صفحة الكاتب : علي جابر الفتلاوي

الاعتكاف في القرآن الكريم
علي جابر الفتلاوي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
 وردت مفردة ( الإعتكاف ) في تسع آيات من القرآن الكريم بثلاثة معان مختلفة، والاعتكاف لغة اللبث والحبس في أي مكان، قال الجوهري: عكفه أي حبسه ووقفه، وعكف على الشيء أي أقبل عليه مواظبا.
وجاء في ( قاموس الالفاظ القرآنية ): عكف على الأمر: لزمه مواظبا والعاكف المقيم، والهدي معكوفا: والبدن موقوفة ومحبوسة.
 جاء الإعتكاف في آيتين بمعنى المنع والصد قال تعالى: (( هم الذين كفروا وصدّوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله )) الفتح: 25 
والآية: (( إنّ الذين كفروا ويصدّون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والبادِ )) الحج: 25 
 فسّرالسيد محمد حسين الطباطبائي الآية الأولى في ( الميزان ): (( العكوف على أمر هو الإقامة عليه، والمعكوف الممنوع من الذهاب إلى جهة بالإقامة في مكانه، والمعنى: المشركون مشركو مكة هم الذين كفروا ومنعوكم عن المسجد الحرام ومنعوا الهدي  - الذي سقتموه - حال كونه محبوسا من أن يبلغ محله أي الموضع الذي ينحر فيه وهو مكة التي ينحر أو يذبح فيها هدي العمرة كما أن هدي الحج ينحر أو يذبح في منى، وقد كان النبي ( ص ) ومن معه من المؤمنين محرمين للعمرة ساقوا هديا لذلك))، وفسر السيد الطباطبائي الآية الثانية: (( المراد بصدهم منعهم المؤمنين عن أداء العبادات والمناسك فيه وكان من لوازمه منع القاصدين للبيت من خارج مكة من دخولها .. والمعنى الذين كفروا ولا يزالون يمنعون الناس عن سبيل الله وهو دين الإسلام ويمنعون المؤمنين عن المسجد الحرام الذي جعلناه معبدا للناس يستوي فيه العاكف والبادي )) أي المقيم والعابر. 
 ويأتي الإعتكاف بمعنى المكث والإقامة في المسجد بشروط حددها الفقهاء، والاعتكاف بهذا المعنى يُعدّ من العبادات، فقد ذكر الفقيه السيد محمد حسين فضل الله معنى هذا الاعتكاف لغة وشرعا: ((الاعتكاف في اللغة الإقامة على الشيء في المكان. وفي الشريعة المكث في المسجد بقصد التعبد لله وحده . . وهو مشروع قرآنا وسنة وإجماعا. ويبدو أن الإسلام قد شرّع الإعتكاف ليكون وسيلة موقوتة وعبادة محدودة تؤدى بين حين وآخر، لتحقيق نقلة إلى رحاب الله يعمق فيها الإنسان صلته بربه ويتزود بما تتيح له العبادة من زاد، ليرجع إلى حياته الإعتيادية وعمله اليومي وقلبه أشدّ ثباتا وإيمانه أقوى فاعلية. وأساس الإعتكاف يتمثل في المكث ثلاثة أيام في المسجد. وله شروط من أهمها الصيام، والتزامات منها اجتناب الإستمتاع الجنسي. ))
والإعتكاف بمعنى العبادة في المسجد هو أحد المعاني التي إشارت إليه آيتان من سورة البقرة، فهو عبادة شرعية تعبّد بها المسلمون في عصر النبي محمد ( ص )، ولا زالت هذه العبادة الروحية تُمارس من قبل المؤمنين تقربا لله تعالى، وقد فصّل الفقهاء شروط وضوابط هذه العبادة التي ينقطع فيها المتعبد داخل المسجد لله تعالى ليسمو في مدارج الطاعة والصفاء الروحي.
 قال تعالى: (( وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أنْ طهّرا بيتي للطائفين والعاكفين والرّكع السجود ))البقرة: 125 
وقوله تعالى:  (( ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد )) البقرة: 187 
 و((عاكفون)) ((والعاكفين)) في الآيتين بمعنى: ( اللبث المخصوص في المسجد للعبادة )، وهو متحصل من أحد المعاني اللغوية للاعتكاف: ( وهو اللبث والحبس في أي مكان )، والاعتكاف في المسجد عبادة، وفي الرواية أن النبي ( ص ) قال: 
 (( من اعتكف فليعتكف العشر الأواخر )).
ذكر صاحب ( التفسير الكاشف ) في تفسير الآية ( 125 ): (( وصينا ابراهيم واسماعيل بأن يحترما البيت، ويبعدا عنه كل ما لا يليق ... وأن يأمرا الناس بذلك، و(الطائفين) الذين يدورون حول البيت، و(العاكفين) أو المعتكفين من أقاموا في المسجد ولازموه، أو جاوروه للعبادة.)).
