و....لازال العرض مستمراً... (1)..!!
عبد الهادي البابي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
طرق بابي في ليلة شاتية ماطرة ، البرد فيها يغوص في مسامات العظام الهزيلة التي أحنتها قساوة السنين ، وأرهقتها ضراوة الأيام ، رجل في أعتاب الستين من عمره ..نحيف البدن ، غائر العينيين ، قال لي بلهجة يائسة ومؤلمة : هل صحيح أنت صحفي تكتب عن المشاكل وعن حياة الناس ..!!
إبتسمتُ له ..ورحّبت به وأدخلته إلى غرفتي الصغيرة التي كانت في تلك اللحظة أشبه (بالثلاجة ) من شدة البرد ، لأن صوبتي (المصونة ) لم تعرف النفط منذ شهر مضى ، وأما المدفأة الكهربائية الصغيرة ، فقد عافها الزمن ، وعشش فيها العنكبوت بسبب الأنقطاع الدائم ( والحمد لله ) للتيار الكهربائي ..الذي أصبح الحديث عنه ، كالحديث عن (الطنطل أبو سبع عيون) الذي كانت العجائز أيام زمان تخّيف به صبيان المحلة المشاكسين!
حكى لي قصته الحزينة...وأنا أنصت له بكل خشوع وألم ..بدأ من سنين الخوف والقهر والحروب والعسكرية والفوضى ، فقد فاتته الدراسة بسبب الإعتقالات والملاحقات والسجون والظروف الإستثنائية الصعبة التي مرّت عليه في حياته ، وبعد أن تم تسريحه من الخدمة العسكرية تزوج أخيراً من بنت الناس في بداية منتصف التسعينات ورزق بخمسة أبناء ذكور وأناث ..عمل في كافة المهن المتعبة [العمل في معامل الطابوق ..المطاعم ..بيع الخضروات..بيع العتيك ] ولكنه لم يتمكن من شراء دار أو قطعة أرض سكنية يبني عليها بيتاً يتخلص من كابوس الأيجار وجشع المستأجرين منذ عشرين عاماً ، حاول عشرات المرات أن يسجل في مكاتب الرعاية الإجتماعية التي فتحتها الدولة بعد سقوط النظام السابق ولكن المسكين لم يجد ( واسطة أو عرف ) يسّهل له ترويج معاملته عكس بقية الناس الذين يأخذ بعضهم ثلاثة رواتب ، إضافة إلى أوضاعهم المادية الجيدة !!
حاول أن يجد تعيين في دوائر الدولة الخدمية ..ولكن دائماً يُطلب منه الشهادة الرسمية ( على الأقل الثالث متوسط )..بينما أستطاع غيره أن يجلب الدكتوراه (بفلوسه وعلاقاته )من أجل الترشيح للبرلمان أو للمناصب العليا في الدولة !
وجد أرضاً منعزلة في أطراف المدينة ، بنى عليها بيتاً متواضعا وأسكن فيها أسرته المحرومة ، ولكن يد الدولة (الكريمة جداَ)، إمتدت إليه بكل قساوة وعدم رحمة فأخرجته وعائلته من داره ..وألقته على قارعة الطريق مع عياله ، ثم قامت بهدمها بالشفلات وساوتها بالأرض ، بحجة أن المكان سيخصص متنزه للمواطنين !! وعاد مرة أخرى إلى دوامة الأيجارات ووحشية أصحاب الأملاك وتفننهم بزيادة الأيجار كل يوم !!
وهو اليوم يسكن في دار مؤجرة ( تجاوز ) لاتتجاوز مساحتها 70متراً ، لاتتوفر بها أبسط خدمات الحياة البشرية ...ولكنه يقول : المشكلة ليست أنا وزوجتي .. فنحن قد أنتهى عمرنا ..وتصرمت أيامنا ..وسلمنا أمرنا إلى الله الواحد الأحد ،ولكن المشكلة أبنائنا وبناتنا الذين الآن هم في عمر الزهور ، وجميعهم طلاب مدارس ..ولديهم حاجاتهم ومتطلباتهم اليومية ..وهم لايجدون شيئاً يأكلونه ويفطرون عليه في الصباح ..لأن الوجبة منقطعة من زمان ..ولايوجد في داري سكر أو شاي أو حليب صابون أو تايت أو دهن .. وأنا لاأستطيع أن أشتري هذه الأشياء يومياً لهم ..فكيف أطعم أطفالي ومن أين لي ذلك وأنا لاأملك راتباً أو وظيفةً أو عملاً ..ولاأملك شيئاً في هذا البلد ..وقد تكاثرت علي الأمراض في السنوات الأخيرة ، وأنا الأن أعاني من قلة النوم وكثرة الألم والأحساس بالذل والمهانة من هذه الحياة !!
