صفحة الكاتب : ادريس هاني

المثقف المزيّف + السياسي المزيّف: محنة العقل العربي
ادريس هاني

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
إذا أردنا أن ننمّي أفكارا حول علم نفس "الظواهر الصّوتية" ، فلا بدّ من بحث الدوافع المرضية للمهرولين إقداما أو هروبا في الإحساس العارم الذي تذكيه الهشاشة الذّاتية..هو ليس ظاهرة شعرية تتقوم في الرغبة في الإطناب على حساب المحتوى، بل هي أيضا ظاهرة تقوم على شروط قصوى للاقتصاد السياسي للقول والفعل.. الرغبة في الكلام كالرغبة في الصمت إذا لم تكن مبررة تبريرا موضوعيا فهي حالة غير سويّة قابلة للتفاقم المرضي..المتوحّدون الثرثارون لا يقلون عن المتوحّدين الصامتين، فثمة من يهرب في الصمت وثمة من يهرب في الكلام، والنتيجة تظل واحدة، الهروب من الذّات. مع أن الخطأ الشائع يرى أنّ فكرة الكائن العربي بوصفه ظاهرة صوتية نابعة من الذهنية الشعرية العربية، إلاّ أنّ الصواب أنّ الظاهرة الصوتية هي نقيضة للشعر باعتبار أن هذا الأخير ليس قولا فحسب بل هو قول موزون لا يسمح بالارتجال إلا في الحالات الناذرة، بل الشعر هو قيد جمالي للكلام، الكلام الشعري صناعة..والحال أنّ الواقعين في الظاهرة الصوتية لا يزنون الكلام شكلا ومضمونا، بل يصبونه صبّا في قوالب تفتقد لقوة المضمون وجمالية التواصل..غير أنّ الاستثمار في الكلام قد تكون له مردودية كبيرة من وجهة نظر الاقتصاد السياسي للثرثرة..ومن ذلك ظاهرة التكرار القاتل والادعاء الممل والسمسرة في المعرفة والحقيقة وكل ما تساهم الوسائط في صناعته في السوق السوداء لخبراء الفكر والسياسات..تتميّز هذه الحالات المرضية بكون صاحبها يقتقر إلى فنّ التواصل وجماليته وذلك بافتعال الهيرارشية الطبقية بين المرسل والمرسل إليه، ديكتاتورية الخطاب التي يعززها التموضع العمودي للرسالة التواصلية..فالكائن اللاتواصلي المرضي يبدأ بالحديث وينهيه على وفق حاجته للكلام..واستراتيجيته تميل إلى القسوة والفظاظة التي يفرضها على محاوره باعتباره في نظره مجرد متلقّي..يوهم المريض نفسه بأنّه مرجعية التفكير والقول، ويتحول التواصل معه إلى حالة الشيخ والمريد..لا يلتفت المريض إلى هذا الاعورار الضارب في ضلوع جسده النفساني القائم على تعويض الفقد الذّاتي بأشكال من التموضعات التعويضية التي تتسم عادة بالعجرفة التي تخفي الإحساس العارم بالهشاشة..في البيئات التي تعاني الفوضى، تتلوّث البيئة الثقافية والسياسية بهذه الظواهر الصوتية التي لها نظائر في السوق السوداء..وضعية علم نفس السمسرة الثقافية والسياسية..
إنّ عدو الظاهرة الصوتية السياسية والثقافية هو المثقف..هذا الأخير يمثل صدمة حقيقية للظاهرة الصوتية لأنّه يذكّره باستمرار بمهامه المفقودة..ويذكره بحالة مروقه من واجباته التي تفرض عليه أن يكون بعيدا عن الحالة الكرنفالية المستنزفة للعقل والقلب..ليس في جعبة هؤلاء مفهوم واحد رفدوا به العقل العربي، بل حتى كلامهم لا ينمّي التراث الاستيتيقي العربي..إنّه يساهم في تلوث المشهد العربي الذي بات قوامه الإدعاء وظاهرة السّمسرة والعجرفة الكاريكاتورية للضعفاء.. ترى ما هي نتائج هذا المرض المزمن الذي تعيشه ساحاتنا الموبوءة بخبراء الفكر والسياسة ونظائرهما المزيفين؟
إن أهم نتاج لهذه الوضعية المرضية هو تراجع الإبداع..الاكتفاء بإعادة توزيع الموجود واستهلاكه ما يؤدّي إلى ظاهرة التكرار..يلعب التكرار دورا كبيرا في حياتنا الثقافية والسياسية، وهو أحد أسباب جمود العقل العربي..التكرار يعني الحصر والانسداد والملل..يتحايل مرضى الحقل الثقافي والسياسي على شكلانية الأداء وعلى مورفولوجيا الإنشاء لإحداث رتوش غير نافعة في الخطاب..وهكذا لم تعد مهمتهم الإبداع بل أصبحوا جزءا من وسائط المعرفة..دعاة لا مبدعون..وتصبح المسألة بالغة الخطورة حينما يبلغ التلوّث حدّا يفقد فيه العقل العربي القدرة على التمييز بين الإبداع والتكرار..وتنشأ أجيال جديدة على هذا الإلتباس، لأنّ المرضى يراهنون على هذه الأجيال التي تفتقر إلى الخبرة..ويزداد هذا الخطر لمّا يسعى هؤلاء المرضى لمحاصرة أهل الإبداع وإقصائهم بطرق ووسائل تنتمي إلى علم النفس النّازي..نحن خرجنا إذن من علم النفسي المرضي للمثقف والسياسي المزيّف إلى سوسيولوجيا مجتمع المرضى الرمزيين..