الشعائر الحسينية من منظور علم الدلالة الاجتماعي
د . علي حسين يوسف
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
د . علي حسين يوسف
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
تعد الطقوس والشعائر الجماعية بمختلف أنواعها مكونا أساسيا من مكونات الهوية الحضارية لأي شعب من شعوب الأرض ، فليس من المبالغة القول : إنه لا يوجد شعب دون أن يختزن في ذاكرته الجمعية طقوسا يعتد بها ويمارسها بأوقات محددة وكيفيات مختلفة , بما فيها الشعوب المتحضرة على الرغم من أن تلك الشعوب قد استعاضت عن كثير من طقوسها بممارسات طقسية جديدة تتمثل في الألعاب المختلفة والمسابقات المنوعة ، وحفلات الرقص مع الإشارة إلى أن ّ بعض تلك الطقوس ما زالت تحافظ على صورها القديمة ، كحمل الشعلة الاولمبية ، مثلا .
فالصينيون يحجون لمعبد لهم في أعالي الجبال زحفا على أيديهم دون أن يبدو عليهم شيء من الملل أو التعب ، وللماليزيين احتفال كبير يركضون فيه لمسافات طويلة في الطين والأوحال .
ويمكن أن نعزو المشاركة الجمعية الفعالة في تلك الطقوس ــ لا سيما الطقوس الدينية ــ إلى حاجة الانسان لعدة متطلبات نفسية تتمثل في : الحاجة إلى الاندماج في المجتمع , والتكفير عن الذنب , والبحث عن الخلاص الآخروي .
ومن يتأمل المشهد الديني في العراق هذه الأيام لا يخامره الشك في أن ما يقام في عدد من مدنه ـ خاصة كربلاء ــ من طقوس ربما لا يشبه أي مهرجان أو تجمع في العالم بأسره , من ناحية عدد المشاركين , ومن ناحية درجة اعتقادهم بما يقومون به .
ويمكن أن يعزى ذلك إلى سببين إثنين : الأول ذاتي يتمثل في الرغبة بالخلاص من الآثام والذنوب ، والرغبة في آخرة سليمة , فهي من هذه الناحية طقوس الاستجابة لنداء الروح بالخلاص ((فقد ارتبطت ثورة الإمام الحسين بالألم ، وارتبط الألم بالأمل في الخلاص )) على رأي ابراهيم الحيدري , فالشعور بالتقصير شعور ملازم للإنسان بصورة عامة , ثم إن الالتزام الحرفي بالدين والأخلاق والاستجابة لمتطلبات الضمير الأخلاقي يتطلب من الانسان مالا قدرة له به ، فالإنسان بطبيعته ميال إلى الراحة والكسل والتمرد ، مما يسبب له شعورا بالتقصير الدائم ازاء الله والمجتمع وقد يترتب على هذا الشعور بالتقصير أمور كثيرة من أهمها الحاجة إلى التكفير عن ذلك التقصير , ولا يتم ذلك التكفير إلا بالتقرب لله بإحدى الوسائط المحببة لديه , وليس هناك من وسيلة أقرب إلى الله من الحسين الذي أعطى الله كل شيء فأعطاه الله كل شيء , وأهم ما اعطاه الشفاعة , فالتقرب من الحسين يعني القرب من الله , والقرب من الحسين لا يكون إلا بالمواساة , وتحمل جزء مما تحمله الإمام يوم عاشوراء , لذلك يسلك المؤمن طرقا عدة من أجل ذلك تتمثل بالتضحيات الجسدية مثل : (المشي ، واللطم ، والبكاء ، والتطبير ، وضرب الرؤوس ، والزحف ، وإيذاء الجسد بأية طريقة أخرى ) وتضحيات أخرى غير جسدية , مثل : ( الكرم بصرف الأموال بالنذور وتوزيع المساعدات المالية والطبخ وغيرها ).
والسبب الآخر موضوعي ، يتمثل في نقاء الثورة الحسينية وخلوها من الشوائب الإنسانية وبعدها عن الأطماع الشخصية في السلطة أو الرغبة في الجاه . . .
