صفحة الكاتب : عمار العامري

المجد المكنون في حركة آل معجون .. السماوة 1969
عمار العامري

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
التاريخ يظلم العراقيين
   بلا أدنى شك إن تاريخ العراق المتداول حالياً, كتب بأيادي قومية أو تميل للفكر القومي, الذي يحاكي الشعارات الرنانة, والتي لا تغني الشعوب, ولا تؤمن لها طرف, فالأجيال في العراق باتت تدرك تاريخ الشعوب العربية والإسلامية وثوراتها وانقلاباتها أكثر مما تعرف عن تاريخ أجدادها وإباءها.
   وربما لو كان كل ما تطلع عليه مفيد, ليس هناك مجال للاعتراض, ولكننا وجدنا تركيز حتى على أمور تافهة, قد تم تضخيمها بينما لم نجد أي ذكر لإحداث مهمة وبصمات واضحة ومواقف مشرفة في تاريخ العراق على مدى تقلبات الدهر عامة, وتاريخه المعاصر خاصة, ربما للتغيير في أنظمة السياسية وتناوب العديد من السلطات الحكم في العراق, يعطي مسوغ بوجود تغييرات على الثقافة المجتمعية, ولكن الحقيقة إن مناهج (ساطع الحصري) هي التي بقية النافذة طيلة تلك العقود على اختلاف ألوان الإيديولوجيات الحاكمة, حتى في الوقت الحالي, والذي حكم فيه الإسلاميون الشيعة والسنة على حد سواء.
   فلم نجد من يكتب تاريخ الأجداد الحافلاً بالذكريات المهمة, والتي كانت وما زالت موضع فخر واعتزاز للأجيال, التي تشعر بالغبن من تجاهل تاريخ أجدادها العظام في حضورهم السياسي ومواقفهم الثورية ومنازلتهم للسلطات الحاكمة, وهم يقرؤون عن (حادثة ضابط ذهب للصيد في إحدى قرى صعيد مصر, فيتلف محاصيل الفلاحين, فضربوه حتى ليقي حتفه متأثر بجراحه, للتحول هذه حكاية إلى ثورة في تاريخ مصر على ظلم وتسلط الحاكمين بمقدرات البلد).
   بينما نجد التاريخ المعاصر في العراق؛ حافل بالإحداث المهمة والحاسمة, ومنها من يصدق عليها القول بأنها ثورات وانتفاضات غيرت مجرى السياسة والحكام, إلا أن مشكلة التدوين والتوثيق التي يعاني منها المجتمع العراقي, تعد السبب الرئيس في ضياع حقوق الكثير من الشخصيات الوطنية والعشائر والمدن العراقية, التي صادر النسيان مآثرها وباتت في حكم الضياع, حتى بعدما تغيرت ثقافة المجتمع من كبت وتضييع إلى انفتاح وبحث وتأليف.
   ولو راجعنا كتب الأساتذة عبد الرزاق الحسني وعلي الوردي, وما كتب في احدث ما بين عام 1921 وعام 1941 لوجدنا الحق يقال؛ إن الظلم الذي لحق بالشعب العراقي سرى حتى إلى عدم الاعتراف ببطولاتهم وملاحمهم الخالدة, كذلك كانت هناك فترة خالدة في تاريخ أبناء العراق ووقفاتهم بوجه الظالم والسلطات الدكتاتورية, خاصة بعدما توالى على حكم العراق عصابات البعث بانقلاباتهم السوداء.
   وتبقى فترة حكم التكارتة الأكثر دمويةً واستهتاراً بحق المواطن العراقي من فترة الحكم ألعارفي, رغم أنهما يعودان إلى نفس الفكر القومي العنصري, والمنهج التسلطي الأسود, والتي شهدت صفحات مجيدة كتبها أبناء العراق بدمائهم الزكية وبنادقهم الأبية, كردود فعل مشرفة ضد الأفعال الإجرامية التي مورست بحقهم, حيث لم تجد هناك مدينة العراقية جنوبية أو فراتية أو شمالية, إلا ولها ثورة تذكر بوجه الحكم الطاغي في بغداد, ولم تغب قبيلة عربية أصيلة أو عشيرة عراقية, ألا وكان لأبنائها باعُ طويلٌ في مناهضة الظلم البعثي, فكم أذن هي الشخصيات التي وقفت بوجه أزلام النظام معلنة رفضها لأساليبهم الملتوية وفرض سياستهم الباطلة, وكم هي تلك الثورات المسلحة والانتفاضات الرافضة لحكم العفالقة في العراق.
