أرهفت وريثة الأحزان السمع جيداً، ليس هناك سوى همهمة خلف الباب الموصدة، وجد الخوف طريقه إلى قلبها فتسلل، طرقت الباب بكفها المرتجف ثم دخلت، استقبلها أخوها الحسين، بدا استقباله للصابرة مضطرباً، هالها ما رأت، حاولت جاهدة خنق شهقتها وابتلاع غصتها.
حاول الحسين (عليه السلام) تهدئتها لكن دون جدوى، فمنظر الطشت المشؤوم أرعد فرائصها، وكيف لا وهي تعاين بعين الأسى من رست الخليقة على اعتابه، وهو يهمّ بالرحيل ناشراً أشرعة الوداع.
وصورة رسمتها المنية على إيقاع الصمت الرهيب، فلا وقع بعد لأقدامه الشريفة بعد أن صار الى عالم الاقداس الملكوتي، فقد باتت سكك المدينة تضجّ بالوحشة والانين، وفقد الليل الساكن رفيقه المحمّل بعطاياه الخجولة.
وطرقات غابت عن أبواب بائسة تقبع خلفها افواه فارغة، وأحداق ساهرة ترقب قدوم الزائر المجهول الذي تتفجر بمقدمه ينابيع العطاء والايثار.
في مشهد أبكى المخالف قبل المؤالف في بيت الامام الحسن (عليه السلام) هناك حيث الجسد المسجّى تحيط به شموس الطف الساطعة فما بين الشمس والقمر والنجوم الهاشمية، فارقت روحه الطاهرة الدنيا، ورحلت الى بارئها راضية مرضية.
رحل المجتبى، ولم ترحل كلماته الخالدة التي شعّ صداها عبر الازمان والعصور لتبرز للأجيال عبر فرشاة البسالة ألوان كربلاء النابضة بالحق وما سطرته من ملاحم وبطولات عجزت أعظم مجلدات التاريخ تبيان مكوناتها الرسالية، حين ردّد عبارته المشهورة مواسياً أخاه الحسين (عليه السلام) عندما برقت في عينيه دمعة: لا تبكي يا أخي، فلا يوم كيومك يا أبا عبد الله.
كان مقرراً أن ينتهي الموكب الجنائزي المهيب عند قبر النبي الكريم محمد (ص) حيث نهاية الرحلة المؤلمة لريحانة المصطفى، لكن واعجباه!
فمن بطن إحدى الحجرات انطلق الوعيد، وصدح بأعلى صوته: ان لا تدفنوا في بيتي من لا أحب.
وبين نصال من بخسوا أجر صاحب الرسالة، انفصمت دعامة الجود والكرم، وعاد النعش الموشوم بأحقاد المنكرين بالسهام الخبيثة، عاد القهقري على مضض ليرقد أخيراً محتسباً فوق تلال الغرقد، ليس هذا إلا حقنا لدماء المسلمين، أيا رحمة الله الواسعة سلام عليك وألف سلام، والى الله المشتكى صبراً.. صبراً.
نكظم الغيض حتى ظهور القائم المنتقم، وسيعلم الذين ظلموا آل محمد أي منقلب ينقلبون والعاقبة للمتقين.
|