تعد الطقوس والشعائر الجماعية بمختلف أنواعها مكونا أساسيا من مكونات الهوية الحضارية لأي شعب من شعوب الأرض ، فليس من المبالغة القول : إنه لا يوجد شعب دون أن يختزن في ذاكرته الجمعية طقوسا يعتد بها ويمارسها بأوقات محددة وكيفيات مختلفة , بما فيها الشعوب المتحضرة على الرغم من أن تلك الشعوب قد استعاضت عن كثير من طقوسها بممارسات طقسية جديدة تتمثل في الألعاب المختلفة والمسابقات المنوعة ، وحفلات الرقص مع الإشارة إلى أن ّ بعض تلك الطقوس ما زالت تحافظ على صورها القديمة ، كحمل الشعلة الاولمبية ، مثلا .
فالصينيون يحجون لمعبد لهم في أعالي الجبال زحفا على أيديهم دون أن يبدو عليهم شيء من الملل أو التعب ، وللماليزيين احتفال كبير يركضون فيه لمسافات طويلة في الطين والأوحال .
ويمكن أن نعزو المشاركة الجمعية الفعالة في تلك الطقوس ــ لا سيما الطقوس الدينية ــ إلى حاجة الانسان لعدة متطلبات نفسية تتمثل في : الحاجة إلى الاندماج في المجتمع , والتكفير عن الذنب , والبحث عن الخلاص الآخروي .
ومن يتأمل المشهد الديني في العراق هذه الأيام لا يخامره الشك في أن ما يقام في عدد من مدنه ـ خاصة كربلاء ــ من طقوس ربما لا يشبه أي مهرجان أو تجمع في العالم بأسره , من ناحية عدد المشاركين , ومن ناحية درجة اعتقادهم بما يقومون به .
ويمكن أن يعزى ذلك إلى سببين إثنين : الأول ذاتي يتمثل في الرغبة بالخلاص من الآثام والذنوب ، والرغبة في آخرة سليمة , فهي من هذه الناحية طقوس الاستجابة لنداء الروح بالخلاص ((فقد ارتبطت ثورة الإمام الحسين بالألم ، وارتبط الألم بالأمل في الخلاص )) على رأي ابراهيم الحيدري , فالشعور بالتقصير شعور ملازم للإنسان بصورة عامة , ثم إن الالتزام الحرفي بالدين والأخلاق والاستجابة لمتطلبات الضمير الأخلاقي يتطلب من الانسان مالا قدرة له به ، فالإنسان بطبيعته ميال إلى الراحة والكسل والتمرد ، مما يسبب له شعورا بالتقصير الدائم ازاء الله والمجتمع وقد يترتب على هذا الشعور بالتقصير أمور كثيرة من أهمها الحاجة إلى التكفير عن ذلك التقصير , ولا يتم ذلك التكفير إلا بالتقرب لله بإحدى الوسائط المحببة لديه , وليس هناك من وسيلة أقرب إلى الله من الحسين الذي أعطى الله كل شيء فأعطاه الله كل شيء , وأهم ما اعطاه الشفاعة , فالتقرب من الحسين يعني القرب من الله , والقرب من الحسين لا يكون إلا بالمواساة , وتحمل جزء مما تحمله الإمام يوم عاشوراء , لذلك يسلك المؤمن طرقا عدة من أجل ذلك تتمثل بالتضحيات الجسدية مثل : (المشي ، واللطم ، والبكاء ، والتطبير ، وضرب الرؤوس ، والزحف ، وإيذاء الجسد بأية طريقة أخرى ) وتضحيات أخرى غير جسدية , مثل : ( الكرم بصرف الأموال بالنذور وتوزيع المساعدات المالية والطبخ وغيرها ).
والسبب الآخر موضوعي ، يتمثل في نقاء الثورة الحسينية وخلوها من الشوائب الإنسانية وبعدها عن الأطماع الشخصية في السلطة أو الرغبة في الجاه . . .
مما تقدم نجد أن ظاهرة الطقوس الحسينية اتسع مداها ليمتزج فيها واعزان : الواعز الإجتماعي مع الواعز الديني , إذ أن كثيرا ممن يؤدي هذه الطقوس , إنما يؤديها بوصفه فردا منظما في نسق اجتماعي , لا بد له أن يلبي متطلبات هذا النسق بالتقليد على رأي تارد, مع وجود اعتقاد راسخ غير قابل للجدل أن هذه الممارسات كفيلة بالخلاص الآخروي .
لذلك فقد ينفصل أحيانا الجانب الديني عن الممارسة الطقوسية , إذ تمارس الطقوس أحيانا دون أن يرافقها القيام بالواجب الديني الأصلي , فقد وجد افراد عديدون يقومون بهذه الطقوس دون أن يلتزموا بأساسيات الدين , مثل : الصلاة , وكأن لسان حال كل منهم يقول : أنا لست بمؤمن لكنني حسيني .
من هنا يمكن أن نفهم كيف أصبحت ممارسة الطقس الحسيني فعلا جمعيا يشترك فيه الكل , فلا غرابة أن نرى المسلم السني , بل غير المسلم أيضا مشاركا في إقامة هذه الشعائر . ومن جانب آخر فإن الشعيرة الحسينية تجاوزت حدود المستويات الثقافية لتكون عاملا مشتركا بين طبقات المجتمع العراقي جميعا ؛ الفلاح البسيط واستاذ الجامعة , فقد تحول الحسين (ع) إلى مثابة مقصودة من لدن الجميع ، المتدين وغير المتدين ، الملحد والمؤمن ، المثقف وغير المثقف , فهو قدوة صالحة للجميع ، إنه كحجر الماس ؛ كل وجه من وجوهه يمثل حقيقته الكاملة وكل فرد من هؤلاء يقرأ الحسين بحسب منظومته المعرفية ؛ وخزينه الثقافي ؛ يقرأه بوصفه علامة مؤثرة في حياته .
لكن يمكن القول أن الفرق بين الشيعي وغيره في هذا الموضوع يتمثل في إن الأول وجد في الحسين قدوة لا ينضب معينها ، ثم أنه يمثل المعادل الموضوعي للجنة فهو هدف دنيوي ، وديني في وقت ذاته .
أما عند غير الشيعي فليس هناك من واسطة بينه وبين الله بهذا الثقل , وهذه الأهمية , بل قد تكون طريقة التفكير بهذه الشكل غير موجودة أصلا عند غير المسلم , باستثناء النصارى الذين يعتقدون بأن المسيح سوف يكون مخلصا , لكنه لا يتطلب طقوسا لمهمته هذه .
ثم أن مفهوم القدوة التاريخية يكاد ينعدم في أغلب المجتمعات البشرية باستثناء مجتمع الشيعة الذين يرون في الحسين قدوة لا تضاهيها قدوة , أما عند غيرهم فقد حل محل القدوة التاريخي مفهوم القدوة المعاصر , فلا رجال الكنيسة ، ولا العلماء ولا غيرهم استطاعوا أن يأسروا الناس بسحر شخصياتهم كما يفعل الرمز الحسيني ، لذلك لجأ الانسان الغربي ، أو الانسان غير الشيعي إلى البحث عن القدوة المعاصرة ؛ شغل نفسه في البحث عنها بين لاعبي كرة القدم ونجوم هوليود , والمطربين , والشخصيات السياسية ، مما جعل الطابع العام للشباب هناك طابعا لا يتسم بالراحة والاستقرار النفسيين بسبب حركة التغيير السريعة في مفاهيم العالم المعاصر , وتقلب قدواتهم وإنسحاقهم بعجلة الزمن بحسب هذا التسارع في تغير المفاهيم على الضد تماما مما نجده في شخص الحسين الذي يتسم بالنمو والثراء الرمزي
|