   ابتدأ من مواجهة المرجعية العليا؛ بزعامة السيد محسن الحكيم "قدس سره", ومحاولة السلطة في بغداد طمس الهوية العقائدية للشيعة, مروراً بمساندة أبناء العشائر الثائرة المرجعية الدينية أو الالتزام بمنهجها الرافض, رغم الممارسات الإجرامية التي استخدمت ضد الثوار والمعارضين, ومنها التهم الخيانة العظمى, والتأمر والتجسس ومعارضة النظام وأفكاره الحزبية, ورغم ذلك استمر الشعب العراقي ومسيرته برفضها لكل ما هو مخالف لتوجهاته الوطنية والدينية, متخذاً منهج التصحيح والإصلاح والتغيير هدفاً له في مواجهة كل ادعاءات الوطنية المزيفة, والأفكار المنحرفة, ليسطروا تاريخاً ناصحاً ومشرقاً.
   حركة آل معجون
   ومنذ الأيام الأولى من لوصول حزب البعث للسلطة وهيمنته على الحكم في العراق, وهو يحمل أحقاد الإيديولوجية لكل من يختلف مع منهجه التسلطي من القوى والتيارات والشخصيات والأسر الوطنية, وكانت أول بواكير ممارساته الإجرامية ضد الشخصيات, التي كانت ضمن الجهاز الإداري والحكومي للحكومة التي سبقته, حيث القي القبض على النقيب الحقوقي الطيار (الشيخ سامي عزارة آل معجون)  الذي كان يشغل منصب المستشار القانوني في وزارة الدفاع.
   حيث كان يدير دائرة القانونية المكلفة بمتابعة النشاط الإجرامي لزمرة حزب البعث وميليشيا الحرس القومي في زمن الجمهورية الأولى في العام 1958, وقد ساهم الشيخ سامي بالتحقيق شخصياً مع (أحمد حسن البكر) الذي كان رئيساً لعصابة البعث آنذاك, والذي أصدر أوامره المباشرة بنقله إلى (سجن نقرة السلمان) ، ومنذ ذلك الحين أصبح الشيخ سامي عزارة آل معجون وعائلتهُ هدفاً مباشراً لأزلام البعث الجدد بعد انقلابهم عام 1968، فقد أشرف صدام حسين شخصياً ومدير الأمن العام ناظم كزار على التحقيق مع الشيخ سامي بعد اعتقاله, وإيداعه في سجن النهاية وتعذيبه, وذلك في نهاية عام 1968، انتقاماً للأوامر التي أصدرها الشيخ سامي, خلال أداء واجباته الوظيفية إبان تموز 1958.
   بعد ذلك قامت زمر البعث في السماوة من اعتقال شقيقه (الشيخ مهلهل عزارة آل معجون)  وإيداعه في سجن ما يعرف (بمكافحة الرجعية) في محافظة الديوانية, بغية تضليل الناس وإيهامهم بأن عائلة آل عزارة مرتبطة بالقوى الرجعية, ومتآمرة على ثورة البعث وحزبها، ونجحت الآلة الدعائية لعصابة البعث في ذلك, كما تم إلقاء القبض على (الشيخ لهمود آل معجون) عم الشيخ سامي آل عزارة بعد يوم واحد من اعتقال الشيخ سامي في مسلسل استهداف شخصيات هذه العائلة.
   وبعد مرور أكثر من عام على هذه الاعتقالات التعسفية, لم تتمكن عائلة آل معجون من معرفة مصير معتقليهم, أو السماح لهم بتوكيل محامين لهم أو معرفة نوع الدعاوى أو المخالفات التي اعتقلوا بسببها, في الوقت الذي كان المعتقلون يلاقون أقسى درجات العذاب والقسوة على أيدي منظومة الحزب الأمنية, حيث كانت أسرهم تتلقى التهديد والوعيد من قبل رموز البعث في السماوة.