 وجاء في تفسيرالآية ( 187): (( يُحرم على المعتكف مباشرة النساء ليلا ونهارا، حتى التقبيل واللمس بشهوة.. والنهي هنا متعلق بمباشرة النساء إطلاقا في المسجد وخارجه، فإذا خرج المعتكف من المسجد، وجامع ليلا، واغتسل، ثم رجع إلى المسجد فقد ارتكب محرما وعليه كفارة من أفطر في شهر رمضان متعمدا .)) 
 فالاعتكاف كعبادة يحبس المسلم نفسه داخل المسجد وهو صائم، فيتجه لله خالصا في عبادته، والعبادات في الإسلام، منها ما هو الواجب مثل الصلاة أو الحج أو الصيام، ومنها ماهو المستحب مثل عبادة الاعتكاف، والمستحب من العبادة من يؤدِها فله الجزاء والثواب من الله تعالى، ومن لم يؤدِها فلا يحاسب أو يعاقب عليها، وقد يكون الاعتكاف واجبا، بنذر أو عهد أو يمين. يقول السيد محمد حسين فضل الله :((الاعتكاف مستحب ومندوب بطبيعته، وقد يجب بنذر أو عهد أو يمين.))
 ويتفق على ذلك جميع الفقهاء. وللاعتكاف شروط وآداب منها يجب أن يكون الاعتكاف في المسجد، وهو المسجد الحرام أو المسجد النبوي أوالمسجد الجامع للبلد، ( والمراد من المسجد الجامع، الذي يعمّه عامة الناس ويكثر دخولهم وخروجهم إليه، وليس مسجدا خاصا لقبيلة أو محلة خاصة.) 
روي عن الإمام الصادق (ع):((لا يصلح العكوف في غيرها، يعني مكة إلّا أن يكون في مسجد رسول الله، أو مسجد من مساجد الجماعة)). 
ولا يحق للمعتكف الخروج من المسجد إلّا للضرورة، روي عن الإمام الصادق (ع): (( لا ينبغي للمعتكف أن يخرج من المسجد الجامع إلّا لحاجة لابد منها، ثم لا يجلس حتى يرجع ))، ومن شروط الاعتكاف أيضا، أن لا يقل عن ثلاثة أيام على رأي الشيعة الإمامية، ومن شروطه أيضا الصوم، روي عن الإمام الصادق (ع): 
(( لا اعتكاف إلّا بصوم ))، وقد توافق الشيعة الإمامية مع الحنفية والمالكية على شرط الصوم، أما الشافعية والحنابلة فلم يشترطوا الصوم.
الاعتكاف إذن رياضة روحية يروم من يقوم بها أن يتفرغ إلى عبادة الله سبحانه بعيدا عن الضجيج ولهو الحياة، ليخرج المعتكف بعدها أكثر قربا إلى الله تعالى، ومبتعدا عن ملذات الدنيا وشهواتها ومغرياتها، ويفترض أن يخرج المعتكف زاهدا بالدنيا ومنافعها، لا يهمه شيء إلّا رضا الله تعالى، وإلّا تحول الاعتكاف مجرد طقس شكلي يمارس بشكل آلّي بعيدا عن الآثار والمنافع التي يجب أن يتركها في النفس والروح، الاعتكاف ممارسة عبادية تترك آثارها على نفس الممارس إيجابا إذا تفاعل معها بشكل صحيح، إضافة للثواب من الله تعالى، ونقول لمن يؤدي هذا العبادة المستحبة هنيئا لك، وأنت في المسجد معتكفا صائما محتسبا، وندعو لكل معتكف أن يخرج من اعتكافه وهو أكثر قربا إلى الله تعالى، وأكثر خدمة لعيال الله، وما أكثرهم في مجتمعنا العراقي، بل وما أكثرهم في مجتمعاتنا الإسلامية.
 ومن معاني الاعتكاف البقاء والاستمرار على عبادة الأوثان رغم آيات الله الكثيرة التي سفّهت هذه العبادة وأبطلتها، وقد شخصنا خمس آيات في هذا المحور، ثلاثة آيات في بني إسرائيل، وآ يتين في قوم نبي الله إبراهيم، إما الآيات الثلاث فهي:
 قال تعالى: (( وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا آلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون )) الاعراف: 138 .
 وقوله تعالى: (( قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى)) طه: 91 وقوله تعالى:(( وانظر إلى إلهك الذي ظَلْتَ عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليمّ نسفا)) طه: 97 . 
