صفحة الكاتب : ادريس هاني

المهدوية أو الحرب العقائدية القادمة
ادريس هاني

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
ليس للحرب حدود، فالحرب أولا وقبل كل شيء على هذه الأمة هي حرب حضارية، تستعمل فيها تفاصيل الثقافة والسياسة والاقتصاد، وستكون الحرب القادمة تستهدف واحدة من أخطر العقائد لدى المسلمين والمسيحيين، تلك العقيدة التي ليس لها من مائز في الإسلام الشيعي سوى أنّها أوفر تمركزا وأكثر تنسيقا، أعني المهدوية.هو حديث جرى على لسان مسؤولين وقيادات سياسية في المنطقة هذه الأيّام، وجب أخذه بعين الجدّ لا المهاترات الجدلية.وطبيعي أنّ المشروع الأمريكي والصهيوني والوهابي السياسي غير معني بالبعد المعياري لهذه العقيدة ولا مدى صحّة أسانيدها من عدمها، ولكنه ناظر في آثارها على الوجدان الشعبي وما تثمره من آثار مناهضة لمشروع الاحتلال. نحن أمام جيل من فلسفة الدّين التي تحرّك العقل الأمريكي تعيدنا إلى إرادة الاعتقاد، أي إلى براغماتية وليام جيمس، وكذا تداوليات العقل الأمريكي سواء في اللغة أو الدين أو البزنيس..العلاقة هنا بين فعل التديّن و الأثر الواقعي على الانتاج تماما كأثر الكلام التداولي على مستوى إنتاج المعنى والإقناع، لنتذكّر ماكس ويبر والعقد المقدّس بين البروتستانتية والرأسمالية..بل وحتى عما اعتبر الأسس اللاعقلانية للرأسمالية نفسها..التداوليات الأمريكية بخلاف علم الكلام الرجعي الذي يخلط بين الحقيقة والأثر، هو يبلغ بنزعته البراعماتية حدّ اعتبار اللامعقول منتجا في سياق تداولي ما لللمعقول..المقاربة الأمريكية تراعي أثر الاعتقاد وفعالية السلوك في تحقيق المصلحة التي تتحدد في شريعة الاقتصاد السياسي..ذلك هو ما ينبغي أن يفهم من هذا الجدل الذي يستند إلى خلفيات غامضة ولكنه يظهر على السطح كنقاش عمومي ويختفي خلف تسطيح بيانات الرجعية العربية..علم الكلام الأمريكي هو علم كلام التداوليات الكاسحة للمعقول والمنقول، وهو علم كلام يقوم على إمبريالية المصلحة الخاصّة.ما الذي يزعج قادة الرجعية هذه الأيام بخصوص عقيدة المهدوية الشيعية مع أنّ مشكلتهم مع إيران والمقاومة تقوم على حسابات جيوستراتيجية دقيقة تستند إلى أهداف تداولية لكن من منظور مختلف؟ وماذا يعني أن يصف قائد رجعي عقيدة المهدوية الشيعية بالمختلقة والخرافية بينما لا يستطيع أن يكذّب فتوى المفتي العام التي تحرم القول بكروية الأرض؟ هنا لا بد من البحث عن العنصر المؤلم في هذا الاعتقاد وصلته بالنكسات الجيوسياسية، حيث يبدو أنّ المهدوية شكّلت لدى الاسلام الشيعي حصانة ضدّ الإحباط ومحفّز لتجاوز قهر تاريخانية الهزيمة..هي عقيدة تحول دون تتبيث فكرة الرجل الأخير الليبرالي الذي سوّقت له أيديولوجيا الإمبريالية الجديدة: نهاية التاريخ.. الصدام مع بنية تفاؤلية ممتنعة أنشأت لها تاريخيا علاقة خاصّة مع لعبة الإخضاع..