   رد فعل بني حجيم
   وتضامناً مع ما حصل لأولاد الشيخ عزارة آل معجون وإخوته على أيادي عصابات البعث, وكون هذا العائلة تمثل (رئاسة القبلية لعشائر بني حجيم) عقد المشايخ العشائرية والشخصيات الاجتماعية في السماوة, لقاءات متواصلة في مضايفهم معلنين رفضهم لما يحصل من تغييب قسري لشخصياتهم العشائرية وشيوخهم, وهكذا فقد كان قرار عشائر السماوة وحوض السوير وبني حجيم عامة, هو إعلان التحرك ضد نظام البعث, وهدفهم هو إطلاق سراح شيوخ أسرة آل معجون فوراً ودون قيد أو شرط؛ وعبر الممارسات الآتية:
أولاً: إشعال النيران والمشاعل ليلاً كدليلٍ على إعلان التحرك العصيان والتمرد والخروج عن طاعة الحكومة, وكانت بداية شرارتها يوم إحراق المسجد الأقصى الشريف.
ثانياً: التحشيد للمعركة والقيام باستعراض للقوة من خلال التواجد اليومي المسلح في مضيف ومضارب عشيرة آل غانم .
ثالثاً: ضرب أهداف ونقاط معينة للسلطة كمراكز الشرطة في المدينة وخارجها، كدلالة رمزية على معارضة النظام.
رابعاً: توجيه ضربات محددة لطرق إمداد النظام وبالتحديد سكك القطار لما لها من أهمية عند السلطة.
   وبالفعل فقد بدأت العناصر الثائرة, بشكل مجموعات صغيرة, حيث وجهتها قياداتها لتحقيق أهداف خارج حدود المدينة, وقد امتدت هذه الأهداف التي تصيب معاقل الحكم إلى حدود مدينة الحلة شمالاً باتجاه العاصمة, وشرقا باتجاه مدينة الناصرية, وأدت تلك مجموعات واجباتها بشكلٍ دقيق, كما كان مرسوماً ومخططاً لها قبل عودتها إلى ربوع ومضارب العشيرة, وكانت الغاية لتلك العمليات إرسال رسالة واضحة للنظام, فيها تحدي عشائر السماوة لنظام البعث, الذي اعتقل شيوخ ورموز المحافظة.
   معركة حرق المضيف
   ويبدو إن الزمرة الحاكمة وعلى رأسهم (البكر وصدام), قد أدركوا خطورة الموقف، وخوفاً من أن تأخذ الحركة أبعادا اكبر وأكثر خطورة على خط التمرد، فقد اتخذت في صيف عام 1969 إجراءات سريعة وفورية صارمة بشقيها العسكرية والإعلامية, فقد أصدرت بيانات سياسية تفيد حسب وجهة نظرهم بما يلي:
1. أن الاستعمار والقوى الرجعية عادت من جديد للتآمر على ثورة الفلاحين والعمال والكسبة (الحركة الوطنية الفتية), والغريب إن قادة انقلاب البعث نجحوا في إيهام فئات من الشعب, ونالوا تعاطف القوى اليسارية والقوى الشعبية مع أطروحاتهم المكشوفة, والمليئة بالخداع والدس والتدليس, وقد سبق استعمال القوة في إخماد الحركة خطوة التأمر عليها, وتفكيكها من الداخل بأجراء المباحثات الصورية الماكرة, بغية إيهام الرأي العام بجدية السلطة في البحث عن حل سلمي والاستجابة لمطالب العشائر, وذلك بإطلاق سراح الشيوخ وكان الهدف من وراء هذه الخطوة, إبعاد روح الوحدة والتكاتف لعشائر بني حجيم, وبالفعل نجحوا في ذلك, وانسحبت بعض العشائر ما جعل السلطة تتمكن من الانفراد (بعشيرة آل غانم) بتمزيق وحدة صف العشائري.