الآيات الثلاث تتحدث عن محور واحد، هو المواظبة والمكوث على عبادة الأصنام من قبل بني إسرائيل، ، نستعرض تفسيرها معتمدين على كتاب (التفسير الكاشف)، قوله تعالى: (( فأتوا على قوم يعكفون ..)) (( وقعت أبصارهم – بنو إسرائيل – على قوم وثنيين يعبدون الأصنام، فطلبوا من موسى أن يجعل لهم صنما يعبدونه، طلبوا هذا وهم يعلمون أن موسى رسول الله، وأن مهمته الأولى الدعوة إلى التوحيد ومحاربة الشرك، ويعلمون أن الله أغرق فرعون وجنوده لشركه، قال بعض المفسرين: لو أنهم بأنفسهم اتخذوا لهم آلهة لكان الأمر أقل غرابة من أن يطلبوا إلى رسول ربّ العالمين أن يتخذ لهم آلهة )) والآية الثانية ((قالوا لن نبرح عليه عاكفين..))، هذا جواب الذين عبدوا عجل السامري إلى هارون أخ موسى عندما حذّرهم من عبادة العجل الذي صنعه السامري لهم من الذهب، وقال لهم: 
(( ما الذي غرّكم من هذا العجل حتى افتتنتم به هذا الافتتان وانصرفتم إليه عن خالق السموات والأرض، فاتبعوني أهدكم سبيل الرشاد، فما كان جواب قومه، (( لن نبرح عليه عاكفين )) أي مقيمين حتى يرجع إلينا موسى، لنرى رأيه في ذلك .. وكأنهم ينتظرون موسى أن يسفّه هرون في نهيه، ويصوّبهم في عبادة العجل لأنه من ذهب)). ويعلق الشيخ محمد جواد مغنية في كتابه ( التفسير الكاشف )، تعليقا مناسبا على هذا الموقف عندما يقول وكلامه حق وصدق: (( وكل من آثر المال على دينه وضميره، أو اتبع ضالا على ضلاله، فهو من أتباع السامري وحزبه، وقد ابتلى الله عباده في كل عصر بعجل له خوار مصنوع من ذهب، أو من نسل آدم، يميّز به صفوة خلقه من الهمج الرعاع، أتباع كلّ ناعق)). 
أما الآية الثالثة (( وانظر إلى إلهك الذي ظلْت عليه عاكفا )) فهي أيضا تتحدث عن  محور عبادة الأصنام من قبل بني إسرائيل، (( هذه هي نهاية كل مزيف ماكر .. الخزي والهوان، والنسف في البحر، أو الطرح في القمامة )).
ويضيف الشيخ محمد جواد مغنية معلقا على تصرفات بني إسرائيل في تعاملهم مع نبي الله موسى وأخيه هارون: (( وكم تمنيت وأنا أفسر الآيات التي نزلت في بني إسرائيل، وحكت شذوذهم وغرائبهم، كم تمنيت أن تتألف لجنة من العلماء بالإنسان وغرائزه لدراسة الإسرائليين وطبيعتهم في ضوء سيرتهم وتأريخهم القديم والحديث لنعلم هل هم من البشر ظاهرا وواقعا، أو أنهم لا يشبهون الناس في شيء، ولا أحد من الناس يشبههم في شيء إلا في الشكل والصورة؟ كما يومئ إلى ذلك الكثير من آي القرآن الكريم. ))  
أما الآيتان الأخريتان اللتان تتحدثان عن ملازمة عبادة الأوثان هما قوله تعالى:
  (( قالوا نعبد أصناما فنظّل لها عاكفين )) الشعراء: 71
 وقوله:(( إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون)) الانبياء:52 
الآيتان تتحدثان عن قوم إبراهيم وملازمتهم عبادة الأوثان، والحوار بين نبي الله إبراهيم وقومه ((عندما قال لهم إبراهيم (ما تعبدون) قالوا ( نعبد أصناما ) نداوم على عبادتها وتقديسها، واعترافهم بعبادة الأصنام يُشعِر بأن كلمة صنم لم تكن تعني في مفهومهم الذمّ كما نفهم نحن، بل تعني العظمة والجلال.))، وفسر الشيخ محمد جواد مغنية الآية الأخرى: (( التماثيل الاصنام على صورة الآدميين وغيرهم، وعكف عليه واظب عليه ولزمه، هذا سؤال موجه بطبعه إلى كل مسؤول عن أعماله وتصرفاته، كيف تقدسون وتعبدون ما لا يضر ولا ينفع، وأنتم من ذوي العقول والإدراك. ))  
من خلال استعراض الأيات التسع ظهر لنا ثلاث معان للإعتكاف، الأول بمعنى المنع والثاني اللبث في المسجد لغرض العبادة، والثالث ملازمة عبادة الأوثان.  
 
المصادر والمراجع :
1 – الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، ج 14 ، ج18 .
2 – مغنية، محمد جواد، التفسير الكاشف، ج2 ، ج9 ، ج16 ، ج17 .
3 – الجوهري، إسماعيل بن حمّاد، معجم الصحاح. 
4 – إبراهيم، محمد إسماعيل، قاموس الألفاظ والأعلام القرآنية. 
5 – فضل الله، محمد حسين، فقه الشريعة، ج1 .
 

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


علي جابر الفتلاوي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2016/06/07



كتابة تعليق لموضوع : الاعتكاف في القرآن الكريم
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net