الفكرة المهدوية الموصولة بفكرة الخلاص الحتمي هي أساس قيام التفاؤلية الشيعية، هي ذاتها التفاؤلية التي أعادت الشيعة للانخراط بقوة في قضايا أمتهم، والخروج من ضيق الطائفية والقبض على الأسئلة الحضارية وفكرة المقاومة والتحرر والتحرير. وهذا هو ما يخيف الإمبريالية أكثر مما يعنيها صحة أو خطأ هذا الاعتقاد.. يزعجهم الشيعة حينما نسجوا علاقة أخرى مع فكرة الانتظار: علاقة انتظار ديناميكي لا يسمح بسياسة الكرسي الشّاغر..انتظار الأصلح لا الصالح..انتظار الأفضل لا المفضول..انتظار الأعدل لا العادل..انتظار الخلاص لا التدافع..فلسفة أخرى غابت عن الإمبريالية والرجعية بعد عجز تاريخي عن قراءة الكتاب الأعمق لصعود نجم الشيعة واندماجهم في محيطهم وانخراطهم في تيّار الممانعة الذي أضفوا عليه من خصوصيات اعتقادهم زخما هو ميراث أمّة في منعطف تاريخي يتسدعي الاستفادة من كل تراثها ومن كل مدارسها وإمكانياتها التي هي ملك عام للأمة لا لخصوص طائفة.اليوم بدأ المخطط يتّجه لضرب هذه العقيدة عند الشيعة ليس جريا باتجاه تصحيح المعتقد، فهم ضربوا العقل والضمير العربي برمته، بل إنّ الغرض هو القضاء على كل عقيدة حيوية من شأنها أن تبعث الشعوب وتصل الأمة بالمستقبل وتنشر عدوى الأمل في مجال جيوبوليتيكي خضع للإحباط وهزيمة العقل والقلب..اليوم يدركون أنّ هذه العقيدة هي التي جعلت إيران تصمد في وجه العالم، وهي نفسها التي جعلت المقاومة في لبنان تخطئ حسابات الجيش الذي لا يقهر وهي نفسها التي جعلت الحشد الشعبي يركل داعش الأسطورية ويجبرها على الهروب وهلم جرّا..اليوم هناك مخطط تقوده قوى عربية رجعية للدخول على خطّ هذا المعتقد لاحتواء الجماهير الشيعية وإدخالها في ضرب من الإلتباس أو نزع التفاؤلية من وجدانها أو دفعها للاستقالة من مهامها ونزعتها المقاومة للظلم، بتعبير آخر إنهم يحاولون تغيير المزاج الشيعي تجاه الحياة والسياسة والمقاومة، وحينها يقبلون به كجمهور ينطبق عليه حتما جمهور سمّاه الجابري: العقل المستقيل..تختزل الفكرة المهدوية كل حكاية المستقبل في الوجدان الشيعي، ذلك لأنّ مخلّصهم يسكن في اللامكان واللازمان، في برزخ من الكينونة لا تطاله يد الاستكبار..هو هناك، في منطقة تنتمي لشعرية المكان أو بتعبير هونري كوربان " لا يمكن أن نرسم لها إحداثيات في خرائطنا"..ولكن جماهير المهدي حاضرة تستلهم هذا الزخم الرمزي من غيابه الذي يعزز حضوره المكثف..الإمبريالية تخشى من الأمل لا سيما إذا كان أمل الشعوب بعيد المدى..غيبة المهدي تعني تهريب الأمل من بين أيدي المستكبرين ..أصبح الأمل غائبا/حاضرا لا يمكن أن ينال منه أحد..مهدوية الشيعة التي كسرت جبروت الميسي لليمين المتطرف..كسرت كآبة الهزيمة..وأعادت رسم شاعرية المقاومة..هم يريدون احتواء جمهور الشيعة من خلال شكل من الفوضى الخلاّقة لضرب النسق المتين لعلم كلام الخلاص المهدوي الذي بات هو الثيمة المستهدفة في المخطط المناهض للمقاومة..ستتحرك نوادي الرجعية وتركض على مسافات وبلا حدود في تحيين الجدل في هذا المفصل العقائدي الذي تكمن خطورته في آثاره التي أربكت معادلة الصراع..يريدون إعادة الشيعة إلى كهف الانتظار السلبي لينفردوا بالباقي..إنّ داعش ليست هي ما يخيفهم لأنهم صنعوها لهذا الغرض، ولكن مشاريعهم الإمبريالية لا تملك وسائل سوبرا - تاريخية إلاّ بانتزاع الوجدانية التفاؤلية الشيعية وإدخال الشيعة في عصر الحيرة والاحتراب الداخلي واليأس والكآبة..الرجل اللبرالي الأخير لا يجد له موقع في خريطة اللامكان المهدية، ومن هنا الخطر الذي ستجند له الرجعية للخوض في معركة تستهدف أنتروبولوجيا الاعتقاد وتهدف إلى الدفع بالشيعة للاستقالة للتفرد بالمنطقة. 
سوف نشهد في الآونة الأخيرة موجة من أدعياء المهدية في كل الأصقاع، وربما ستلصق بهم أعمال مشينة وربما سيصلون بينها والإرهاب لتغيير الأنظار عن داعش وأعمالها..وسوف تجد مشايخ محسوبين على الشيعة ممن يتم استدراجهم لهذا الغرض، وسيشغلون الشيعة بالجدل حول المهدي حتى ينسحبون من ساحات المقاومة.. سينضم إلى هذا المخطط أقوام عفو الخاطر أم بالتحكم عن بعد وشراء الذمم، شكل آخر من الحروب القذرة..كل هذا، ليس مخططا وهابيا عفويا، ولا موجة عارضة بل هو تنفيذ لرأي سبق وعبّر عنه فوكوياما في محاضرة له لعلها داخل إسرائيل، مفادها أنكم لن تظفروا بالشيعة ماداموا كجسم يطير بجناحين، أحدهما: المهدية..
إنّ النقاش حول المهدوية لم يعد عقائديا خالصا بل هو نقاش ذو أبعاد حضارية ووجودية..يجب استحضار الأبعاد الجيوبوليتيكية لأنّ المستهدف هو أمل الأمة في الخلاص، لأنّ اليأس لا يصنع التحرر ولا السيادة ولا النهضة.. اليأس يعني القابلية للاستعمار..التفاؤل يعني المقاومة.. هي ليس مهدية العنف أو الإرهاب، ولكنها تعني الخلاص مقابل الاستعباد، التنمية مقابل الفقر، العلم مقابل الجهل، العدل مقابل الظلم، السلام مقابل الحروب..هم غير مؤمنين بمدى صحّة هذا الاعتقاد ولكنهم مؤمنون بلا حدود بمدى آثاره الإيجابية على وجدان أصحابها..الذين يمارسون فعل المقاومة بشاعرية هم وحدهم المتعلقون بتفاؤلية الخلاص المتوقّع..ستدفع الإمبريالية والرجعية بهذا الجدل إلى العالمية، وستجعله حديث الكرملين والبيت الأبيض والأمم المتحدة وجامعة الدول العربية، أي: العدو الذي وجب اختلاقه لاستمرار معادلة الصراع بين الشرق والغرب..الغاية بعد فشل مخطط الحرب الطائفية بين السنة والشيعة، هناك مخطط قادم لخلق حرب بين الشيعة أنفسهم لنقل الحرب إلى مجالهم كما صرّح البعض، هذه الحرب تستهدف ضرب مرجعياتهم وتماسكهم التّاريخي ونشر الحيرة في ربوعهم..مخطط جديد سترصد له مخصّصات مالية ضخمة وأمّا حنوده فهم سيبعثون من تحت رماد التهميش الموضوعي بترياق المال السياسي الوهّابي الذي سيعمل على اختراق مراكز الشيعة..هذه حرب قذرة بالغة الخطورة والخبث والتمكين..
إنّ الموجاة الفكرية والعقائدية التي ترمي إلى استهلاك طاقة الأمّة في سطوح الفكر وسطحية الموقف هي ضرب من الاستنزاف الذي يولد الحيرة والاستقالة، وهو مشروع سياسي سيتمكّن إقليميا ودوليا. غير أنّه سيكون مشروعا فاشلا، لأسباب ليس من المصلحة ذكرها الآن.

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


ادريس هاني
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2017/05/14



كتابة تعليق لموضوع : المهدوية أو الحرب العقائدية القادمة
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net