2. وقد أعدت زمرة البعث (غرفة عمليات) لدراسة الطبيعة الجغرافية لموقع العشيرة, وإرسال الجواسيس والمخبرين ودسهم بين أبناء العشيرة لإشاعة الخوف وزرع الرعب, ومعرفة طرق وحركة الثوار, والأماكن التي بإمكانهم الاستفادة منها في حالة المعركة, وبالتحديد (هور اللقطة), بالاعتماد على معلومات المنقولة, واطلاع زمر البعث في السماوة, وهذه المعلومات كان تأتي خاصة, من الذين ينتمون لنفس العشيرة, لأنهم على اطلاع تام عن طبيعة المنطقة وأراضيها, باعتبارهم من الرعيل الأول لعصابات الحرس القومي السيئ الصمت.
3. أما في الجانب العسكري فقد تحرك (اللواء المدرع الثالث من الفرقة الأولى المدرعة) من مقرها في محافظة القادسية (الديوانية) وعند وصوله إلى مدينة السماوة جرى تقسيمه على محورين:
المحور الأول: باتجاه منطلق الحركة وكانت غرفة العمليات في منطقة الزريجية, بحيث يسلك خط (السماوة – الزريجية).
المحور الثاني: كان واجبه الالتفاف على قرى (آل معجون, مجهول آل حمادي, ناهي آل حمادي), ويتخذ من (خط الأزرق) طريق سير له, بالانحراف مباشرة من جسر آل جروخي يساراً, ووصولاً للأهداف المحددة.
   فقد كانت طلائع المنتمين لعصابات البعث, بانتظار الجيش ليكونوا له دليلاً, والصعود مع الدبابة الأولى، بغية كسب المغانم ونيل رضا السلطان ومكاسبه وعطاءه.
واجبات المحور الأول:  أي واجب (اللواء المدرع) وهو الوصول إلى مضيف آل معجون, وهو مقر الحركة بغية القضاء عليها, والتنكيل بأفرادها كي يكونوا عبرة لكل من يفكر بالخروج على طاعة السلطة.
وكان خط سير القوة المهاجمة؛ هو اتخاذ طريق السماوة ناحية (الزريجية), وكان معه الإدلاء من العيون والجواسيس من أبناء المنطقة, وكانت السلطات, قد أوكلت (جاسم الركابي) عضو القيادة القطرية لحزب البعث لقيادة تلك العمليات, ونظراً لقصر مسافة الطريق للالتفاف على الحركة, كان وصول القوة المهاجمة الأولى للواء, والذي كان هدفه ضرب الحركة ومحاصرتها من الخلف, فقد وصل قبل القوة المهاجمة الثانية الذي كان محور هدفه يتمثل بمقر قيادة الحركة في (مضيف آل معجون).
   فقد كان القوة المهاجمة الأولى تمثل خطورة بالغة, كما تراها قيادة المعركة بغية الحفاظ وتأمين طريق الانسحاب لهم ولأسرهم , فقروا مقاتلتها أولاً, والاشتباك معها لتكون بداية المعركة مع القوة المهاجمة الأولى, قبل وصول القوة المهاجمة الثانية من جهة الزريجية، وهكذا كان قرارهم حكيماً وناجحاً من الناحية العسكرية والميدانية من الجانب الخططي, وبالفعل اشتبكت طلائع الثوار مع القوة المهاجمة الأولى المدرعة, لكن النتائج لم تكن متكافئة مع واقع الحال فقد كان عصابة البعث قد سبقتهم في وضع مفارز من المتعاونين على طريق الثوار, بهدف ضربهم من الخلف أثناء الاشتباك مع قوة النظام.
   الأمر الذي جعل تلك الطلائع الثائرة تخوض المعركة, وهي شبه محاصرة, ولم تكن القوة متكافئة بين جيش مدجج بالأسلحة الحديثة والثقيلة, وناقلات الجند والدبابات, وبين ثوار الذين يستخدمون البنادق القديمة البسيطة والعتيقة بالذخيرة المحدودة, وبعد أن اشتد وطيس المعركة بين القوتين, قدم الثوار شهيدين هما كل من (الشهيد علاج ماهود والشهيد ثجيل مبدر ناهي وكلاهما من شباب أسرة آل حمادي), وقد بقي جثمانهما في مقر المعركة لشدة النزاع ولم يتم أخلائهما.
