صفحة الكاتب : ادريس هاني

إنها أزمة عقل عملي
ادريس هاني

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

نقد العقل لذاته فرع لحيرته..محاولة منه لتعقيل وعيه بذاته..كأنّ العقل هنا لا زال لم يحقق نفسه ومعقوليته..كذلك شكلت اللحظة الكانطية منعطفا في تاريخ العقل..وكأنّ ما سبق كان ضربا من لا معقولية العقل..كأنّ اللحظة الكانطية هي لحظة طهرانية بامتياز..بعد كانط سنكون أمام وعي آخر بالعقل..وعي لم يعد مجرد مغامرة في تحقيق العقل الخالص بل أصبح من المنظور الهيغلي عقيدة..عقيدة في العقل لم تعد قابلة للمساءلة..مع أنّ كانط حافظ على الثنائية العقلانية التي رافقت القول الفلسفي منذ أرسطو حتى ديكارت فإنّه سرعان ما غير الوعي بوظيفتيهما وإمكاناتهما.. بالتأكيد لم تكن اللحظة الكانطية لحظة كوبرنيكية نهائية..فلقد كان مجرد ثورة بغضّ النظر عن الجانب المعياري فيما آلت إليها من تحقيق العقل الخالص وتحديد وظيفة العقلين العقلية..عمّق كانط الشرخ بين العقلين..وكأنّ لا شيء يوصل بينهما..جزيرتان منفصلتان..إذا قرأنا كل هذه المغامرة في ضوء النقاش الذي عرفته فكرة الإدراك العقلي للحسن والقبح سنجد أنفسنا في متاهة أخرى..قد يبدو الأمر بسيطا هنا، لكن ثمة ما يتعين تحيينه دائما..بالعودة إلى الإدراك العقلي الذاتي للحسن والقبح العقليين نسينا أن نتساءل أي عقل هو المقصود هنا؟ فالتحسين والتقبيح يدخلان في أحكام القيمة..وكذلك هو مفهوم العقل في الكلام الإسلامي هو عقل أخلاقي كما لا يختلف خبير بالتراث الكلامي والفلسفي الإسلامي..لكن ثمة مساحة أخرى لا تدخل في هذا الاختصاص..مساحة لا علاقة لها بأحكام القيمة..العالم الموضوعي من حيث هو موضوع الإدراك المحض..إنّ إدراك الأشياء الموضوعية في العالم لا هي مستحسنة ولا هي مستقبحة..وقد يكون الحسن من حيث إدراكها لا من حيث حسنها الذاتي..وهذه وظيفة العقل النظري الإدراكية التي لا يستغني عنها العقل العملي نفسه المعني بإدراك القيم الأخلاقية..إذا سايرنا هذه النزعة الإثنينية بين العقلين قلنا بأنّ ثمة تكاملا وظيفيا بينهما على الأقل..فلا شيء يمر من دون واسطة العقل النظري في الإدراك ولا شيء يمر من دون العقل العملي في الحكم على الآثار العملية..لا شيء غير العقل يمكن أن يتجاوز وظيفة العقل في الإدراك..فحتى مصادر المعرفة الأخرى لا يمكنها أن تستقل عن العقل في الإدراك..لا التجربة ولا غيرها..إنّ العقل حتى في حالة المعرفة الحضورية لا يكتمل قوامه حتى يحوّلها إلى معقول قابل للبرهان..ولكن العقل العملي كما يقول ملاصدرا مكمّل للعقل النظري..وهذا الإكمال يعزز رأينا في العلاقة الإبستيمولوجية بين العقلين..فالعقل العملي في نظرنا هو الرادع عن مخالفة رأي العقل النظري وتحويل منتجه إلى قيمة عملية..من دون العقل العملي نحن أمام عقل أداتي يستقوي بالإمكانات التشريحية للدماغ من دون أن يكون له مكمّل..فدور العقل ليس تحليل الأشياء بل إنتاج قيمة الأشياء وترتيب آثار على ما نفكّر فيه..بالعودة إلى لالاند يصبح العقل المنتظم أو السائد هو الذي يحدد خريطة المعقول، وبالتالي فالعقل العملي هو مرتهن للإيبيستيمي ونظام المعرفة..حتى وإن تبددت معقولية ذلك أمام العقل العملي بناء على معطيات تنتمي لنظام معرفي آخر فإنّه يرى أنّ المعقولية هنا تتحدد بالمصلحة..والمصلحة هنا هي الجري العملي على مقتضى النظام الثقافي الذي يؤطر العقل العملي..إن العقل العملي لا يستطيع أن يغير أحكامه القيمية إلا بناء على منظومة قيم قائمة أو بديلة..إنها ليست ثورته الخالصة بل هي ثورة مسنودة بنظام قيم أخرى..وحينما يتم الاستشكال على اللامعقول فهذا إنما يتم بناء على نظام قيم مختلف ومصالح مختلفة وسلط ثقافية مختلفة..العقل النظري هنا ـ بلحاظ مسايرتنا تلك ـ غير معني بالاستحسان والاستقباح..ولا زلنا نرى أن العقل النظري يتعامل مع القوانين والحقائق بحيادية لأنه غير معني بالاستحسان والاستقباح..ولكن ما عدا ذلك نجدنا أمام عالم في نطاق العقل العملي لم يحقق أي إنجاز غير تكرار أحكام العقل العملي نفسها التي ترتهن لمحددات ثقافية تعاني أزمة قيم..فالنزعات العدوانية والرغبة في الهيمنة والجنوح إلى التوحش يتم اليوم بوسائل متطورة وكأن العقل النظري بات في خدمة التوحش أو في خدمة شكل من التدبير اللاّأخلاقي لمنتجات العقل النظري..بالملخص المفيد: إنّ الثورة الكوبرنيكية لم تمس بعد العقل العملي..لأنّه هو المعني بالكمال أكثر من العقل النظري..فالعالم يعيش اليوم على وضعية طائرة عاجز عن التحليق، لأنّ إحدى جناحيه تضخّم أكثر من المطلوب بينما أصاب الجناح الثاني الهزال والآفات..إنّ أزمة الحضارة المعاصرة هي أزمة عقل عملي..العقل العملي الذي لم يعد مكمّلا للعقل النظري..بل العقل العملي قد استسلم للهذيان التلقائي الذي ينجم عن تواطؤ الغواية بالتقنية.. تواطؤ الغريزة بالنظر المجرد الذي شكل أساس لسلطة ما يسمّيه رواد مدرسة فرانكفورت بالعقل الأداتي..أي الشرخ بين العقلين وتصنيم ما يتنزّل بينهما منزلة الأداة..عقل بلا غايات إنسانية..على أنّ العقل الذي يفترض أن تتقوم به ماهية الإنسان هو العقل العملي المعني بكيف وجب أن تعمل..وهذا لا يشترط مستوى من مستويات التطور التقني..لأنّ السؤال هو كيف تحافظ على إنسانيتك الحيّة في كل الشروط التاريخية


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


ادريس هاني
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2015/12/20



كتابة تعليق لموضوع : إنها أزمة عقل عملي
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net