صفحة الكاتب : نجاح بيعي

احتلال .. قصّة قصيرة .
نجاح بيعي
 حينما شرعوا بالكلام , كان العجوز ما يزال جالسا على كرسيه الخشبي يصيخ السمع لهم فقط !. قال أحدهم وهو ينفض التراب عن كاهله . بعد أن سدّ بإحكام باب الدار وراءه :
" للآن لم نر جنودا للاحتلال.!؟. ولكننا وجدنا هذا الكائن رابضا على طول البلد وعرضه ، كغول. بدا لنا للوهلة الأولى كسوُر عظيم . فانكشف لنا فيما بعد أنه سور ولكن لا كالأسوار، كان ناعم الملمس , وخلناه من اللباد المصفرّ لا من الحجر . ينطوي على عدة طبقات , بمقدمة منتفخة كقبة كرويّة عملاقة ، متصلة بانحناءات ضخمة ، له خاصرة حادة في الوسط . وقد أنغرز جله بثبات في الأرض .!!". وسكت .
بينما واصل آخر الحديث وهو يحكم غلق أحد الشبابيك بقطع الكرتون , ليمنع تدفق تراب العاصفة في الخارج .
" قاومنا الحجر الإجباري , وخرقنا حظر التجوال , وخرجنا عنوة في الشوارع . لم يكد يرى أحدنا الآخر , فالعاصفة الترابية هبّت ، مع بدأ الهجوم الأمريكي الصاعق ، وغمرت المدينة بالكامل ، وجعلتها شوهاء بلا معالم . لكنّا فوجئنا وألفينا هذا الشيء الذي هو بلا معالم واضحة أيضا ، جاثما وسط المدينة كشبح ".
كان العجوز ما يزال ملازما للصمت . وهو ينظر إليهم بعيون خلت من أي بريق . عطس صغير لهم وأخذ يتجشأ . بصق على الأرض متذمّرا , وقال بصوت يابس ، هو أقرب إلى الصفير .. " سقطت بغداد ، وهرب الطاغية !. يا سيدي .. أرجوك , قل لنا ما حقيقة هذا الشيء الذي هو لا كالأشياء . " .
بلع ريقه وأكمل : " الأمر المخوف لا في طوله ولا في عرضه فحسب ، بل في امتداده .. رأيته بأمّ عينيّ بعد أن حطّ بارضنا وغصّت به المدينة , كيف استوى وارتفع للأعلى ، حتى علا أسطح البيوت والبنايات ، فغاب بسحب الغبار العالي في السماء الملبدة . في البدء ظننا أن زلزالا قد ضرب البلد ، وعبث بالتضاريس , ولكن ... لا أعرف !؟ ." 
لم يبد العجوز أي اكتراث ، لما قيل من الكلام , وكأنّ الأمر بالنسبة اليه مفروغ منه . ولكنه ظل محافظا على هدوئه التام , فقام من مكانه واتجه ليسرج الكانون المعلق على الحائط المجصّص . كان الليل قد حلّ , وجللتهم ظلمة حالكة ، خلفتها شمس غائبة منذ أكثر من ثلاثين يوما , لم يروها بسبب الغبار ودخان الحرب . 
صفع ضياء الكانون وجوههم المغبرّة , فتمايلت الظلال عليها بوجل ، واستطالت شخوصهم الضاربة على الحيطان البالية , فباتوا للناظر كأشباح أموات , يكتنفهم كهف نائي ، هو أقرب للقبر منه إلى البيت .
دفع إحساسهم بالموات هذا ، شعورهم المفاجئ بنداوة الحياة . عندما نظروا إلى تراقص أعمدة بخار ساخن , تصاعد من كاسات الشاي ، كان قد صبّه العجوز . وقال للجميع بصوت سلطويّ هادئ : " استريحوا ! .. و أشربوا !؟ .
وفي جوّ من العزلة , يلفه الترقب والغموض , نطق العجوز . ومع أولى كلماته , كان جدار الصمت القاسي قد بدأ بالتفتت . وراح العجوز ينتقي كلماته بعناية فائقة . بينما أخذ الحضور ينصتون له منذهلين . كأنهم يستمعون لنبوءة غابرة , تقرأ على أسماعهم لأول مرّة , من كتاب قديم عفى عليه الزمن .
" ليل أمسِكم الطويل ولى بلا رجعة . فلا تجعلوا للأغيار مكان بينكم . فالحظر و الغبار والأغيار , ليل بهيم آخر طويل , وآخر كل ليل , كما تعلمون الصبح , ما دمتم يدا بيد سويّة . 
وأمّا الذي رأيتموه بالخارج ، فأنتم لم تروه على حقيقته !!. لأن كل واحد منكم رأى جزءً منه , ومن زاوية واحدة . وهذا الوحش لا يرحل أبدا , الاّ إذا عرفتم كنه حقيقته . ولمستم بأيديكم مكنون سره . حينذاك سيخشاكم ويرحل بلا رجعة كأمسكم الذي ولّى " . 
كان الصمت يلفّ الجميع . إلا ّ من ولولة الريح المغبرّة التي تسمع من الخارج , وأزيز الرصاص , ودمدمة الانفجارات الليلية , قد اعتادت عليها الآذان , وصار كالزاد اليومي . تابع العجوز كلامه :
" لقد كان لأسلافنا , مع قرين لهذا الوحش , جولة في أزمان غابرة . وحيرتكم ستتبدّد حينما أوريكم نموذجا هو مثيله , لا نزال نحتفظ به و نتوارثه خلفا عن سلف , كشاهد بطولة لأجدادنا " .
وهو جالس على كرسيه الخشبيّ القديم مد يده , وفتح صندوقا خشبيا باليا , وأخرج منه كيساً قديماً على هيئة جراب مصنوع من الكتان . فتح عقدة الحبل الملفوف ، حول عنق الكيس . ووسع بكلتا يديه حلق الجراب المزموم . وأخرجه للعيان بجلده القديم المدبوغ كتمساح صغير , ودهانه الأسود المعتم . بانَ له خطم منتفخ كقبة كرويّة صغيرة ، متصلة بانحناءات ضخمة . وله خاصرة حادة في الوسط . تمايلت رقبته المحزوزة بأخاديد حروب الزمن الغابر ، فاندلق لسانه الجلديّ الداكن . مطلقا رائحة نتنة كرائحة العطن ، وقد تدلت منه ذؤابتان طويلتان ، بدت كشاربيّ تنين دبّت في عروقه الحياة فجأة . رفعه للأعلى أمام الأنظار , وهزّه أمامهم عدة مرات ، وهو يرمقهم بنظراته الحادة , كمن يريهم سرا ّ من الأسرار . وقذفه بازدراء على الطاولة الخشبيّة التي تتوسط المكان .
أحدث ارتطامه جلبة قوية . وأثار سحابة من الغبار المتراكم . واستقر هناك في الوسط متوثبا بلا حراك . لم يلمح الجميع شكله ، وانتظروا ريثما ينقشع الغبار المثار حوله . ولكنهم أصيبوا بالذهول !. وغرقوا فجأة بخليط من المشاعر المتضاربة , لئلا يكون العجوز قد سخر منهم .. لكنهم وبعد أن تعرفوا عليه اكتشفوا أنّه " بُـسْـطـال " لجندي إنكليزي .. أبان الغزو البريطاني للبلاد .

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


نجاح بيعي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2016/04/10



كتابة تعليق لموضوع : احتلال .. قصّة قصيرة .
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net