واجبات المحور الثاني: فيما وصل القوة المهاجمة الثانية؛ الذي يتلخص واجبه للسيطرة على مضيف آل معجون حيث مقر الحركة, بعدما تلقى الثوار خسارة في (معركة الأزرق), فضلاً عن تزامن ذلك مع تخاذل وانسحاب العديد من المشتركين بالحركة, نتيجة الأساليب التخويف والترهيب, التي استخدمه أزلام النظام معهم.
   الأمر الذي جعلهم يتركون (أبناء أسرة آل حمادي وأخوتهم من نصيفة آل عِلي) لوحدهم في معركتهم المصيرية في مواجهة العدو, وهكذا أصبح الأمر بمثابة مفتاح القضاء عليهم وإبادتهم, فحين وصل القوة المهاجمة الثانية عن طريق (سماوة – زريجية) المكلف بالواجب الرئيسي والمهم, إلى أرض المعركة وفق القياسات العسكرية, وهو مدى وقوع الثوار ضمن أهداف نيران القوات الحكومية.
الهجوم المحور الأول: ففي الهجوم الذي شنته عصابات البعث على معاقل الحركة ضمن المحور الأول, فقد حدث كما حدث في معركة طريق الأزرق إذ أن هذا القوة كان قد قام بتكليف زمر البعث المتعاونين مع القوات المهاجمة في بداية المعركة وقد اشتبك الثوار مع تلك الزمر من جهة والتهيؤ للمعركة الفاصلة مع القوى المعتدية من جهة ثانية.
   وفي العاشر من شهر آب عام 1969, واصل القوة المهاجمة الأولى المكلفة بالالتفاف على الثوار من الخلف فيما المعركة مستمرة في جبهة المضيف, وقد انفتحت أكثر من جبهة على الثوار وعلى مسافات قريبة جدا حيث باتت على مدى مرمى البنادق (إي أقل من كيلو متر واحد) .
   وفي الحال أدركت قيادة الثوار خطورة الموقف, واستشعرت تبعاته لذا أمرت على الفور بأخلاء مساكنهم من الأسر, والانسحاب إلى الخلف على الخط الوحيد, الذي بقى بعيداً عن سيطرة الجيش وعناصر البعث المتعاونين معه, بينما استمرت الاشتباكات مع مفارز المتعاونين, وبدعم من الجيش الحكومي المهاجم, فكان من حكمة قيادة الحركة عدم الاستمرار في معركة شبه محسومة لجيش, والذي يستخدم الأسلحة الثقيلة, ومفارز البعث المزروعة خلف خطوط الثوار, فقرر الثوار الانسحاب إلى (هور اللقطة) وهي المنطقة التي يمكن اللجوء إليها, آخذين بنظر الاعتبار صعوبة اقتحامها من قبل مدرعات جيش النظام.
   وهكذا كان اعتقاد الثوار, فيما وصلت الدبابات والمدرعات إلى مضيف آل معجون, وأول أعمال السلطة تجسد في:
أولاً: حرق مضيف آل معجون, وهدم بيوت كل أفراد أسر آل عزارة.
ثانياً: إحكام طوق ومحاصرة المنطقة لثلاثة أشهر متتالية.
ثالثاً: دارت مباحثات بين شيوخ بني حجيم مع (جاسم الركابي) وفي مقر إقامته.
   كان شيوخ بني حجيم يأملون من مباحثاتهم إيقاف نزيف المعركة, والبحث عن حل توافقي, يلبى فيه جزء من مطالب الثوار, وهو إطلاق سراح شيوخ من آل معجون.
   أطلاق سراح الثوار
   بمجرد أن حققت السلطة أهدافها بإشاعة الرعب والترهيب بين أوساط الشعب، ولخشيتها من أن تكون هذه الحركة بداية لسلسلة حركات أخرى أو الانجرار لأمور لا تحمد عقباها، فقد استجابت في شهر أيلول من عام 1969 لمطلب الثوار عبر محادثات شيوخ العشائر بإطلاق سراح (الشيخ مهلهل آل عزارة) من (سجن مكافحة الرجعية) في الديوانية (والشيخ لهمود المعجون والنقيب الحقوقي الطيار سامي عزارة) من (سجن قصر النهاية), شريطة أن لا يبقى المقدم سامي عزارة في العراق وعليه الخروج من العراق حالاً.