ثم قال بنبرة فيها يأس فضيع : تراودني أفكار أحياناً أن أرضخ لرغبات أولادي بترك الذهاب إلى المدارس ، وأدعهم يتكسبون طعامهم من أعمالهم ، لأني لاأستطيع أن أستمر في هذا الحال المزري ، وأحياناً أفكر أن [أنتحر أنا وأولادي وبناتي حتى نتخلص من هذه الحياة البائسة اللعينة ]!!
ثم أنفجر باكياً وهو يتلوى من الألم والحزن ..فلما رأيته على ذلك الحال ، جرفتني الرغبة معه بالبكاء ، وتدفقت دموعي بكل حرارتها ، حتى شعرت بأن روحي تكاد تخرج من بدني ، ولكنني تمالكت نفسي ، وهدأت من إنفعال الرجل المسكين ، ووعدته بأني سأكون في خدمته ومساعدته ، وأفهمته بأن تفكيره بمنع أولاده من المدارس سيحرمهم من حياتهم الحقيقية في المستقبل ، وسيقعون في نفس المأساة التي عليها والدهم اليوم ، أما عن قضية الأنتحار ..فأفهمته بأنها معالجة خاطئة لحل المشاكل ، وأنها طريقة غير مستحسنة وغير منطقية للهروب من واقع الحياة ومشاكلها التي ربما يمر بها أكثر الناس في هذا البلد !!
وفي الحقيقة ..كنت أنصح الرجل المسكين ...وأنا في قرارة نفسي أقول بأن له كل الحق في التصرف بحياته وفناء عمره ..هذا العمر الذي لامعنى له عندما لايجد من يهتم به أو يقدم له ، نعم ..فعندما يفقد الإنسان كل مقومات الحياة من ..السكن الشريف ..والراتب الذي يليق به ..والضمان الإجتماعي الذي ينتشله من بؤسه وفاقته ...والأهتمام به ورعايته علمياً وفكرياً ...وعندما لايجد الدولة تهتم بشؤنه وأحواله أو تتابع أخباره ، فماذا ننتظر منه حينئذٍ؟؟
أقول : لقد أصغيت لهذا الإنسان العراقي المنكوب جيداً ، وأستمعت لمشكلته ، وأنا معه في كل ماقاله من أحساسه بالضياع والغبن والتهميش ، ولقد قدمّت له شيئاً من المساعدة القليلة جداً ..لأنه على قول المثل (الموزر وقع على العريان ) ..وهدأت من روعه ، ولكني أقول بصراحة ، أنا لا أضمن ثورته وهيجانه مرة أخرى ، ولاأستبعد أن ينفذ أفكاره المأساوية المرعبة ،فيقوم بأنتحار جماعي مريع لأن الظروف تدفعه دفعاً - وكما حدث أخيراً في الكثير من أوساط العوائل الفقيرة وبعض الشباب العاطلين عن العمل الذين وجدوهم وقد شنقوا أنفسهم وفارقوا الحياة بعمليات إنتحار مختلفة - أقول إن هذه الظروف قد تدفعه بعيداً عن أحضان الوطن الذي تخلى عنه في ساعة الشدة !! وكم ياترى مثل هذا الإنسان البائس وعائلته المنكوبة من يعيشون اليوم على هامش الوطن ...وفي زواياه المنسية ... التي لايُسمع فيها سوى حطام الآمال والأحلام ... وقهر السنين وقسوة الأيام !؟
.................
(1)..(العرض مستمر): ...لأني كتبت هذا الموضوع قبل 8 سنوات ونشرته في عدة صحف...واليوم أعيد نشره لأن صاحبي الفقير قد مات قبل أيام ... ذهب بحسرته وغصته ..مات بسبب الأمراض والبرد والفاقة والحرمان.. مات وبقيت عائلته تفترش الأرض وتلتحف السماء .!!
قناتنا على التلغرام :
https://t.me/kitabat
عبد الهادي البابي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat