صفحة الكاتب : احمد ختاوي

هيروشيما في متحف اللوفر
احمد ختاوي
امتلأ الجو رعبا .. قاذفات الروكيت تطحن الحي العتيق ، القابع على قارعة الطريق كطفل شحاذ فقد أبويه في لحظة مزمنة ..مسح محمود عبرات ظلت عالقة بخده المبتل بالصقيع الشتوي.. أدار رأسه نحو أنقاض ولدت منذ أسبوع ، بوضع آلي مرغوب فيه .. كانت أطلالا منذ سنة فقط .
أخرج سيجارة نصفها مبلل ..لفظ آخر نفسٍ بها ..رماها في بركة تكوّنتْ منذ يوم فقط ..بل منذ ساعات معدودة ..تأمل الكون لحظة ، حاوره دهرا ..خطر بباله :
قال الحائط واش أنا غير الفأر يثقبني
قال الفأر واش أنا غير القط يغلبني .
قال القط واش أنا ،غير الكلب يغلبني
قال الكلب واش أنا غير العصا تطردني .
قالت العصا واش أنا غير النار تحرقني .
قالت النار واش أنا غير الماء يطفئني ..
..قال الماء واش أنا غير الجمل يشربني 
قال الجمل واش أنا غير ( المدية) تذبحني 
قالت ( المدية) واش أنا غير الحداد يصهرني ..
قال الحداد واش أنا غير الموت تأخذني (1).
الكون لحظة انفعال سيكولوجي صرف ، هكذا حدّث محمود نفسه وهو يقترب من دورية للعدو كانت تعبر إحدى الأزقة المترعة بالأتربة الصالحة للزراعة والوجود.. تقدّم نحوها بخطى ثقيلة ، كأن الأرض الطيبة تجذب بمغناطسها ذي الحرارة المتأججة بين الحب وا واللاحب ..بين الإرتباط واللارتباط .
الشمس توشك أن تغرب .
تعثّر بإحدى البرك الصغيرة .. تحوّلَ إلى شجرة مثمرة .. غمس رجليه في بركة أخرى ..أضحى برتقالا نصفه طازج .. ونصفه الآخر مرٌٌّ ..إحتار كثيرا ، أيكون –طوعا- جينرالا) وجوديا- أم كراهية – سمكة برمائية .
سأل أطفال الحي العتيق ؟؟؟ ..نفوا معرفتهم مثل هذه الخرافات الحياتية .
واحدهم :
- إسأل نياق امريء القيس .. المهلهل المضربة عن الشرب تخبرك سرد الوجود الأبدي ..
- - لم أملك ناقة في فصل الصيف ولا الشتاء حتى أسألها ..،ولهذا يبدو لي أن تدخّلك غير مجد في الوقت الراهن ، مادامت الأخبار الواردة من المدن القريبة تقول أن جابر بن حيان أخطأ في رسم بعض معادلاته الجبرية ، وأن أغلب العرب بيعت أمتعتهم ليحصلوا على جواز سفر أخضر يؤهلهم للحج مرتين في الموسم .
- اسمح ،إسمح لي أيها الولد البار . ليست كل المحطات والفنادق متشابهة في العالم ..إسمح لي إن قلت:ساعة هارون الرشيد المهداة لشارلومان معطّلة .. تتأخر عن التوقيت العالمي بنحو خمسة عشر قرنا ..
- اسمح لي إن قلت :
- بيوتنا القصديرية أصبحتْ منذ اليوم أبنية وسطوحا عصرية .. مادامت ساعة العرب معطلة.
- كل المدن تُقرع أجراسها ..تعلن ميلاد ليالي الفرح المنتظر .. ناطحات السحاب في الأفق الخلفي لناطحات الضباب عبر مشارف المدن العربية تقيم المآتم على غراب إفترسه غراب في واضحة النهار..
- الناس جيّاع بدون استثناء .
- حتى محمود الذي يملك مملكة كلها بساتين .. وحقول ونخيل .. تسقيها روافد الجوع المزمن الذي أصاب أغلبية العجزة في متاهات السرو والأرز..
- -إلهي.. ما لها أغصاني تذبُل وقد سقيتها منذ لحظة فقط... أم أن الأتربة لم تُحرث منذ حرب البسوس ،أم أن ناقة البسوس داهمتْ حقولي ..فجفّّتْ ينابيعها ..ربما هذا بسبب إصابتي أنا كذلك بالجوع المزمن ..الفتّاك .قال محمود هذه الكلمات بصوت ممزوج بالحشرجة والبحة ..سكتَ ، ثم انتفض على كل قاله ..
- من الأول إلى ما بعد الأخير ...
- وواصل سيره ممتشقا سيفه الأبدي المسلول ؟؟؟
- - كم طردا وصلني إلى حد الساعة منذ نشأة عصبة الأمم المتحدة ؟
- - كم رسالة تلقّيتُ من الدول العربية منذ تأسيس لجنة حقوق الإنسان ؟.
- - كم قميصا ارتديتُ منذ سافرتُ يوما ما ..إلى نيويورك لأزور مبنى الأمم المتحدة العظيم ...ولأُطل على نهر ( المسيسيبي )( المتدفق) بالمياه التي تمنيتُ أن أسقي بها حقولي...وقد أصابها الظمأ منذ فيضان النيل آخر مرة في التاريخ ؟
- -كم مفتاحا أضعتًٌ منذ الحروب الصليبية،لأفتح مدنا عربية لما تُفتح ؟؟.
- كم عدد أزقة هذا العالم الموحش ، وكم عدد الرحلات في اليوم بالجو على متن الخطوط الجوية العربية المتحدة ...هذا ما أدركتهُ وغاب عني..منذ انبعاثي (في) المرة الألف ..؟؟؟؟
- - إرفعوا سياطكم أيها الجلادون .. هذه أختي ...وهذا أخي ..وابن أختي وابن عمي..وليس( ...) كما تدّعون .. ارفعوا سياطكم أيها الخونة وإلاّ أخبرتُ أمي ..
- -من تكون ؟
- -محمود.
- - آه .. إنك تذكرنا بحادثة أبرهة .. والفيل محمود ..ألستَ أنت الفيل الملقب بمحمود ؟ 
- - أبدا ذاك زمان .. وهذا زمان ..
- -إذن من تكون ؟ 
- - خبز ملفوف في قضية .
- كفانا تفلسفا ..ليس هذا وقت المزاح 
- قلتُ لكم دعوا هؤلاء ..
- رئيس الجلادين في صوت آمر :
- -خذوه إلى لزنزانة وأجلدوه أربعين جلدة ،ليكون عبرة لمن يعتبر.
- يسير محمود والحرس وسط دهاليز لا قرار لها ،بصعوبة يفتك سيجارة من جيبه ، ثم يطلب من العسكري إشعالها ،يرفض ْ..يلح محمود . يسمح له بذلك ..ينفثها ..يرميها. يلتقطها العسكري خوفا من أن تشعل النار بالدهاليز ، أو تبعث بصيصا من نور فتكتشفها القوات المرابطة خلف القبو .
- دار بينهما الحوار التالي:
- - أنت عدوي،كيف تعرف ذلك ؟
- - بشرتك تشبه بشرتي تماما.. غير أن تطلّعاتك للمستقبل تختلف ..
- -ما دام الأمر كذلك ، كيف تميز بيني وبينك أمام حشد من المخلوقات ؟
- - شواربك – يا محمود- أقصر من شواربي – وشواربي أقصر من شواربك ..
- - إذا طلبت ُمنك أن تطلق سراحي ،هل تفعل ؟. يحنى العسكري رأسه.
- -أجل ،لكن شرط أن تفتك هذا اللغز: باخرة محمّلة بالماء ، هل تساوي في حمولتها وثقلها باخرة مماثلة محمّلة بالبترول . محمود دون أن يفكّر مليا.
- -لا ، باخرة الماء أثقل ،، في مفهوم الزمن الراهن ..
- - مع الأسف ..لا أستطيع فك قيودك، لأنك لم تتوصل إلى الحل الصحيح .
- - وما هي الإجابة الصحيحة ؟
- - الباخرتان من صنع يد واحدة ، ولهذا تستويان في الوزن والحمولة .
- جلسا بعد التعب الذي أصابهما..أغمض محمود عينيه ،بينما ظل العسكري يراقبه ..رأى محمود في المنام أنه يذبح شعبا بكامله . فزع لهول ما شهد ( انفكتْ) قيوده ..تظاهر بأنه مقيّد. نام العسكري..تسلل مختفيا إلى أن ابتعد عنه .. دلف غرفة مظلمة دون أن يأبه الحراس .. قبع في إحدى زواياها ..غادر المكان في همس متناه .
- قال : الدنيا لا تخلو من حراس.
- حقوله الظمأى يسقيها رجل عجوز..وقف أمامه وسأله من يكون ؟ .
- -حارسك يوم هربت َ.
- - لكن شواربك أقصر من الرجل الذي كان يحرسني .ضحك وقال : 
- -ألم أقل لك بأن شواربك أقصر من شواربي ..وشواربي أقصر من شواربك ؟ .
- - وماذا تفعل هنا ؟
- --أسقي نخيلك ونخيلي بالمناوبة.
- - لم أفهم .
- - كنت أحرسك –طوعا- وكنت أحرسك –كراهية .
- -لم أفهم كذلك ما تقول ؟ظ 
- -فترة حراستي كانت ( مناوبة ) وفترة سقيي للنخيل كانت كذلك ( مناوبة) ، فأنت وأنا واحد .. فقط تختلف تطلّعاتنا إلى المستقبل ..ألم نتفق على هذا ؟.
- - آه ..الآن فهمتُ ، قل لي بربك ، كم الساعة الآن ؟
- - خمسة عشر قرنا للوراء .
- - كم عمرك ؟ 
- - خمسون عاما 
- - ما هي وظيفتك ؟ 
- - مناوب في المقاولة العامة لبناء التاريخ العربي .
- - كم تتقاضى في الشهر ؟ 
- - قل في الدهر .
- يردد محمود دون أن يناقش
- - كم في الدهر ؟
- - وجودٌ بأكمله ، وبانهياره ،إذا مرض محاسب الرواتب ، أو تعطّل الكومبيتر ...ويسأل العسكري الذي تحوّل شيخ محمودا ؟ 
- - وأنت ما هي وظيفتك ؟ 
- - محاسب متقاعد إلى إشعار لاحق .
- -لم أفهم .
- - كنتُ أتقاضى مرتباتي من بعض البنوك العربية المقيمة عبر الخريطة العربية ، لكنها تلقتْ إشعارا من دول أخرى مفاده أن توقيعاتي لا تتناسب وأوراق هذه البنو ك، فجُمّدتْ رواتبي ، وأرصدتي..وأُحلت على التقاعد ..
- - ومن يغذيك ؟
- - نخلتي التي تسقيها الآن .
- - إذا عرضتُ عليك إبنتي للزواج ، هل تقبل ؟ لي إبنة إسمها (كوثر) .
- - نعم .. لك شرط أن ترحل معي إلى حيث أقيم .
- -أين تقيم؟ 
- - في كل قلب نابض.
- - ذاك هو مكان إقامتي .
- ****** ****
- تزوّج محمود( كوثر) ..أنجبا طفلا بهي الطلعة إسمه ( رعد) مات قبل أن يرى النور ، ثم حملت كوثر مرة ثانية ،فأنجبتْ طفلا إسمه ( عز) مات قبل أن يرى النور ، وحبلتْ مرة أخرى كوثر فأنجبت بنتا شقراء، عيونها واسعة كالأفق ،اسمها ( كرامة ) ماتت قبل أن ترى النور ، ثم حملت كوثر ( في )المرة العشرين، فأنجبت ْطفلا دميما، إسمه ( صقر) ن فعاش،تزوج امرأة اسمها ( سدرة ) فأنجبا حلما ونخيلا وبرتقالا ،إلى أن وافتهما المنية في الشهور المتلاحقة من جانفي إلى ديسمبر ،مرورا بجوان (حزيران) وكل الأشهر .رحمهما الله واسكنهما فسيح جنانه وألهم ذويهما الصبر والسلوان ، إنه مجيب الدعوات . تعثّر محمود العجوز، وهو يعبر الطريق العام المودي إلى حقول النفط الملغومة ، يوزع النصائح والحكم بالمجان على الأطفال .قال :
- هيروشيما ، حبيبتي .. لا تجزعي ..
- فإن الذي بيني وبينك لا ينتهي ..
- لا تيأسي..هيروشيما ..ما زلتُ أستطيب رائحة الدخان ..
- هيروشيما ..كل البائسين معي..يستنشقون رائحتك الطيبة.
- ينثرونها على مقاعد المفاوضات في ( لوزان ) 
- غبارا لا ينتهي .
- ( لوزان) عشقها المطر ، طلقها المطر ..
- هذه هي حكايتي إليك .. هيروشيما ..
- إنها ليست سرا .. وليستْ غير الذي بيني وبينك .
- هيروشيما .. يا تحفة في متحف اللوفر ..
- فأين غرناطة .. وفيل أبرهة الحبشي ؟.
وتبدّد الحلم .. كسا الجو ..فامتلأ ذعرا .. وراح محمود يردد من جديد : قال الحداد واش أنا ..غير الفأر يثقبني )) .سقط ..اندلعت النيران في حقول البترول ..مات محمود من الفزع .
اهتز سريره ..
كانت الساعة تشير إلى السابعة صباحا عندما قرعت أمه الباب بلطف لتقول له :
حان وقت الدراسة يا ولدي الصغير .
.======
هامش / 
1) -1)لعبة صبيانية من التراث الشعبي الجزائري ، كنا
2) نرددها ونحن صغار ، لا نعرف معناها .

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


احمد ختاوي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2011/09/14



كتابة تعليق لموضوع : هيروشيما في متحف اللوفر
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net