   وبعد أن مرت عدة أشهر من التهجير الأسر, التي توزعت على بيوت من تربطهم معهم علاقات حميمة من عشائر بني حجيم, حيث لجأ القادة الميدانيون للمعركة؛ الشيخ نوري عزارة, وأبن عمه المرحوم حسن حاتم المعجون إلى رفحاء في السعودية, وبقيت الأسر برعاية الشيخ نايف آل عزارة, وكان في العقد الثالث من عمره, حيث كان يتنقل سراً في الليل للاطمئنان على اسر المعجون.
   وحين عاد الشيوخ المطلق سراحهم إلى قراهم المهدمة, وأسرهم النازحة, والمضيف الذي تحول إلى رماد متفحم, رأوا أنها ديار مهجورة منكوبة, عادت الأسر لكنها لم تجد ما تسكن تحت فيئه, وبرغم من إجهاض ثورتهم في مهدها, لكن النظام ظل يتربص بآل معجون, ويناصبهم العداء.
   لقاء الشيخ مهلهل والبكر
   ففي مطلع شهر تموز من عام 1971، أراد نظام البعث الخلاص نهائياً من خطورة عائلة آل معجون, وإنهاء نفوذها وتأثيرها العشائري إلى الأبد، فقرر التخلص من الشيخ (الشهيد مهلهل آل عزارة), بحجة طي صفحة الماضي وتصفية الأمور وجبر الخواطر.
   حيث طلب رئيس النظام العراقي آنذاك احمد حسن البكر, لقاء الشيخ مهلهل في بغداد, وقد تم اللقاء الحصري بين البكر والشيخ مهلهل دون غيرهما, لمدة لم تزد عن النصف ساعة، قال فيها البكر ((أريد أن أصحح ما حدث ونحن أهل, ويحدث هذا بين العائلة, وأرغب بفتح صفحة جديدة, أما بالنسبة للمقدم الطيار سامي عزارة فيمكنه العودة إلى الوطن بكفالتي، وله حقيبة وزارية يختارها بنفسه…)) فرد عليه الشيخ مهلهل: ((سيادة الرئيس تريدني أن أسلم رقبة أخي لصدام وناظم كزار مرة ثانية, لا هذا ما لا أقبله)), (هذا الكلام ذكره الشيخ مهلهل حرفياً لذويه, قبيل استشهاده مسموماً بعد تصفيته بدس السم له).
   وفي تلك اللحظات دخل صدام, وقدم نفسه للشيخ مهلهل من خلال البكر: وقال هذا السيد النائب صدام, فرد الشيخ أعرفه جيداً, سادت لحظات من الصمت, أعقبها وبتدبير من صدام أمر بفنجانين من القهوة بعدما قال, هل ضيفتم الشيخ أما لا؟… فقال البكر لم نطلب له أي شيء, جاءت القهوة بفنجانين فقط لا غيرهم, قدم الفنجان للشيخ مهلهل, والثاني وضع أمام البكر ولم يستقبله, احتسى المرحوم الشيخ مهلهل عزارة آل معجون القهوة, وخرج من اللقاء متوجها إلى (حي اليرموك) في جانب الكرخ, حيث تسكن عائلة أخيه الطيار سامي ليكمل إجراءات السفر للالتحاق به, قضى ساعتين هناك وكان ينوي الرجوع إلى السماوة في يومه الثاني, فأحس بنوع من الدوران وقد شكا لعائلة أخيه: ((وقال لهم لم أعاني من أي شيء, ولكن حين يحدث لي شيء فسببه ذلك الفنجان الذي احتسيته عند البكر)).
   وفاة الشيخ مهلهل آل عزارة
   توجه الشيخ مهلهل في اليوم الثاني إلى السماوة وصل إليها متعباً تظهر عليه أعراض الإعياء والتعب, فاخذ يشتكي من رأسه, ونقل على أثرها إلى المستشفى, وهو مغمى عليه, بقى على هذا الحال مدة أسبوع ممنوعاً من أي علاج بأمر مفارز الآمن التي كانت تراقبه.
