كثيرة هي القيّم الإنسانية ومزايا الأخلاق في الإسلام، لا بل إن الإسلام هو دين الأخلاق السامية "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" ذلك أن العقيدة والإيمان مكانهما القلب ولا يراهما الناس إنّما يرون الأخلاق ومن خلالها يُعرف مَن كان له دين ومَن هو في ضلال مبين. حسن اخلاق المسلم هو العامل الأهم في التعامل مع الآخرين، فَبِهِا تأثر الكثيرون فإعتنقوا الإسلام تلقائيا. والقصص والأخبار في ذلك لا تعد ولا تحصى. بعث أحد المعلمين رسالة إلى صديقي يسجل اعجابه بكريم اخلاق أولاده وقد جاء في الرسالة: " لو تعرفت إلى أولاد مثل هؤلاء الأولاد لأعتنقت الإسلام منذ زمن". سألت أحد الأولاد: كيف كنتم تتعاملون مع المعلم الفلاني؟ قال: طبيعي جدا كأي مسلم له في رسول الله قدوة حسنة. قلت: زدني يا بني؟ قال: كنت أوقّره في الصف لأنه أستاذي وأكبر مني سنا، لا أتحدث معه بصوت مرتفع، إذا أردنا الخروج من الصف أقدمه ولا أخرج قبله واناديه دوما بـ (سيدي)، إذا صادف والتقينا في المطعم فلا أتناول الطعام قبله كما أني لا أغادر مكاني قبله، لم أتحدث معه يوما عن ديني فقد كان يرى جمال الدين وكماله وحسنه ورقيه من خلال المعاملة والأخلاق وشتّان بين القول والعمل، ويواصل ذلك الولد المشرق بنور الإيمان: كنت أبتدأ الطعام بـ (بسم الله) وحينما أنتهي (الحمد لله والشكر له). سألني أستاذي يوما: لماذا تشكر الله حينما تنتهي من الطعام؟ قلت له: أرأيتك يا سيدي حينما تتفضل عليّ وتعلمني علما ألا تستحق أن اشكرك على تعليمك إيّاي؟ قال: أجل. قلت: العجب العجاب أذن يا سيدي هو أن لا نشكر المنعم المفضل! أشكر الله الذي وهب لي السمع لأسمعك والبصر لأراك واللسان لأتحدث به معك واليد التي أكتب بها والرجل التي احضر بها إلى المدرسة والعقل الذي أفكر به ومن ثم أطعمني وسقاني فأشبعني ورواني ولما يجنّ الليل يتفضل عليّ بالنوم فهو الذي يرقدني في مهاد أمنه وأمانه ثم يتقضل عليّ أخرى فيوقظني بمنِّهِ وإحسانهِ من مرقدي ولو شاء لجعله سرمدا الى يوم يبعثون، يأ استاذي المحترم كيف لا أشكر الخالق وأنا أسبح في بحر رحمته الواسعة وانتقل من نعمة الى نعمة فلا أدري كم من الشكر تستحق هذه النعمة وان شكري على النعمة هو نعمة أخرى وان هذه النعمة الواحدة تشتمل على الكثير من النعم، وأمامنا زين العابدين يقول:" إلهي كلّما قلتُ لك الشكر وجبَ عليّ لذلك أن أقول لكَ الشكر". والحق سبحانه وتعالى يقول: "وَإِن تَعدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ". فحتى مع التقصير في أداء حق الله المنعم الحنّان المنّان بالعطيات فإنه يسامحنا على تقصيرنا فهو غفور رحيم، مسامحته على تقصيرنا هي نعمة أخرى من النِعم التي قد لا يلتفت إليها البعض. صديق آخر حدثني: عندما كنت طالب دكتوراه كان أستاذي المشرف على بحثي لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخِر، لكني كنت اوقّره وأحترمه فقد كان عالما في ذلك الإختصاص ويحترمني كثيرا مع علمه بتديني. ذات يوم سألني: ما دينك يا فلان؟ قلت: الإسلام. قال: وكيف أصبحُ مسلما؟ قلت: بنطق الشهادتين: أشهد أن لا إله إلاّ الله وأشهدُ أن محمداً رسولُ الله، فقال لي الأستاذ: أنا أريد أن أعتنق الإسلام فنطق الشاهدتين وأسلم. السبب هو الأخلاق الكريمة الحسنة لصديقي المحترم طالب الدكتوراه حينها فقد كان يحترم أستاذه مع علمه بأنه لا يؤمن بالخالق السبحان وكان يوقّره ولا يتأخر عن المواعيد وإذا حدّث صدق وإذا أوتمن وفى وصان الامانة وكان مجدا في البحث والدراسة وبعيدا عن التكبر والغرور.
حثّ الحبيب المصطفى ص والأنبياء والرُسُل عليهم السلام من قبله والأئمة الأطهار صلوات الله عليهم من بعده على التمسك بالقيّم والأخلاق الرفيعة الحسنة والتزين بها والسعي لنشرها والدعوة إليها، كالصدق والأمانة ومداراة الناس وتحمّل أذاهم ومسامحتهم وتوقير كبار السن وخدمتهم والتصدق على الفقراء دون منٍّ أو أذى ومساعدة المحتاجين دون رياء وسمعة ومساعدة الزوجة وعدم ارهاقها بإعداد الموائد الفرعونية مما يسبب لها داء الدوالي وآلام الظهر والرقبة، وتهرم وهي في بيت النار وبين يديها كتاب فنون الطبخ، بدل أن تكبر وهي تتألق بالوقوف بين يديّ المولى الكبير المتعال وبين يديها كتاب فنون الدعوات وتتزود ليومِ تشخص فيه القلوب والأبصار فإن خير الزاد التقوى وليس خير الزاد تحضير ما لذَّ وطاب من طعامِ وشراب ( القصد أن لا تقضي الزوجة يومها في المطبخ لتصبح فيما بعد جزء لا يتجزأ منه )، وكذلك عدم إرهاق الزوج وتكليفه فوق ما آتاه الله ومنحه أياه وخصه به من الرزق الحلال، عليها أن تعينه على امر دينه ودنياه وتصبر وتصابر وتقنع بقليل اليوم لتنال كثير الغد"إنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ". وغيرها الكثير من مفردات المنظومة الأخلاقية في الإسلام، لكن درّة تاج تلك القيّم وأصل تلك الأخلاق الكريمة هو خلق الرحمة وبقية القيّم والأخلاق الحسنة هي أغصان تتفرع من شجرة الرحمة، فكأنّ الرحمة هي الكلّ وهي الميزان وبقية القيّم هي أجزاء لهذا الكلّ، وبتعبير العلماء: " الرحمة تَسَعُ كلّ الخُلق". ومن نافلة القول ان الرحمة بين الخلائق هي جزء صغير من رحمة الله الواسعة. عن رسول الله ص: " جعلَ اللهُ الرحمة مائة جُزء فَاَمسكَ عندهُ تسعةً وتسعينَ وأنزلَ في الأرضِ جُزءًا واحدًا فمن ذلك الجزء تتراحمُ الخلائق حتى ترفعُ الدابةُ حافرها عن ولدها خَشيَةَ أن تصيبه". وعنه ص: "إنَّ اللهَ كتبَ كِتاباً قبل أن يخلق الخلق: إنَّ رحمتي سبقت غضبي، فهو مكتوبٌ عندهُ فوقَ العَرش". وقال الله سبحانه: "كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ".
"وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ"..
فرحمته تعالى واسعة شاملة، ففي الدنيا تشمل عموم الخلق الصالح منهم والطالح، الفقير منهم والغنيّ، السيد فيهم والعبد، الأسود والأبيض فلا ألوان مائزة ولا أشكال محببة فالكل مشمول برحمة الرحمان الرحيم عز وجل في هذه الدنيا وليس لأحد أن يدعي القرابة مع الحق سبحانه ( فالخلق كلهم عياله ) "فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ". ومن رحمته الواسعة أنه تعالى يرزقهم جميعا لأنه ربهم وخالقهم وسيدهم، والعاصي منهم ينال جزاء سوء عمله يوم الجزاء "كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ ۚ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا". فأهل الطاعة واهل المعصية، أهل الدنيا وأهل الآخرة يمدهم الله من كريم رزقه برحمته ومنّه. فالمؤمن والعاصي يطعمه الله ويسقيه ولا يمنع عنه الهواء ويشفيه اذا مرض ويغنيه ان احسن الأسباب واخلص العمل. سبحان الله! سبحان الله! وأنا أكتب هذه الكلمات خطر ببالي: كيف لا يلتفت العاصي لنعم الله عليه ورحمته به وحسن صنيعه إيّاه فيراجع نفسه ويحاسبها ثم يرجع الى خالقه ومولاه المتفضل عليه بالنعم والعطايا فيقف بين يديه ذليلا خاشعا منكسرا تائبا راجيا خائفا طالبا فكاك رقبته من النار والعفو عمّا في ربقته!!!
"وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا". عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: "لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الإستغفار". المسألة تحتاج إلى التوفيقات ومن التوفيقات الإستغفار والتوبة النصوح وان نحاسب أنفسنا وننهاها عن الغي والمعصية وان لا نقنط من رحمة الله وعفوه ومغفرته. "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ". الإستغفار عامل محفز للرجوع الى الله تعالى لما فيه من مراجعة للذنوب والمعاصي والشعور بالندم والتقصير، والعزم على عدم تكرار الإجتراء على الله مستقبلا، ولا يكتفي بعدم تكرار السيئات وانما يعمل على كسب المزيد من الحسنات ومضاعفتها يوما بعد آخر"وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ ۚ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ۚ ذَٰلِكَ ذِكْرَىٰ لِلذَّاكِرِينَ".
لقد منَّ الله على العالمين أن أرسل رسوله ص رحمة لهم جميعا." وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ" فلقد ارسله الله تعالى رحمة وليس راحما للعالمين، وكما لا يخفى على جناب القاريء الكريم أن الإتيان والتعبير بالمصدر في اللغة العربية يفيد الإستمرار والتجدد أي مطلق حدوث الرحمة كما يسميه العلماء. فنبيُّ الإسلام هو نبيُّ الرحمةِ وإمامها، فمن أرحم منه على أمته بل من ارحم منه على الناس جميعا بل من ارحم منه على مبغضيه ومكذبي رسالته الذين كانوا يتهمونه بالجنون والسحر والكذب. قلت لأحد الأخوة: لِمَ تحبُ فلانا وهو يبغضك؟ قال: أنْ يبغضني فذلك شأنه، وأنْ أحبه فذلك ديني.
مَنْ لا يَرحَمْ، لا يُرْحَم!
روي عن رسول الله ص أنه كان يُقَبِّلُ الحسن والحسين، فقال عُيَيْنَةُ ـ وفي رواية غيره الأقرع بن حابس ـ : أنَّ لي عَشَرَةً ما قبّلتُ واحداً مِنْهُمْ قَطُّ!
فقال ص: "مّنْ لا يَرحَمْ لا يُرحَمْ".
وفي رواية، فغضب رسول الله حتى التُمِعَ لونُهُ، وقال للرجُل: " إنْ كان اللهُ قدْ نَزَعَ الرحمةَ مِنْ قلبكَ فما أصنعُ بكَ، مَن لا يرحَمُ صغيرَنا و لم يُعَزِّزْ كبيرنا فليس منّا".
كيف يتأمل من يظلم العباد ويعثو في الأرض الفساد أن ترحمه ملائكة السماء وينصرهُ مَليكها. لقد قالها محذرا نبيّ الرحمة :"إرحم من في الأرض يرحمك من في السماء".
يا رسول الله يا أبا القاسم..
زانتك في الخُلُقِ العظيم شمائل *** يغرى بهن ويولع الكرماءُ
فإذا سخوتَ بلغتَ بالجودِ المدى *** وفعلتَ ما لا تفعل الأنواءُ
وإذا عفوتَ فقادرا ومقدرا *** لا يستهينُ بعفوك الجهلاءُ
وإذا رحِمتَ فأنتَ أمٌ وأبٌ *** هذانِ في الدنيا هُما الرُحماءُ
ما جئت بابك مادحا بل داعيا *** ومن المديح تضرعٌ ودعاءُ
أدعوكَ عن قومي الضعاف لأزمة *** في مثلها يلقى عليكَ رجاءُ
نسأل الله العافية
|