هذه السوسيولوجيا توقفنا على مظاهر النفاق الذي يعززه سلوك التواهم بين المرضى، أي المجاملة المتبادلة التي تقتل العملية النقدية التي من دونها تتوقف الحياة الفكرية والتنمية السياسية..تستند سوسيولوجيا النفاق للمثقفين المزيفين على السلوك البطرياركي ونزعة الإقطاع ومستويات من التّسلّط، لأنّ الشخصية المزيفة لا تستطيع أن تقدم نفسها في صورة أنا عارية بل لا بد أن تقدم نفسها في صورة سلطة عارية مفتوحة على كل مستويات العنف الرمزي..يعيش المجال العربي حالة حروب وهي فرصة لبروز تجار الحرب وأيضا ظاهرة مثقف أو سياسي الحرب..إن حالة المستغنين في زمن الحروب هي ذاتها وضعية نجوم ثقافة وسياسة زمن الأزمات..تلعب تكنولوجيا الوسائط دورا استراتيجيا في تكريس الرداءة وبيئتها الموبوءة..لأنّ العالم السفلي للتخلّف لا يستمر من دون المراهنة على المثقف الزائف والسياسوي الذي يحترف التموضع والتكيّف حسب موجات بيئة الحرب ومقتضيات السّمسرة..هذا المتثاقف وذاك السياسوي هو أبعد الكائنات عن قيم الحرّية ومتطلّباتها ولا يحسنون العمل إلاّ في أزمنة الفوضى..هم عنوان تخلّفنا العربي..عنوان النذالة: نذالة المثقف الزائف المولع بالتكرار ونذالة السياسوي المولع بالسمسرة والدّجل..كائنات تعيش على سبيل الخفّة..خفة القول والفعل..يتساقطون كالجراد على هامش الكفاح التاريخي لطلائع التغيير، ولكنهم يضفون الإلتباس على مكتسبات الكفاح ويلوثون جزء من جينيالوجيا الحقيقة التي تتغدّى على التضحية المادية والرمزية..فالمثقف الحقيقي والسياسي الحقيقي لا يمكن أن يكون دجّالا أو سمسارا أو نذلا.. إنهم بالفعل ظواهر طفيلية تشكل الثّمن التاريخي للخضوع والصفقات القاتلة بين النقاء الطليعي ورسالة الكفاح النبيلة وبين المهرولين والمنافقين..هناك سباق يتزايد بشكل مرضي كما يقتضيه اقتصاد النذرة..هذه الظواهر هي عامل إضعاف الجسد العربي..هم مصدر التّفاهة التي تحيط بالحياة العربية..هم حرّاس معبد الانتهازية..
المثقّف الحقيقي لا تعطى له أوامر..ولا يخضع لهيرارشيات الضعفاء..ومن الخطأ التاريخي إخضاعه لقواعد لعبة علم النفس النازي..إنّ انتقام المثقف لا حدود له..وثورته عارية عارمة..وضربته الرمزية تربك الفلك الدّوّار..المثقف الحقيقي المتمتّع بالشجاعة المعرفية والذي يستمدّ قوّته من السلطة المعرفية والرمزية التي لا تتوقّف على بروتوكول النّذالة ولا على إيقاع مارشات العلاقات العامّة..يصبح المثقف متوحّشا في بيئة التّفاهة، لأنّه يرفض سياسة الإخضاع.. إنّ البيئة التي يتمّ فيها الاستهتار بالمثقف هي بيئة حقيرة بكل المقاييس التي لها علاقة بقياس درجة التخلف الثقافي والاجتماعي والسياسي في المجتمعات..ومعايير قياس المثقف هي الأخرى تعاني من التباس في بيئاتنا التي تعيش الفوضى..
اليوم يحتاج المجال العربي إلى ثورة المثقف غير المدجّن..المثقف الفرد المتفرّد خارج أقانيم الأنماط المتداولة للمجاملات، وأن يكون رهانه الثوري تحدّده مهمّته التاريخية بوصفه ناقدا..تقتضي مهام المثقف العربي أن يكافح من أجل نبل قضية المثقف من تحرّش الفساد الباحث عن مسوغ ثقافي..يتعين على المثقف الحقيقي أن لا يكثرت لاستراتيجيا الحرب المعلنة ضدّه والتي تستند إلى أساليب علم النفس النّازي..لن ينتظر الإنصاف ولا الاعتراف مادام هو لا ينتمي إلى صالون المثقف الإمبريالي أو قبيلة المثقف الرجعي..ربما قد يهان أو يتم الاستهتار به من أسوأ الأنذال..ربما سيتعرّض لكل أشكال ومستويات التفاهة والعدوان..ولكن رسالته تاريخية..رسالة المثقف القدّيس..المثقّف الذي لا ينخرط في ميلودراما التّملّق والانبطاح وثقافة العبيد المقوّضة لنزعة التحرّر والتحرير..المثقف هو آخر من يمكن استعباده..إن ثورة المثقف الحقيقي لا حدود لها..ولذا فهو في هذا الزمان الرديئ مستهدف..وأحيانا يتهدّده الإحباط والتكرار وتكالب التزييف وخذلان البيئة الحاضنة للتّفاهة..ومع ذلك عليه أن يستمر..لأنّ قدره أن يكون قربان الحقيقة..لأنه متعاقد مع الحقيقة وليس مع الأنذال..لأنّه مثقف تعيّن عليه دفع الثّمن..

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


ادريس هاني
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2016/09/05



كتابة تعليق لموضوع : المثقف المزيّف + السياسي المزيّف: محنة العقل العربي
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net