   وقرر الأطباء المشرفون عليه أن ينقلوه إلى مدينة الطب ببغداد، لكن الدكتور المشرف عليه واسمه (جمال الخطيب) من أهالي البصرة, وكان على علاقة طيبة مع الشيخ وصديقاً له, قال بالسر وطلب من الشيخ نوري أن لا يفشي سره وإلا سوف يلاقي مصيراً غير محمود, إذا اكتشف النظام أنه كشف: ((إن سبب الجلطة الدماغية وهو سم دس أليه)), وأخيراً وصل الشيخ مهلهل إلى بغداد, وهو في عداد الموتى, رقد في مدينة الطب ليلتين.
   وكان على علاقة مع خير الله طلفاح, حيث كانوا يلتقون في (مقهى السفير) ملتقى ساسة العراق وشيوخه،  زاره عدنان خير الله ولم يكن وزيراً حينها, وكان عدنان طالباً في الكلية العسكرية, وكان آمر الفصيل العسكري الذي يعمل فيه النقيب سامي عزارة.
   وبعد الزيارة مباشرة وبالتحديد بساعة واحدة، انتقل إلى رحمة الله الشيخ مهلهل عزارة آل معجون, بتاريخ 8/7/1971 لتنطوي مع رحيله ثورة طويت مع صعود روحه لبارئها.
   وإمعاناً بالجريمة والظلم والخوف من الشيخ الثائر حتى وهو ميت, أمر النظام بعدم عودة جثمان الشهيد إلى مضيفه وأهله في السماوة, خشية تشييعه من قبل عشائره الثائرة, ومضاعفات ذلك على النظام, الذي أسهم باغتياله غدراً، وأمروا بأن يدفن في النجف مباشرة, وبأشراف مفرزة أمن قدمت مع جثمان الشهيد, وقد صلى عليه المرجع الكبير السيد محمد سعيد الحكيم  حيث كاناً على صداقة حميمة.
   
نتائج الحركة
1. تعتبر حركة آل معجون؛ امتداد للدور الوطني, الذي اعتمدته هذه الأسرة, خلال تاريخ العراق في تبيان مواقفها من الأنظمة الحاكمة في بغداد, إبان العهد الملكي ومحاولات بعض رؤساء الوزارات, فرض سياسات معينة على مناطق وعشائر وسط وجنوبي العراق, لا تتناسب والبيئة الاجتماعية المحافظة لتلك الفئات.
2. اعتبرت هذه الثورة أو الحركة؛ أول تحرك مسلح ضد انقلاب البعث على الحكم في بغداد عام 1968, مما مهد الطريق للحركات الجهادية والثورية في العراق, للدخول في مواجهات مسلحة مع البعث, حتى توسعت لتتبنى الحركات السياسية المنهج القتالي المسلح ضد النظام الحاكم في بغداد.
3. عكست الحركة الصورة الجلية بوجود معارضة عشائرية واعية لنظام البعث, وخاصة لدى قبيلة بني حجيم في السماوة, وأن كانت فطرية, ضد أطروحته الفكرية, وأن ثوارها وقادتها سوف لن يهدى لهم بال, ولم يستكينوا في فضح سياسات النظام, وسيبقون حاملين للواء المعارضة السياسية ضده.
4. استخدمت السلطة (سياسة فرق تسد) بين العشائر, للحد من توسع لهيب تحركها المسلح, بعدما استعانت بعناصر الحرس القومي, المتدربين على أساليب إثارة النزعات العشائرية والطائفية, وضرب المعارضين من داخل جبهاتهم, لتشتيت قوتهم وإحباط عزائمهم.
5. استخدمت السلطة (الحرب النفسية) وبث الإشاعات بين أبناء العشائر, لتفكيكها من داخلهم بأجرائها مباحثات صورية, لإيهام الرأي العام بنوايا السلطة في الحل السلمي, لإبعاد روح الوحدة والتكاتف من العشائر.

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


عمار العامري
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2016/02/27



كتابة تعليق لموضوع : المجد المكنون في حركة آل معجون .. السماوة 1969
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 

أحدث التعليقات إضافة (عدد : 1)


• (1) - كتب : باسم الحجيمي ، في 2016/11/06 .

تزوير ساذج للحقائق .... افعال صبيانيه لم تكن أكثر من عرقلة حركة سير قطارات نقل المواطنين والبضائع صيرت منها ثوره وحركة تحرر ... .... ....






حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net