بني جذيمة
بعد فتح مكة بعث رسول الله(ص) خالد بن الوليد داعياً، ولم يبعثه مقاتلاً، فلما وصل الى بني جذيمة أخذوا السلاح، فقال خالد: ضعوا السلاح، فقال لهم رجل يقال له جحدم: ويلكم يا بني جذيمة! إنّه خالد والله ما بعد وضع السلاح إلا الأسار، وما بعد الإسار إلا ضرب الأعناق، والله لا أضع سلاحي أبداً، فأخذوه رجال من قومه ونزعوا سلاحه، ووضع القوم السلاح لقول خالد، فلما وضعوا السلاح أمر بهم خالد عند ذلك فكُتّفوا، ثم عرضهم على السيف، فقتل جماعة منهم( ).
وفي رواية قال بنو جذيمة: انّا لا نأخذ السلاح على الله ولا على رسوله ونحن مسلمون، فانظر ما بعثك رسول الله له، فان كان بعثك مصدّقاً فهذه إبلنا وغنمنا فاعد عليها.
قال خالد: ضعوا السلاح.
قالوا: إنّ نخاف أن تأخذنا بإحْنَة الجاهلية.
فانصرف عنهم وأذّن القوم وصلّوا، فلمّا كان في السحر شنّ عليهم الخيل فقتل المقاتلة وسبى الذريّة( ).
وقد كثرت الأشعار المعارضة والمؤيدة لعمل خالد بن الوليد.
ولما انتهى الخبر الى رسول الله(ص) رفع يديه الى السماء، ثم قال: «اللهم إني ابرأ اليك ممّا صنع خالد بن الوليد».
ثم دعا ـ الامام ـ عليّ بن ابي طالب ـ عليه السلام ـ فقال: «يا علي، أخرج الى هؤلاء القوم، فانظر في أمرهم، واجعل أمر الجاهلية تحت قدميك».
خرج ـ الامام ـ علي عليه السلام حتى جاءهم ومعه مال قد بعث به رسول الله(ص)، فودّى  لهم الدماء، وما أصيب لهم من الأموال حتى إنّه ليدي لهم ميلغة الكلب، حتى لم يبق شيء من دم ولا مال إلا ودّاه، وبقيت معه بقية من المال، فقال لهم رضوان الله عليه: «فاني أعطيكم هذه البقية من هذا المال، إحتياطاً لرسول الله(ص) مما لا يعلم ولا تعلمون».
ثم رجع الى رسول الله(ص) فأخبره الخبر، فقال: «أصبت وأحسنت».
ثم قام رسول الله(ص) فاستقبل القبلة قائماً شاهراً يديه، حتى انّه ليُرى ما تحت منكبيه يقول: «اللهم انّي ابرأ اليك ممّا صنع خالد بن الوليد» ثلاث مرات( ) .
فأمام هذه الممارسة السيئة والجريمة الشنعاء اتخذ رسول الله(ص) موقفين: الأوّل: البراءة من عمل خالد لكي لا يحمّل بنو جذيمة المسؤولية على رسول الله(ص) أو على الكيان والوجود الاسلامي، والثاني: ارسال أقرب واعزّ الناس اليه أمينه ووزيره بل نفسه وهو الامام علي عليه السلام، ثم تعويضهم عن خسارتهم في الأرواح والأموال.
وبهذه الحمة استطاع إخماد فتنة عمياء قد تتطور وتتوسع وبالتالي تكون النتيجة هي خلخلة الوجود الاسلامي في بداية انتصاره على معاقل الكفر والشرك.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


سعيد العذاري
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2011/06/27



كتابة تعليق لموضوع : علاج الازمات دروس في ذكرى المبعث النبوي
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net