مما تقدم نجد أن ظاهرة الطقوس الحسينية اتسع مداها ليمتزج فيها واعزان : الواعز الإجتماعي مع الواعز الديني , إذ أن كثيرا ممن يؤدي هذه الطقوس , إنما يؤديها بوصفه فردا منظما في نسق اجتماعي , لا بد له أن يلبي متطلبات هذا النسق بالتقليد على رأي تارد, مع وجود اعتقاد راسخ غير قابل للجدل أن هذه الممارسات كفيلة بالخلاص الآخروي .
لذلك فقد ينفصل أحيانا الجانب الديني عن الممارسة الطقوسية , إذ تمارس الطقوس أحيانا دون أن يرافقها القيام بالواجب الديني الأصلي , فقد وجد افراد عديدون يقومون بهذه الطقوس دون أن يلتزموا بأساسيات الدين , مثل : الصلاة , وكأن لسان حال كل منهم يقول : أنا لست بمؤمن لكنني حسيني .
من هنا يمكن أن نفهم كيف أصبحت ممارسة الطقس الحسيني فعلا جمعيا يشترك فيه الكل , فلا غرابة أن نرى المسلم السني , بل غير المسلم أيضا مشاركا في إقامة هذه الشعائر . ومن جانب آخر فإن الشعيرة الحسينية تجاوزت حدود المستويات الثقافية لتكون عاملا مشتركا بين طبقات المجتمع العراقي جميعا ؛ الفلاح البسيط واستاذ الجامعة , فقد تحول الحسين (ع) إلى مثابة مقصودة من لدن الجميع ، المتدين وغير المتدين ، الملحد والمؤمن ، المثقف وغير المثقف , فهو قدوة صالحة للجميع ، إنه كحجر الماس ؛ كل وجه من وجوهه يمثل حقيقته الكاملة وكل فرد من هؤلاء يقرأ الحسين بحسب منظومته المعرفية ؛ وخزينه الثقافي ؛ يقرأه بوصفه علامة مؤثرة في حياته .
لكن يمكن القول أن الفرق بين الشيعي وغيره في هذا الموضوع يتمثل في إن الأول وجد في الحسين قدوة لا ينضب معينها ، ثم أنه يمثل المعادل الموضوعي للجنة فهو هدف دنيوي ، وديني في وقت ذاته .
أما عند غير الشيعي فليس هناك من واسطة بينه وبين الله بهذا الثقل , وهذه الأهمية , بل قد تكون طريقة التفكير بهذه الشكل غير موجودة أصلا عند غير المسلم , باستثناء النصارى الذين يعتقدون بأن المسيح سوف يكون مخلصا , لكنه لا يتطلب طقوسا لمهمته هذه .
ثم أن مفهوم القدوة التاريخية يكاد ينعدم في أغلب المجتمعات البشرية باستثناء مجتمع الشيعة الذين يرون في الحسين قدوة لا تضاهيها قدوة , أما عند غيرهم فقد حل محل القدوة التاريخي مفهوم القدوة المعاصر , فلا رجال الكنيسة ، ولا العلماء ولا غيرهم استطاعوا أن يأسروا الناس بسحر شخصياتهم كما يفعل الرمز الحسيني ، لذلك لجأ الانسان الغربي ، أو الانسان غير الشيعي إلى البحث عن القدوة المعاصرة ؛ شغل نفسه في البحث عنها بين لاعبي كرة القدم ونجوم هوليود , والمطربين , والشخصيات السياسية ، مما جعل الطابع العام للشباب هناك طابعا لا يتسم بالراحة والاستقرار النفسيين بسبب حركة التغيير السريعة في مفاهيم العالم المعاصر , وتقلب قدواتهم وإنسحاقهم بعجلة الزمن بحسب هذا التسارع في تغير المفاهيم على الضد تماما مما نجده في شخص الحسين الذي يتسم بالنمو والثراء الرمزي
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat